ورغم مرور أكثر من أسبوع على العملية، ما زالت روسيا تحاول القضاء على القوات المتوغلة في عمق حدودها، في حين يبدو أن القوات الأوكرانية وسعت تدريجيا الجيب الذي سيطرت عليه، حيث اعترفت موسكو بسقوط 28 قرية وبلدة، بينما قال الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي إن 74 بلدة في مقاطعة كورسك الروسية تحت سيطرة قواته في مساحة تقدر بنحو ألف كيلومتر مربع.
ووفق المحللين العسكريين، لا تبدو العملية حتى الآن مجرد توغل محدود أو استعراضي للجيش الأوكراني، وسط شكوك في قدرة الجيش الروسي على احتواء الهجوم، بل هي عملية مخططة تستهدف التمسك بالمنطقة لإحداث أكبر قدر ممكن من التأثير العسكري ثم السياسي.
واستغلت القوات الأوكرانية نقاط ضعف بنيوية وأخرى طارئة لدى الجيش الروسي، الذي يعاني من الإرباك في التصدي للعمليات العسكرية المفاجئة وفي تحصين خطوط دفاعه، وقد ظهر ذلك جليا في هذا الهجوم الذي تقدمت فيه القوات الأوكرانية لمسافة 35 كيلومترا داخل روسيا في ظرف وجيز، كما ظهر أيضا خلال تمرد قوات فاغنر بقيادة يفغيني بريغوجين، في يونيو/حزيران 2023، حين تقدمت القوات المتمردة بشكل سريع لتصل إلى حدود 200 كيلومتر من موسكو قبل إنهاء تمردها.
نقاط ضعف مزمنة
ورغم أن الجيش الروسي يعد ثاني أقوى جيش في العالم وفق “غلوبال فاير باور” ويمتلك ترسانة نووية هي الأضخم في العالم وقوة جوية هائلة، أظهرت حرب أوكرانيا عوامل قصور وضعف في إدارة العمليات البرية وفي منظومة القيادة والسيطرة.
فالتقدم البطيء الذي يحرزه الجيش الروسي على الجبهات في مواجهة القوات الأوكرانية -التي تحظى بمساعدة غربية كبيرة- كلفه أثمانا بشرية ومادية باهظة، ناجمة بالأساس عن سوء إدارة وتخطيط وفق تحليلات عسكرية.
ولا تعلن السلطات الروسية رسميا عن خسائرها، ويصعب أيضا التثبت من الخسائر الفعلية للطرفين، لكن أحدث البيانات التي نشرتها وسيلتا الإعلام الروسيتان المستقلتان، ميديازونا وميدوزا، تشير إلى أن روسيا فقدت ما بين 106 آلاف و140 ألف جندي منذ بداية العمليات في 24 فبراير/ شباط 2024 وحتى 21 يونيو/حزيران الماضي.
من جهته، يقدر الجيش الأوكراني (حسب وكالة الأنباء الرسمية) عدد القتلى في الجيش الروسي، حتى 11 أغسطس/آب، بنحو 590 ألف جندي، مع تدمير 8447 دبابة ومئات الطائرات وأنظمة الدفاع جوي، وآلاف المركبات العسكرية، وهي معطيات لا يمكن التثبت من دقتها.
وتشير وسائل إعلام روسية من جهتها إلى سقوط أكثر من 800 ألف جندي أوكراني بين قتيل وجريج. ورغم المبالغة في الأرقام من الجهتين، فإن الخسائر كانت عمليا فادحة جدا، ويعود معظمها من الجانب الروسي إلى وفق تحليل نشر في مجلة ناشونال إنترست “إلى أن الجيش الروسي غير مستعد للحرب على نطاق واسع”، رغم القوة النارية التي يتمتع بها والتفوق الجوي، وذلك بسبب مزيج من عوامل الضعف المزمنة وتلك التي ظهرت في المعارك الأخيرة، ويحددها المحللون العسكريون فيما يلي:
- -التكتيكات السيئة وغير المناسبة مع الموقف
- سوء تقدير قوة العدو وردود فعله
- وضع الخطط بشكل مستقل عن أولئك الذين سينفذونها
- النقص في كفاءة الضباط وضباط الصف وغياب القدرة على التكيف والمبادرة والارتجال
- تدني مستوى تدريب الجنود
- السيادة الجوية المحدودة أو غير الفعالة
- غياب المرونة في اتخاذ القرارات وعدم المبادرة
- سوء التنسيق بين القطعات ومختلف أنظمة الأسلحة
- تردي الخدمات اللوجستية والإمدادات (الذخيرة والمؤونة والإجلاء)
- سوء توزيع القوات وترك خطوط الدفاع عن الحدود ضعيفة
- ضعف نظام التعبئة واستدعاء الاحتياطي
- المركزية الشديدة في اتخاذ القرارات
- البطء في توفير التوجيه في الوقت المناسب للقوات في الجبهة
- نظام قيادة وسيطرة واتصالات غير مناسب للحرب الحديثة
- اعتماد تكتيكات قديمة لم تتغير منذ الحرب العالمية الثانية
- نقص الذخيرة والأسلحة المناسبة بما فيها المسيرات
- ضعف عمليات الاستخبارات والاستطلاع والرصد بشقها العسكري والمدني التي لها الدور الأكبر في منع الاختراقات والعمليات المفاجئة قبل وقوعها.
- ضعف خطوط إنتاج الذخيرة والسلاح، حيث لم يضع المخططون العسكريون في اعتبارهم طول مدة الحرب والاستنزاف الذي سيتعرض له الجيش الروسي في الموارد والذخيرة.
أوهام القوة وجذور الخلل
يشير تقرير موسع لمعهد أبحاث السياسات الخارجية بعنوان “جذور الخلل العسكري الروسي” (مارس/آذار 2023) إلى أن “الرهاب الروسي التاريخي تجاه عملية صنع القرار اللامركزية لقرون من الزمان تجلى في الافتقار إلى هيئة ضباط صف فعالة، وهيئة ضباط غير قادرة على العمل دون توجيه أعلى، ونظام عسكري يركز على تقديم وهم القدرة القتالية بدلا من التعلم من التجربة والخطأ”.
ويرى التقرير أن الجيش الروسي طبق في غزو أوكرانيا تقريبا التكتيكات والخطط العسكرية نفسها التي “انتقلت من تقاليد الجيش الإمبراطوري الروسي إلى الجيش الأحمر السوفياتي، حيث كان الالتزام بالأوامر هو الأهم على المبادرة أو حتى الفطرة السليمة”، وهي التكتيكات والخطط التي اعتمدها في غزو أفغانستان في ديسمبر/كانون الأول 1979، أو حتى قبل ذلك أثناء التدخل في تشيكوسلوفاكيا في أغسطس/آب 1968.
ويُرجع التقرير الخسائر التي مني بها الجيش الروسي -رغم تقدمه إلى تخوم كييف في بداية الحرب- إلى غياب خطة واضحة وشاملة، وخصوصا إلى فشل الضباط في إظهار الحسم والمبادرة وإنجاز المهام القتالية أثناء المعارك وعدم التكيف مع المتغيرات، وانتظار الأوامر والتوجيه من كبار القادة، والتصرف بشكل روتيني دون مراعاة طبيعة المناخ والتضاريس والموقف القتالي والتردد في المناورة بقواتهم”، وهو الخطأ الذي ارتكب في حرب أفغانستان وكلف الجيش السوفياتي غاليا.
كان الغزو الأولي لأوكرانيا -وفق التقرير الذي كتبه فيليب فاسيليفسكي مدير مركز دراسات الاستخبارات والحرب غير التقليدية التابع لمعهد أبحاث السياسة الخارجية- متسقا مع الماضي العسكري الروسي، حيث تم وضع الخطة بشكل فوقي بمعزل عمن سينفذها ميدانيا، وعندما لم تسر العمليات العسكرية وفقا للخطة، كان القادة على جميع المستويات غير قادرين على التكيف مع موقف يتحدى توقعاتهم. “وبدلاً من الارتجال، تم سحب الوحدات القريبة من كييف ونقلها إلى دونباس لتنفيذ خطة أخرى تم صياغتها من الأعلى”.
ويخلص التقرير إلى أن تلك الصعوبات المتأصلة في الجيش الروسي قوّضت ما كان من المفترض أن يحققه دون تلك الخسائر الكبيرة في أول صراع رئيسي له في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وقد أدى العجز العسكري إلى تعقيد جهوده خلال المعركة، حيث بقيت روسيا عالقة في تاريخها، في حين تبتعد أوكرانيا عنه، وفق تقييمه.
ورغم أن التقرير يحمل وجهة نظر غربية قد لا تكون محايدة، فقد صدرت أيضا انتقادات كثيرة لأداء الجيش الروسي من الداخل، خصوصا من زعيم مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين الذي اتهم كبار القادة بعدم الكفاءة وسوء التخطيط والجيش الروسي بالضعف، وطالب بإقالة وزير الدفاع آنذاك سيرغي شويغو (وكان ذلك من أسباب تمرده المعلنة)، كما صدرت أيضا تلك الانتقادات عن رمضان قديروف الموالي لروسيا والمشارك بقواته في الحرب.
وأظهرت المعارك كيف لعبت قوات فاغنر، مع ارتباك الجيش النظامي الروسي، دورا حاسما في تثبيت الجبهات، وفي العمليات الكبرى والمفصلية بحرب أوكرانيا، حيث استولت فاغنر على مدينة باخموت وواجهت أشرس المعارك، كما كان لفصيل “قوات أحمد” الشيشانية التابعة لرمضان قديروف دور مهم في العمليات الهجومية والدفاعية.
ويرى خبراء عسكريون أن إقالة رئيس الأركان سيرغي سوروفيكين في يناير/ كانون الثاني 2023 بعد نحو 3 أشهر من تولي قيادة “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا وتعيين رئيس الأركان الجنرال فاليري غيراسيموف دليلا على ضعف إدارة المعركة. كما جاءت إقالة وزير الدفاع سيرغي شويغو في 12 مايو/ أيار 2024 وتعيين الخبير الاقتصادي أندريه بيلوسوف كمحاولة لتلافي الأخطاء وأوجه القصور في الأداء العسكري خلال الحرب.
ويلحظ خبراء عسكريون أن “ثغرة كورسك”، التي سبقها وفق تقديرهم تخطيط مركّز يتجاوز قدرات الجيش الأوكراني المنهك، واستعملت فيها أسلحة غربية متقدمة وتكتيكات متطورة، ناجمة أيضا عن كل تلك الأسباب ونقاط الضعف المذكورة والقصور الواضح في خطوط الدفاع للجيش الروسي بمختلف أذرعه، وعيوب خطيرة في الاستطلاع والرصد والإنذار المبكر والاتصالات ورد الفعل السريع، وتجنب الهجمات المفاجئة وسرعة التصدي لها.
وقد ظهرت هذه العيوب سابقا في عمليات أوكرانية مفاجئة، بينها تدمير طراد موسكفا الحربي -أحد أبرز القطع الحربية الروسية-، وضرب موسكو بالطائرات المسيرة والهجمات المتكررة على جسر شبه جزيرة القرم وتدمير قاذفات إستراتيجية (تو- 22) في مطارات تبعد أكثر من 300 كيلومتر.
وكانت تلك الاختراقات -رغم إمكانية حدوثها من الناحية العسكرية- محرجة للجيش الروسي، الذي يتباهى بامتلاك أسلحة دفاعية وهجومية لا مثيل لها، من المفترض أنها معدة لحرب من عدة جبهات مع حلف الناتو. ولم تظهر تأثيرات تلك الأسلحة في الحرب، مثل دبابة أرماتا (تي-14) وطائرة “أوخنتيك” المسيرة الثقيلة، ومنظومات الدفاع الجوي (إس-400 وإس-500) وصواريخ تسيركون ومنظومة التشويش والحرب الإلكترونية عالية الأداء “كراسوخا-4″، وغيرها من الأسلحة التي ظهرت في الاستعراضات العسكرية ولم تظهر في الحرب.
الثغرة وأبعادها وتبعاتها
يحيط الغموض بالعملية العسكرية الأوكرانية داخل روسيا التي وصفها الرئيس بوتين بكونها “عملية استفزازية”، واعتبر وزير الدفاع أندريه بيلوسوف أن بلاده تحارب فيها “الغرب الجماعي في أوكرانيا”، ولم تتضح بعد غاياتها وأهدافها الإستراتيجية بالنسبة لأوكرانيا.
وتشير بعض التحليلات إلى أن العتاد العسكري الغربي المتطور ظهر في هجوم كورسك بما فيها دبابات ليوبارد الألمانية، وراجمات الصواريخ “هيمارس” الأميركية، إضافة إلى المساعدة بعمليات استطلاع جوي وصور أقمار اصطناعية، كما حظيت العملية بتفهم ودعم أميركي وأوروبي، واعتبرها الرئيس الأميركي جو بايدن “معضلة حقيقية” للرئيس بوتين.
وتكمن خطورة العملية في أنها تجاوزت الخطوط الحمر المفترضة التي وضعتها روسيا حين ربطت إمكانية الرد النووي بنقل أوكرانيا الحرب إلى الداخل الروسي بأسلحة غربية، وهو ما حصل في حالة هجوم كورسك الذي استغلت فيه أوكرانيا تركيز روسيا قواتها على خط المواجهة الرئيسي، فعبرت من الحدود التي لا تخضع لحراسة كافية.
وكانت مغامرة اختبار تلك الخطوط الحمر أو تخطيها من قبل أوكرانيا تحديا خطيرا، “وضع الرئيس فلاديمير بوتين في مأزق، إذ إن فقدان السيطرة على أجزاء من روسيا نفسها يشكل إحراجا هائلا للكرملين”، وفق تحليل ناشيونال إنترست، يتعلق أولا باستيعاب الهجوم المحرج ثم كيفية الرد عليه.
وفي حين تتضارب المعلومات بين الجانب الأوكراني الذي أكد في اليوم الثامن تحقيق تقدم داخل الأراضي الروسية وأسر 100 جندي، وبين روسيا التي أعلنت “استكمال القوات حصار القوات الأوكرانية التي تسللت إلى الأراضي الروسية”، يبقى الوضع مفتوحا على احتمالات عدة.
فقد يستغرق الجيش الروسي وقتا طويلا في احتواء الثغرة وتطويق الجيوب الأوكرانية ثم القضاء عليها، بما يؤدي إلى مكسب قصير الأجل للجيش الأوكراني -إذا لم يطور هجومه- نظرا لصعوبة الحفاظ على قوات معزولة دون إسناد وإمدادات لفترة طويلة، وصد الهجمات الروسية المضادة التي ستتكثف وتتوسع.
أما إذا كانت الأهداف الإستراتيجية الأوكرانية ترمي إلى التمسك بالأرض وتوسيع الثغرة -رغم صعوبة ذلك- وفشلت روسيا في احتوائه، فقد يخلق ذلك وضعا ميدانيا وسياسيا مختلفا قد يعزز موقف كييف في أي مفاوضات سلام محتملة، تنقل أوكرانيا من صيغة المطالبة بـ “الأرض مقابل السلام” إلى “الأرض مقابل الأرض”، ويضعف بالمقابل موقف روسيا التفاوضي رغم سيطرتها على نحو 27% من أراضي أوكرانيا.
هناك أيضا أهداف أقل، تتمثل باستباق نتائج الانتخابات الأميركية وإمكانية صعود دونالد ترامب الذي لا يشاطر إدارة الديمقراطيين انحيازهم لأوكرانيا وتحقيق اختراق عسكري، وتعزيز الروح المعنوية للأوكرانيين وكشف نقاط ضعف الجيش الروسي وتعطيل تقدمه على الجبهات الأخرى، والتي كانت تشير إلى هزيمة أوكرانية محسومة رغم الدعم الغربي.
تبدو الحسابات الأوكرانية في عملية كورسك، سواء بتفويض من حلفائها الغربيين أو بتصرف فردي جريئة، لكنها مغامرة معقدة اخترقت خطا أحمر للوحش النووي الروسي، وتبقى نتائجها التي قد تأخذ العالم إلى منطقة خطرة مرتبطة برد فعل الرئيس فلاديمير بوتين وحساباته.