إمكانيات الدكاترة التجار.. محدّث حاز 50 مليون دولار وبيعوا الذهب والأحجار الكريمة والعطور، ومنهم الشيخان الكبيران الليث وابن المبارك
إذا قرأتَ كتابَ ‘مسار سير النخبة‘ الجليل الغني للشيخ الذهبي (ت 748هـ/1348م) ونظرت إلى أوضاع الدكاترة التجار المترجمين فيه؛ فبالتأكيد سوف يلفت انتباهك العديد من البيانات والأخبار العجيبة حول نجوم من أهل الفهم جمعوا بين العلم والتجارة، وهي ليست تجارة محدودة للتكفؤ عن التساؤل بل تجارات ضخمة الحجم تهدف إلى تحقيق ربح هائل، فأحد هؤلاء الدكاترة “لم يكن في الدنيا أيسر منه من التجار”! وعندما توفي “ترك ثلاثمئة ألف دينار (= اليوم 60 مليون دولار أميركي تقريبا)”، وكان يقول: “ليس في الدنيا مثل داري”!!
وفي كتاب ‘الأنساب‘ للشيخ أبو سعدالعلومي المشهور (رحمه الله) قام بترجمة مئات من العلماء المرتبطين بمهنهم وأعمالهم، وأشار إلى وجود من كتب مبكرة -خلال القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي- حول سير العلماء العاملين في هذه المجالات.
ذكر العلومي عن أبي عبد الله محمد بن إسحاق السعدي الهروي الشافعي (ت نحو 285هـ/898م): “رأيت في كتابه عملًا رائعًا في بُخارى على نحوٍ لم يُسبق له، سماه: ‘كتاب الصناع من الفقهاء والمُحدثين‘”!! وذكر أنه ذكر فيه العلماء الذين اشتغلوا بتجارة العطور فقط “جماعة كبيرة تقريبًا من خمسين شخصًا”.
كما أعده الباحث عبد الباسط بن يوسف الغريب دراسة نشرها بعنوان: ‘الطرفة فيمن نسب من العلماء لمهنة أو صناعة‘، وقد تضمنت تراجم حوالي 1500 عالم توزعوا على نحو 400 مهنة وحرفة كانوا يكتسبون منها.
والحقيقة أن العلاقة بين التجارة والعلم في حياة المسلمين تظهر -عبر العصور- الاتصال الوثيق بين شؤون الحياة وتعاليم الإسلام، حيث تلاحقت خطوط التجارة مع حركة الدعوة ورحلات طلب العلم ولو كل الناس في الصين؛ إذ كانت كل قافلة تحمل تاجرًا وعلماء ومتعلمين وكتب، في إطار حضاري مزدهر، يكمل كلٌ منها الآخر دون تشتيت أو صدام.
ومَن لم يلحظ عمق العلاقة الجدية بين الموضوعات السالفة فلن يتمكن من فهم الإسلام الذي قام ببناء هذا التوازن القوي بين المادة والروح، بالإضافة إلى حساسية الاستقلال التي كانت مبدأً راسخًا عند علماء المسلمين، الذين كانوا يتعاملون مع كل ما قد يمس استقلاليتهم في التفكير والتعبير والرأي والتأليف، وكل ما قد يؤثر في شرفهم أمام الله وأمام الناس، علاوة على أن التمويل الشامل كان ضمانًا لاستقلال مجموعة العلماء واستمرارية الدعم الذاتي للحركة العلمية.
لذلك قد لا يكون من المستغرب ما ذكرته الباحثة أوليڨيا ريمي كونستَبل -في دراسة ضمن كتاب أصدره مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان ‘الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس‘- من إحصائية أعدها هـ.ج. كوهِن، وأشارت إلى “وجود 4200 مادة (= ترجمة) -من جملة 14000 تصف العلماء في سيرهم- تحتوي على معلومات عن المهن التي كانوا يمارسونها”.
وأضاف كوهن أن “من هذا العدد، 22% كانوا يعملون في تجارة أو صناعة النسيج، و13% في صناعة الطعام، و4% في المجوهرات، و4% في صناعة العطور، و4% في الجلود، و4% في الكتب، و3% في المعادن، و2% في الخشب، و2% في التجارة العامة، و9% في مهن أخرى. إلى جانب هذه المهن التحديدية، يوجد 3% كانوا يعملون في الصرافة، و2% في التسويق والوكالات التجارية”.
هذه الظاهرة الغريبة هي ما سنحاول -في هذا المقال- استكشاف جزء من تفاصيلها المثيرة، من خلال جولة في الحياة المالية لنماذج معبّرة من عظماء العلماء الإسلاميين من مختلف العصور والأقطار. لذا سنستعرض الخبرات التجارية لنحو 50 عالمًا مسلمًا (10 منهم كبار في الحديث)، مسجلين ما اشتغلوا به من مكاسب وتجارب وما حققوه بفضل تعبهم من ثروة كبيرة.
النشأة المبكرة
ربما لم يتم التطرق كثيرًا إلى العلاقة بين العلماء والتجار والتجارة، والحقيقة أن التجارة والتجار كانوا يشغلون الفقهاء المسلمين في العصور القديمة؛ نظرًا لأن الدولة الإسلامية في بدايتها اعتمدت أساسًا على التجارة التي كان أهل مكة من قريش يتفوقون فيها حتى سادت بقية قبائل جزيرة العرب فيها، وكما ذكر القرآن لهم: “رحلة في الشتاء إلى اليمن ورحلة في الصيف إلى الشام”؛ كما تقول تفسيرات الإمام الطبري.
فلذا وجدنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام بممارسة التجارة -قبل بعثته- نيابة عن السيدة خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) -في ثروتها، وقد “كانت.. امرأة تاجرة كريمة وغنية، تستأجر الرجال بثروتها وتعاملهم بها بشكل يحقق لهم ربحًا، وكانت قريش قومًا تاجرين..، [وكانت تحبّ النبي] وتمنحه أفضل ما كانت تهبه لغيره من التجار”؛ وفقًا لسرد أبي القاسم السهيلي في ‘الروض الأنف‘.
وقام النبي صلى الله عليه وسلم بشراكة في التجارة مع آخرين؛ ففي سيرة عبد الله بن السائب القرشي (ت 63هـ/681م) للذهبي: “وكان والده شريكًا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعث”. ويشير هذا إلى رواية الإمام أحمد عن السائب بن أبي السائب أنه شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم في التجارة قبل الإسلام، وفي يوم الفتح جاءته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبًا بأخي وشريكي، كان لا يماكر ولا يحتال»”.
كذلك فعل أصحابه -رضوان الله يكونون عليه- أيضا في تجارته، فكما ذكر الذهبي في سيرة سعيد بن زيد (ت 90هـ/708م): “كان سعيد يخاطب في التسويق والتجارة مع القرشيين”، وذكره البيهقي في ‘دلائل النبوة‘.
التجارة والصناعة كانت محوراً هاماً في حياة الصحابة قبل وبعد إسلامهم، إذ دفعهم الإسلام لاستكشاف فرص التجارة والمهن المختلفة لتحقيق الرزق وتجنب البطالة والركون إلى الإعانات. وكان من الملاحظ وجود عدد كبير من أصحاب النبي ﷺ يعملون في التجارة، بل كان لبعضهم رؤوس أموال ضخمة وهذا يظهر من نفقاتهم وتركهم تركات ورثوها بعد وفاتهم، وكل ذلك جاء نتيجة لاشتغالهم بالتجارة، مع إضافة المواقع التي كسبوا منها من غنائم الفتوحات.
أما الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق فقد كان تاجراً في مكة قبل الهجرة وظل كذلك بعد الهجرة وكان يتعامل في الأسواق يومياً. وبعد توليه الخلافة، قرر ترك التجارة وصرف مال المسلمين لتأمين حياتهم ومصالحهم. وكان يُمنح ستة آلاف درهم سنوياً كراتب له.
وكان الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان من كبار تجار قريش والصحابة، وكان أكثرهم ثراءً في التجارة. ويضرب التاريخ الأمثلة على سخاءه وتبرعاته في سبيل الله بمبالغ ضخمة. عثمان بن عفان كان يتبرع بماله بسخاء، فكان ينفق مبالغ ضخمة في سبيل الله.
التركات والإعانات
وقصة عبد الرحمن بن عوف مليئة بالتضحيات والتصدق، حيث كان يعتبر فقيراً عندما وصل المدينة، ولكنه نجح بفضل التجارة حتى أصبح من أغنى أصحاب النبي ﷺ. وكان يتصدق بأمواله بسخاء، حتى تمكن من ترك تركات ضخمة عند وفاته، وكانت تركاته تصل إلى مبالغ ضخمة وأملاك كثيرة.
كانت التجارة نشاطاً مهماً ليس فقط بين قادة الصحابة وإنما أيضاً بين الشبان والموالين. فنرى سعد بن عائذ القرظ، الذي كان يعمل في تجارة الجلود وكان يدير محل خاص بها. وأدى هذا العمل إلى تمكنه من الازدهار والتبرع بزيت بقرب المسجد، وكان معروفاً بكرمه وسخاءه في التبرع.
عند النظر إلى سير التابعين وتابعيهم، نرى تماشيهم مع الصحابة في مجال التجارة. فكان سعيد بن المسيب يتاجر بالزيت وكان له أموال وميراث. وكان الإمام سفيان الثوري يدير محل زيت وكان يستثمر ماله في هذا العمل، معرضاً حصته من الميراث الذي تركه له عمه. كما يروي أبو نعيم الأصفهاني قصة سفيان ورده لأحد الطلاب الذي انتقد اشتغاله بالتجارة بطريقة طريفة، مظهراً اهتمامه برفع مستوى الاقتصاد لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتوزيع ثروته بسخاء.
الذهبي ذكر في كتاب ‘السير’ أن العالم العابد المجاهد عبد الله بن المبارك (ت 181هـ/797م) كان تاجراً، وتفاحل بين السفر والتجوال في طلب المعرفة، والمشاركة في القتال، وممارسة التجارة، والتبرع لإخوانه في الله، وتجهيزهم معه لأداء الحج.
ومن بين العلماء التجار البارزين الحسن بن سعد (ت 175هـ/791م) الذي وُصِفت مكانته العلمية والسياسية -حسب الذهبي في ‘السير’- بأنه “الإمام الفاضل، شيخ الإسلام وخبير المصريين… حتى أن حاكم مصر وقاضيها وناظرها كانوا يعملون تحت إمرته، ويستندون إلى رأيه واستشارته”، وعندما يقدر حجم أرباحه السنوية فيقول: “كان الحسن يستثمر عشرين ألف دينار (= حوالي 4 ملايين دولار اليوم) كل عام”!
نداء للتمويل
مع تطوّر الزمن وتوسع الدولة، وتوقف مشاركة العلماء في الجيوش وحصد الغنائم، وتراجع مدى الثقة -عموماً- بين الحكام والعلماء؛ اضطر العديد من علماء المسلمين -في الفقه والحديث وغيرهم- لمزاودة التجارة، لتجنّب الحاجة وضمان الاستقلالية المالية في كسب الرزق التي تجعلهم مستقلين ومتبوعين لا متابعين، خاصة أن “النفس تجد قوّتها البدنية عندما تكون لها المال، وهو ضروري وفقًا لأطباء الأدوية”، كما قال ابن الجوزي في كتاب ‘صيد الخواطر’.
وبناء على ذلك، رأينا تزايد عدد العلماء -عبر العصور وفي مختلف المناطق- الذين انخرطوا في التجارة أو الصناعة، بحيث لُقب بعضهم باسم مهنتهم وتجارتهم. وبفضل هذا، تمكن العديد من العلماء من الحفاظ على مصادر دخلهم -بما في ذلك تكاليف الرحلات العلمية والكتب والأبحاث- بعيدًا عن السلطة وأطماع الحكام، واعتبر ذلك كثيرًا مدحًا لهم في كتب السيرة الذاتية والطبقات التي وثّقت حياة العلماء وأساليبهم.
وانتبه العالم الجوزيّ -بحكمته المعتادة ورؤيته العميقة- لهذه المسألة وأكد على أهمية أن تكون للعلماء مصادر دخل مستقلة عن سلطة الحكام وأصحاب المال، نظرًا للحفاظ على العلم ونقاء الدعوة في التعليم والإفتاء؛ لذا قال في كتاب ‘صيد الخواطر’: “إنه ليس هناك شيء أكثر فائدة للعلماء من جمع الثروة للتخلص من اعتمادهم على الناس؛ فإذا انضمت إلى العلم، ستكتمل الفضيلة؛ وإذا انشغل معظم العلماء بالعلم عن الربح، فإنهم سوف يحتاجون إلى ما يلزمهم وسوف يقل الصبر مما سيجعلهم يسقطون في فخ التسلط، وإذا اعتمدوا على شيء آخر، فسيكون ذلك أفضل لهم”!
ثم قام هذا العالم بدعوة أصحاب العلم -أثناء تحصيلهم- للسعي نحو الثراء بتعب الجبين: “إذهب يا طالب العلم، اجتهد في جني الثروة لتكون مستقلاً عن الناس؛ لأنها ستجلب لك دينك! إذا كنا نرى أن العديد من المنافقين في الدين والزهد والتبجيل لم يتعثروا إلا بحب الدنيا، وكثير من هذا كان سببه الفقر”!
وحذر من ترك الكسب المشروع وتأثيره على مكانة العلماء في المجتمع؛ فقال: “لقد شاهدت أن أغلب أصحاب المال يستغلون العلماء، يستعبدونهم بأموالهم، ولديهم سلطان صغير يمنحونه إياه من زكاة أموالهم، وإذا كان هناك خطأ قالوا: فلان لم يحضر، وإذا مرض أحدهم قالوا: فلان لم يأتِ بسرعة، وكل أمر يكون له عليه غير لطيف يستحق الوفاء، وكان العلماء يقبلون بالاستغلال لظروف الضرورة، وأعتقد أن هذا اهلاك للعلماء لعدم حفظهم للعلم”.
ولم يكتفي ابن الجوزي بهذا فقام بمحاولة حل قضية معيشة العلماء، وأدرك أن هذه المسألة من الضروريات الحاسمة لتحصيل العلم وضمان استقلال الجماعة العلمية: “يجب على الحكيم إذا جنى ثروة أو حصل على موارد أن يحفظها لكي يركز اهتمامه، ولا ينبغي له أن يبذر في ذلك لأنه سيحتاج إلى التشتيت في همه، وإذا حافظت النفس على قوتها فإنها ستشعر بالطمأنينة. وإذا لم يكن لديه ما يكفي من المال، عليه أن يتجنّب الإسراف لكي يركز همه ويكون راضيًا بالقليل… وتجنب الفخر هو جذر الجذور. وعندما ييأس الإمام أحمد بن حنبل من قبول الهدايا والرشاوى، تجمع أموره وحسن ذكره… ثم من يتصور؟ إنما هو إما حاكم مفرط الظلم، أو غني منحاز”!
ضرورة الكفالة
من ناحية أخرى، ليس بالإمكان على كل عالم أن يتجارى فيما عدا العلم، حيث تؤمن بعض الأنشطة التكافل الضروري للعالم، وإذا كانت هذه الأنشطة توفر للعالم جزء صغير من قوته وتساهم في حفظ علمه، فإنها ستكون مشغلة له عن التحصيل والرحلة التي تعتبر من أهم الوسائل لتحصيل العلم في
في ذلك الزمان، ومتعطلة عن أواصرها، ومنعزلة عن التصنيف والكتابة. ولهذا السبب؛ نظر العلماءُ إلى خزينة بيت مال المسلمين بوصفها ملكاً للأمّة وليس للدولة، وفرضوا على الحكام توفير المعيشة الكريمة للعلماء ليتفرغوا لدراسة العلم وتعليمه، فإذا لم تقم الدولة بواجبها تجاههم يجب ذلك على الشعب عموما كواجب كفاءة.
ولذلك نجد الخطيب البغدادي يُعدهُ -في ‘كتاب الفقيه والمتفقه‘- فصلاً سماه: “فصل ذكر ما يتوجب على الإمام أن يُلزم الفقهاء ومن أعلن نفسه للإفتاء من المعينات والهدايا”؛ حيث يقول فيه: “ويجب على الإمام أن يُلزم من قام بنفسه بتدريس الفقه والإفتاء بالأحكام ما يوفيه من الحياة المادية والإعانة، ويقدم ذلك من بيت مال المسلمين. فإذا لم يكن هناك خزينة، أو لم يُلزم الإمام المفتي بشيء، واتفق أهل بلد على تخصيص له من أموالهم معيشة -ليتفرغ لإفتاءهم وحلول معضلاتهم- سار ذلك”.
ويستشهد الخطيب بتوجيه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) لواليه على حمص: “اطّلع على الأشخاص الذين تصدوا لأنفسهم للفقه وحجبوها في المسجد عن البحث عن كسب العيش، فميز كل رجل منهم بمائة دينار (= اليوم 20 ألف دولار أميركي تقريبا)، ينفعون بها في ما هم عليه من خزينة بيت مال المسلمين”.
وكان بعض العلماء يقبلون هذه الأموال كحق لهم في خزينة الدولة مقابل خدماتهم للمجتمع كإمامة وتعليم وإفتاء، وبعضهم كان لا يقبله. ولكن الفكرة -من الجانب المبدئي- تظهر أنّ عمر بن عبد العزيز كانت تشغله مسألة استقلال الجماعة العلمائية، فجعل لها مالا من بيت مال المسلمين كمكافأة لخدماتها المجتمعية، على غرار الجُنْد وبقية موظفي مؤسسات الدولة!
وعبارة الخطيب البغدادي السابقة تقتضي -من خلال اضطراب أوضاع الدولة الإسلامية منذ منتصف القرن الثالث الهجري- غيابا أو ضعفا قد يتعرض لخزينة بيت مال المسلمين، أو عدم تخصيص السلطة موارد مالية للعلماء؛ فجعل ذلك واجباً على الجميع على غرار جهاد العدو، وليس لنا حاجة لتأكيد أن جهاد العدو لا يكون بالجنود فقط، بل أيضاً بالعلوم والمعارف.
سير متواصل
مع مرور الزمن وابتداء من القرن الخامس تقريبا؛ تزايد تبع الفقهاء على تبرعات الدولة وأهل السلطة والثروة، وبوجه خاص بعد إنشاء مناصب الإفتاء والقضاء والخطابة وغيرها من الوظائف الدينية، وبروز مشايخ المذاهب التي كانت تنظم العملية التعليمية والإفتائية فيها، وإنشاء المدارس وتأسيس الكراسي العلمية الوقفية فيها وفي الجوامع؛ ومع ذلك استمر هناك إفتاء أهلي وجماعي رفض الاندماج أو التلاحم -بل وحتى التقرب- من مناصب السلطة الرسمية، خوفاً من التعلق بحساباتها ومواقفها.
وحتى يبرأ العلماء أنفسهم من هذه المسألة -وفقا لما طلبهم به الإمام ابن الجوزي سابقاً- اهتم كثيرون منهم بالتجارة، ابتداء من عهد التابعين -كما رأينا- حتى العصور المتأخرة؛ أي أن جماعة من العلماء لم يكتفوا بالمنح من أصحاب المال من التجار والحكام، بل تاجروا بأنفسهم وجعلوا رحلتهم علما وطلباً وتجارةً أو مهنةً في الوقت نفسه؛ فكان من بينهم الحداد والنجار والخياط والدباغ والصباغ والجصاص والعطار والصائغ والوراق… وهكذا. ومن يرغب في التوسع في هذا المجال فليراجع المصادر التي ذكرناها في مقدمة المقال، مثل كتاب ‘الأنساب‘ للإمام السمعاني ودراستين الباحثين عبد الباسط الغريب وأوليڨيا كونستابل.
ويكفي للإشارة إلى انتشار ظاهرة العلماء التجار أن الإمام الذهبي وثق ما يقارب 150 عالم منهم في كتابه الضخم الممتلئ ‘سير أعلام النبلاء‘، وسنذكر هنا أمثلة مرموقة علمياً -بعد عصر التابعين وتلاومهم- من مختلف التخصصات الشرعية الذين وردت تراجمهم، مع أسمائهم العلمية، وما سجله بشأن ثرواتهم، والمسافات البعيدة التي سافروها في تجاراتهم، حتى إن بعضهم سار فيها من الأندلس إلى الصين!!
فقد وثق المحدث الكبير يوسف بن زريق (ت 222هـ/837م) فقال إنه “ذهب إلى مصر في التجارة ومات هناك”. وذكر ابن عمار الموصلي (ت 242هـ/856م) فعرفه بأنه “الإمام الحافظ الحجة محدث الموصل..، وكان يزاول التجارة فزار بغداد مراراً وتحدث فيها”. وفي ترجمة الجمال بن محمد البغدادي (ت 346هـ/957م) ذكره بأنه “الشيخ المُسْنِد الثقة مُحدِّث سمرقند (تقع اليوم بأوزبكستان)..، ارتحل [لتحصيل العلم] وكان يسافر في التجارة”.
ومن بين العلماء الذين جمعوا بين توسع المعرفة وزيادة الثروة دَعْلَجُ بن أحمد السِّجِسْتاني/السِّجْزي (ت 351هـ/964م) الذي وصفه الذهبي بأنه “المحدث الحُجَّة الفقيه الإمام..”.
التاجر الغني، سمع -بعد الثمانين (= سنة 280هـ/893م)- ما لا يمكن وصفه بكثرة في الحرمين والعراق وخراسان، أثناء تنقلاته في التجارة. ورغم انشغاله التجاري، تفوق بشكل كبير في المعرفة حتى أُطلق عليه لقب “الفقيه شيخ أهل الحديث في عصره”! وقال الإمام الدارقطني (ت 385هـ/994م): “لم أُشاهد في مشايخنا أكثر ثباتًا منه”!!
ويروي الذهبي عن ثروة هائلة جناها الإمام من تجارته؛ حيث قيل: “لم يكن هناك تاجر أيسر منه في العالم”! وعند وفاته، ترك “مئات الآلاف من الدينارات (= تعادل اليوم 60 مليون دولار تقريبًا)”، وكانت أول ميراث يتم مصادرته من قِبل السلطات البويهية في بغداد! ووصل به الأمر إلى أنه كان يقول: “لا يوجد في العالم مثل داري! وذلك لأنه لا يوجد في العالم مثل بغداد، ولا في بغداد مثل منطقة القطيعة، ولا في القطيعة مثل درب أبي خلف، ولا يوجد في الدرب شيء مثل داري”!! وبالإضافة إلى هذه المنازل الرائعة في بغداد؛ “اشترى الإمام دار العباسية في مكة بثلاثين ألف دينار”!!
رحلات تجارية
ومن بين علماء الأندلس التجار، اسحق بن مَسرة التُّجِيبي الطُّليْطُلي (ت 354هـ/967م)، الذي كان “المتقشف البارع في قرطبة، يتاجر بالكتان فيها، وكان من ذوي المعرفة والعمل والذين لا تستطيع انتقادهم من حيث دينه..، كان من أكثر العلماء حفظًا للقوانين”.
وكذلك ابن جميع الغساني الصيداوي (ت 403هـ/1013م) الذي كان “الشيخ العالم الصالح المسند المحدث الرحال… كان من أعلام الحديث في الشام”، وذكر له الذهبي أنه روى عن عدد كبير من الشيوخ الكبار في ثلاثين مدينة من مدن الشام والعراق وفارس والحجاز ومصر، ثم أشار إلى أنه “سافر خلفهم في هذه البلاد الواسعة بسبب تجارته”! وأيضًا في وصف الإمام الحافظ خلف الواسطي (ت بعد 400هـ/1010م)، المعروف بكتاب ‘أطراف الصحيحين‘؛ فقد ورد :”سافر كثيرًا بغرض التجارة”. ومن أمور غريبة للواسطي هو أنه تلقى علمه من شيخه الإمام الحاكم النيسابوري (ت 405هـ/1015م)، المؤلف لكتاب ‘المُستدرَك على الصحيحين‘.
وعندما وصف الرحال الأندلسي سعد الخير الأنصاري (ت 541هـ/1146م)، أشار إلى أنه “الإمام المحدث الذي يتقن الجولات.. التاجر الذي سافر من الأندلس إلى إقليم الصين [لتجارة]، تجده يكتب في نسبه: سعد الخير الأندلسي الصيني، وكان من بين العلماء”. وفي وصف أبي تمام العباسي البغدادي (ت 543هـ/1148م)، قيل عنه أنه “الشيخ الجليل المقرئ..، وتوفي في نيسابور بعد أن أجاد التجارة في المحيطات والهند وتركيا”!!
ومن بينهم أبو الفَرَج ابن كُلَيب الحرّاني الحنبلي (ت 596هـ/1200م) الذي صفه الذهبي بأنه “الشيخ الجليل الأمين مسند العصر.. التاجر..، وصل درجة عالية من التجارة، وقد روى ابن النجار (ت 643هـ/1245م) -في ‘ذيل تاريخ بغداد‘ وهو تلميذ ابن كُليب- أنه “نظم حفلة في بعض بلدان خراسان في فصل الصيف، ومصروفها كان كبيرا، ومن بين ذلك كان يحمل شحنات من إنتاج مصر.. [وكان] لها قيمة فائقة”!!
ومن العلماء التجار الذين كرمهم الذهبي بذكر ثرواتهم هو أبو الرضا الكرْكي البغدادي (ت 592هـ/1195م)؛ فقال: “كان المحدث الملم بالعلم.. التاجر الشيعي..، كان منتبهًا للاستماع وجمع الأجزاء.. وكان جدير بالثقة..، ترك عند وفاته تجارة بقيمة ثلاثة آلاف دينار”!!
ومن بين الأئمة التجار البارزين ابن الأخضر الجنابذي (ت 611هـ/1214م)، الذي كان “الإمام الملم بالعلم الحافظ المحدِث.. التاجر بالثياب؛ وقد قال ابن النجار: “درست على يده كثيرًا في حلقته ومحل بيع الثياب في خان الخليفة [ببغداد]، وكان يحظى بثقة عالية وكان حجة نبيلا، لم أُرَ في شيوخنا شخصًا مثله في عدد الروايات التي سمعها، وجودة أصوله وحفظه واحترافه”! وفي وصف الذهبي لكمال الدين ابن الجلاجلي البغدادي (ت 612هـ/1215م) وصفه بأنه “رئيس التجار الملم بالقراءة..، سافر من مصر إلى الهند وما وراء النهر في التجارة، وكان صادقًا متقنًا متحفظًا عن الأحكام”.
تَساؤُل وعزلة
يقدّم مؤرخ من حلب، ابن العديم (ت 660هـ/1262م)، قصةً غريبة عن أحد علماء التجار المسافرين، الذي كان يُخصص نفقات واسعة لمحاربة الحركات الخفية المُدمِّرة كالحشاشين، ما أدى إلى محاولات اغتياله؛ حيث يروي -بوصفه خبرًا عن رحلة تجارية وبيّنًا لنا مقدار ثروته- أنه “وصل إلى حلب في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة والخمسين (505هـ/1111م)، رجلٌ كبيرٌ فقيهٌ تاجرٌ يُدعى أبو حرب عيسى بن زيد بن محمد الخُجَندي (ت بعد 505هـ/1111م)، ومعه خمسمئة جمل مُحمَّلة بحمولات تجارية..، فاستعرضت عليه ذلك غلمانه وحاشيته المكونة من مماليكه وخدمه”!
وبجانب العلماء الذين كانوا يُمَارسُون التجارة بأنفسهم؛ كانت هناك أبناء عائلات تجارية اختاروا التفرغ للبحث عن العلم ونشره مستفيدين من ثروات آبائهم وإخوانهم. من بين هؤلاء، كما ذكر الخطيب البغدادي -في كتاب ‘تاريخ بغداد‘- أنّ أبا جعفر الصُوفِي المشهور بابن الفَرَجي (ت بعد 270هـ/883م) “كان ينتمي إلى طبقة المتغطرسين وأصحاب المال، ورث ميراثًا ضخمًا فأنفقه كله في البحث عن العلم، وفي صدقاته والصوم والعبادة. كان له مكانة بارزة في مجال العلم والفقه وفهم الحديث، لدرجة أنه تلميذ لعلي ابن المديني (ت 234هـ/848م)”.
وبينهم أيضًا “محمد بن أحمد.. الأصبهاني (ت 282هـ/895م).. الحاجب المشهور بالعسّال، الذي كان والده أحمد من كبار التجار التجارة، وقد ورث أملاكهم وهي تشمل الحدائق والمنازل والمتاجر”؛ حسب ما ذكره الذهبي في كتاب ‘السير‘.
وبالإضافة إلى ذلك، أبو العلاء الهمذاني الحافظ (ت 569هـ/1173م)، الذي قام الذهبي بتقديم نبذة عنه في ‘تذكرة الحفاظ‘، حيث قال: “كان يحتقر المال وباع كل ما ورثه وهو من أبناء التجار، أنفقه كله في طلب العلم، حتى غادر بلده متوجهًا نحو بغداد وأصبهان بشكلٍ متكرر حاملًا كتبه على ظهره”. وبالرغم من فقر الهمذاني -بعد أن كان ثريًا- فإنه “لم يستفد من أموال الحكام الجائرين ولم يقبل منهم أية طروحة مالية ولا موقعًا في العصبة الرسمية أبدًا”!!
وعلى الرغم من عدم توفر مصادر تشير إلى نساء علماء يمارسن التجارة؛ قدمت لنا ترجمة حديثة لامرأة جليلة تنتمي إلى إحدى عوائل التجار الأندلسيين، حيث كان والدها السيد سعيد الخير الأنصاري السابق ذكره. أما تؤكد عليها فقد وصفها الذهبي بأنها “الشيخة المرموقة المعتمدة.. فاطمة ابنة التاجر والمحدث الكبير أبي الحسن سعيد الخير.. الأنصاري من بلنسا..، وكان لها نفوس رفيعة وشهرة”، وبعد ذلك أذن الذهبي لشيخنا أحمد بن أبي الخير بن سلامة (ت 678هـ/1279م)”!
ومع تنوع الانتماء الديني والتخصص العلمي لعلماء التجار؛ تنوعت أنشطتهم التجارية لتشمل مختلف أنواع البضائع والسلع، فأصبح كثير من العلماء يشتهرون بتفردهم بنوع تجارتهم. وهكذا؛ لم يكن يسهل تفرُّقُ اسماءهم إلا بالربط بنوع تجارتهم. لذلك، ذكرتنا كتب التراجم كثيرًا بنوع التجارة التي كانوا يمارسونها، مثل القطان والبزّاز والزيات والجوهري والحريري والكُتُبي… وغيرهم.
وهكذا، أخبرنا الذهبي -في ‘تذكرة الحفاظ‘- أن الإمام “القائم بحفظ العلم الواعي”، غُندر بن جعفر البصري (ت 193هـ/808م) “كان يجاري في بيع الثياب القطنية والكرابيس”. وأعلن ابن حجر -في ‘الدرر الكامنة‘- أن العالم أحمد بن عبد الكريم الغرناطي (ت 739هـ/1339م) “كان شخصًا مُراعًا مُتواضعًا ذا أخلاق حسنة كان يكسب عيشه من تجارة القطن”.
خسائر تجارية
وكما نقل عن الفقيه الشافعي شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري (ت 773هـ/1372م)، أنه جمع بين التجارة والحصاد من الزراعة، حيث “نشأ في القاهرة وحضر دروس الحُضور [بين القضاة]، وكسب من التجارة والزراعة فأصبح ثريًا وكثرت أمواله..، وتولى تدريسًا في الأزهر”.
ومن ضمن أنشطة العلماء المكملة لعملياتهم التجارية كانت الوساطة بين التجار والمشترين، مع الالتزام بالنزاهة والأمانة؛ حيث كان من هم الحافظ حجاج بن منهال البصري الأنماطي (ت 216هـ/831م) الذي وصفه الذهبي في كتاب ‘السير‘ باسم “الإمام الحافظ القُدوة العابد الحُجَّة..، كان وسيطًا يأخذ قسطًا من كل دينار، وفي إحدى المرات، اشترى لص برّاني -من أهل الحديث- بضائع، فقدّم له التاجر
ثلاثون دولارا، فقال: ما هذا؟ قال: سوقك! قال: أموالك أسهل عليّ من هذا التراب! اعطني من كل دينار حبة، فاخذ منه دينار وكسر”!!
ولم يكن العلماء -كباقي التجار- بمأمن مما ينتج عن التجارة أحيانا من خسائر كبيرة تستدعي خروج صاحبها من السوق، وتعيده إلى مستوى الصفر المالي؛ فالإمام أبو الفرج ابن كليب الحراني المتقدم تذكره يقول ابن النجار البغدادي إنه حدّث تلامذته يوما بحالته السابقة من الثراء الواسع؛ فقال: “تلقيت خبرا عن مملوك لي غرق في البحر بأموال كانت معه، وكانت قيمته ستة آلاف دولار (= اليوم 1.2 مليون دولار تقريبا) أو أكثر؛ فلم اتأثر لسبب ثروتي”!! ثم حصل معه أنه “ظل حيا حتى طلب من الناس” ما يحتاجه!!
ويقول الذهبي إنه “تحتاج إلى الأخذ [من الطلاب على التدريس]، وبقي لا يُحدث بـ‘جُزْء ابن عرفة‘ إلا بدولار”!!
ومن اللافت أيضا أن بعض الصحابة والعلماء كان يشاركون في التجارة حتى وصلوا إلى مستوى معين ثم انقطعوا عنها للزهد، فتفرغوا للعبادة والتعليم وانكبوا على الدراسة والتعليم؛ فهذا الصحابي المفتي أبو الدرداء كان تاجرا في فترة من حياته ولكنه تخلى عن ذلك من أجل التفرغ للعبادة والذكر، وفي ترجمته يقول الذهبي في ‘السير‘: “قال أبو الدرداء: كنت تاجرا قبل البعثة فلما جاء الإسلام جمعت التجارة والعبادة، فلم يتماشيا فتركت التجارة واهتممت بالعبادة”!
ومثله “العالم الزاهد” ابن شاذة النيسابوري الشافعي الذي قال ابن الصلاح -في ‘طبقات الفقهاء الشافعية‘- إنه “كان يتّجر ثم ترك ذلك وسكن في الجامع سنوات”!! وفي ترجمة حسن بن محمد التاجر عند ابن حجر أنه “رجل صالح متدين، انقطع عن التجارة واهتم بالعبادة والجماعة والحديث..، [ثم] نظم مجلسا (= مجلس وعظ أسبوعي) بالجامع وحضره بالكتب”.
ولم تقتصر ممارسة التجارة على حملة العلوم الدينية فقط، بل كانت هناك أيضا تجارة لأصحاب الخبرات الأخرى؛ فقد ذكر القفطي -في ‘إنباه الرواة على أنباه النُّحاة‘- أن العالم النحوي البارع علي بن سعيد بن دبابا “كان يتّجر ويسافر إلى دمشق، فباع في بعض رحلاته على نواب [الأمير الأيوبي] أسد الدين شيركوه مستلزمات، أخطأ رفاقه بمئتي دولار..، فحسب حسابه وجد الخطأ فأحضر الذهب إليهم، فشكروه وجزوه خيرا”!!
خدمة تعليمية
ووصف ابن أبي أصَيْبِعة -في ‘عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘- الطبيب جمال الدين بن الرَّحْبي بأنه “هو الحكيم الأجل العالم الفاضل..، كان يعمل في مجال الطب مع والده وغيره وكان ماهرا في ذلك، وكان يتميز بجودة العلاج والمداواة، وكان يخدم في المستشفى الكبير [النوري بدمشق]..، كان يحب التجارة ويسافر بها أحيانا إلى مصر ويعود من مصر بتجارة”.
لم تكن أهمية التجارة تقتصر على كونها عامل حيوي لاستقلالية العلماء في مواقفهم وأفكارهم، ولا في اعتبارها مصدرا لاستمرارية إسهامهم العلمي؛ بل كانت لها دور آخر مهم لا يقل في الأهمية عن ذلك إن لم يكن أهم، وهو دورها في نقل المعارف والعلوم والأفكار والمذاهب، وانتشار الكتب والمجموعات والمؤلفات، من بلد إلى آخر عبر منطقة العالم الإسلامي المتمددة.
فقد ساهم التجار -بشكل عام وبشكل خاص العلماء وتجار الكتب منهم- في نقل المؤلفات ونقل قصصها الموثقة بين البلدان البعيدة؛ حتى وصلت الباحثة كونستبل -في دراستها السابقة- إلى وجود “وفرة نسبية من المعلومات حول سيرة العلماء التجار القادمين إلى إسبانيا الإسلامية بين السنوات 414ـ432هـ/1023ـ1041م، ويذكر ابن بشكوال أسماء اثنين وعشرين من العلماء التجار خلال تلك الفترة..، [لكن] المعلومات عن العلماء التجار المتواجدين في المشرق تقل بشكل مفاجئ بعد منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي..، وربما كان يرجع توقف أنشطة العلماء التجار إلى أسباب غير تجارية”، كانت من بينها الاضطرابات السياسية التي كانت تهز الأندلس خلال فترة توزيع الأراضي بين أنظمة “ملوك الطوائف”.
ويقول ابن أبي أصيبعة في ترجمته للطبيب الأندلسي الكبير أبي العلاء بن زُهر إنه “في زمانه وصل كتاب ‘القانون‘ لابن
سافر الفيلسوف سينا (ت 428هـ/1038م) إلى المملكة المغربية. يُقال أن أحد تجار الأندلس قد جلب نسخة من كتاب محسن من العراق إلى الأندلس، وقدمها كهدية لأبي العلاء بن زهر اقتداءً به. عندما فحص الكتاب، لم يعجبه فقام بانتقاده ورميه بعيداً!
كان هناك تجار يستوردون كتب نادرة في العلوم من بلاد العجم، مثل فارس إلى آسيا الوسطى. وورد في كتاب “عيون الأنباء” أن تاجراً من بلاد العجم وصل إلى دمشق في سنة 1235م، وكان بحوزته نسخة من شرح ابن أبي صادق لكتاب “منافع الأعضاء” لجالينوس. لم يكن هناك نسخة سابقة من هذا الكتاب في سوريا. فقام أبي بإرسال قصيدة مديح للتاجر، ومن ثم قدموا له الكتاب المخطوط الذي كان جودته فائقة وخطه رائع ونقطه دقيقة”!
كان لظاهرة العلماء التجار الرحالين تأثير طريف، حيث كان بعضهم يُشهر بلداً يزوره بكثرة للتجارة أو يبقى فيه لفترة طويلة حتى يعتبر جزءاً منه. من بينهم: سعد الخير الأندلسي الذي كان يلقب نفسه بـ”الصيني”، وأحمد بن عيسى المصري المعروف باسم “التُستَري” لمنصبه كتاجر في تُستَر (موقعها حالياً غرب إيران).
هبات سخية
لم يدع كثيرون من التجار النبلاء جهودهم في دعم العلم والعلماء، دون التدخل في الجوانب العلمية، إذ لم يكونوا ملمين بها واعتبروا الدعم المالي للعلم والعلماء نوعًا من الجهاد والعبادة. كما كان العلماء يحذون حذو التجار في دعم البحث العلمي وخدمة المجتمع، مما يُشبه الجهود المالية التي يُبذلها رجال الأعمال اليوم في المجتمعات المتقدمة لدعم البحث العلمي وتطوير التكنولوجيا وحماية البيئة وغيرها.
ومع ذلك، كان هناك تجار وأرباب مال أرادوا استغلال العلماء لغاياتهم، لذا اعتبر البعض من أصحاب المال أن وجود عالم ديني بجوارهم يمنحهم شرعية لأفعالهم ويزيد من مكانتهم بين الناس. وعَظَّ ابن الجوزي العلماء من تجار يسعون للتشبث بهم للتحقيق منهم بما يخالف الشرع. عندما يُذكر أحد أثرياء عصره في كتاب “صيد الخاطر”، قيل عنه أنه “استعبد العلماء بسخاءه”!
أما من أنفقوا على العلم والمؤسسات العلمية، فكانوا من نوعين: تجار علماء وتجار عاديين. يأتي في صدارة النوع الأول الإمام عبد الله بن المبارك، الذي كان يعمل بيع الثياب، وكان يقول: “لولا خمسة لما تاجرت”، وعندما سئل عن الأسباب، كشف عن خمسة من العلماء الذين تأثر بهم. كان دائما يخرج للتجارة إلى خراسان، وكان يُستغل الربح لإعالة عائلته وتكاليف الحج، والمال الزائد كان يرسله لزملائه الخمسة”!
ومن بين هؤلاء الإمام الليث بن سعد، حيث قدم له مالك مهداة من أهل المدينة. رد الإمام الليث بإرسال 1000 دينار إلى مالك، وكان يُعتبر مفتيًا لأهل مصر في زمانه. كما يروي الذهبي أنه كان يعطي مالك مبلغًا سنويًا وقدّره على مائة دينار، وأعطى ابن لهيعة ومنصور بن عمار الواعظ مبالغ مالية كبيرة”!
ومن تجار العامة الذين دعموا المعرفة والعلماء كان إدريس العدل الذي كانت تكلفته السنوية في الحج تتجاوز الخمسة آلاف دينار، وقد كانت مكانته مرموقة عند السلطان وفي التجارة.
تصدقات وأوقاف
يقال ان في عمليات البيع لقائد الدين دعْلَج الفارسي المشهور سابقًا كان هناك كمية كبيرة تخصيص لدعم العلماء وأسرهم؛ فوفقًا للمؤرخ الذهبي، “كانت هناك تصدقات مستمرة لأهل الحديث في مكة وبغداد وفي سجستان (التي تقع اليوم في إيران)”. ويذكر ابن كثير -في كتاب “البداية والنهاية”- ان “كان من بعض الأشخاص الكرماء والذين يشتهرون بالبر والإحسان، له تصدقات جارية وأوقاف دائمة لصالح أهل الحديث في بغداد وسجستان.. وقد قدم مبالغ مالية كبيرة جدًا لأهل العلم والمحتاجين”.
ومن بين قصص ايمانية عن سخاء دَعْلَج مع العلماء، ذكر الإمام أبو عمر بن حَيُّويَهْ الشافعي أنه قال: “دخلني دَعْلَج بن أحمد منزله، وعرض علي كيسًا من المال ممتلئًا، ثم قال لي: خذ ما تريد! فشكرته وقلت: ليست هناك حاجة لي!”.
ومن بين التجار الكبار الذين كان لهم تأثير على زملائهم في العلم؛ الإمام والمحدث ابن رِيذة الأصبهاني الذي وصفه الذهبي بأنه “الشيخ العلامة الأديب الكبير مسند العصر.. الثاني الكبير..، كان أحد الأشخاص الموثوق بهم والذين كانوا كراماً لأهل العلم”.
وفي كتاب “سلك الدرر” لأبي الفضل المرادي، ورد أن “عمر بن إبراهيم السفرجلاني الشافعي –وهو من التجار المشهورين في دمشق وأصحاب الثروة- كان ذو ثروة زائدة وكان له تأثير كبير في فعل الخيرات والأعمال الخيرية، وقام ببناء أربع مساجد في دمشق.. وكان معروفًا بعطائه للخير”.
ومن بين التجار الكبار الذين دعموا ماديًا العلماء وأهميتهم العلمية ومساهمتهم في المجتمع؛ أبو منصور ابن يوسف الذي كان تاجرًا كبيرًا من المذهب الحنبلي ومستشارًا للخليفة العباسي القائم بأمر الله، قد استضاف الإمام ابن عقيل الحنبلي وقدم له الدعم المالي والسياسي والديني ليصبح جزءًا من المشهد العلمي في بغداد.
رعاية المواهب
وقد جعل هذا الدعم لابن عقيل يقول -في كتابه “الفنون”- عن أبو منصور: “لم أر مثله في السخاء والإحسان بحسب الأوقات -من دون طلب أو نية مقابل- سوى الشيخ الكبير السعيد أبو منصور بن يوسف، وحاكم دولة المتمسك بالله إمام المسلمين: التاجر أبو طاهر يوسف”.
ويوفر لنا ابن عقيل نظرة عن إنفاق هذين التاجرين الكبيرين اللذين كانا من أبرز رعات العلم والعلماء في عهدهما؛ ووفقًا لشهادته “كان الأول (أبو منصور) يوزع تصدقاته خلال أيام النداء والأمطار بالملابس والطعام والأثاث، وكان له أشخاص يخبرونه بحاجات الناس؛ وفي شهر الصوم يوزع الطعام للإفطار، وفي الأعياد يقدم الملابس الملائمة، مع توزيع الهدايا للعيد والأضحية”. أما التاجر أبو طاهر يوسف “فكان يقدم الدعم للفقراء والمرضى، وفتح أبوابه في شهر الصوم لتناول الطعام، وقدم الطعام للفقراء وأسرهم”.
هذه التصرفات الكريمة كانت من هذين التاجرين للجميع وليس لابن عقيل فقط؛ بينما أشار ابن عقيل إلى “أن الأول (أبو منصور) كان مُعينًا لي، وساعدني في تعلمي”، وأشار إلى أن أبو طاهر يوسف “قام بدعمي.. مهما كنت أدعو لله وأحببت في الدين، فإنه كان يقف بجانبي”.
من بين التجار المشهورين في مصر الذين رعوا العلماء: نور الدين علي بن عبد العزيز الخروبي “التاجر
“الجامع”، مستمدة من تجارة “الكارم” وهي نوع من البهارات الهندية؛ إذ رعى هذا التاجر الكبير الحافظ ابن حجر (ت 852/1449م) خلال بداياته في طلب العلم، مما جعله يقدم خدمة كبيرة للعلوم الإسلامية.
ويحدثنا ابن حجر نفسه في كتابه “إنباء الغُمر” حيث يذكر أن الخرُّوبي “كان من أشهر التجار في مصر..، كان رجلا شجاعا وكريما..، كان منحى إيمانيا قويا..، وكانت أمي قد تزوجت أخاه، فكان هناك رابطة قوية بيننا، وكان رجلا صالحا حنونا، جزاه الله خيرا”. ويستكمل تلميذه السخاوي (ت 902هـ/1497م) هذه الصورة في كتابه “الضوء اللامع” حيث يذكر أن الخروبي “كان هو وأبوه وجده من كبار تجار مصر..، وكان آخر تجار مصر من الخراربة، وترك ثروة ضخمة”!!
وبالرغم من الحالة المالية الضيقة، كان بعض العلماء يُمتنعون عن قبول المساعدات المالية التي يقدمها التجار الكرماء؛ فقد نقل ابن كثير قول عبد الله بن الإمام أحمد (ت 290هـ/903م) واصفا حالة عائلتهم في زمن الاضطرابات: “كنا في عصر الواثق (ت 232هـ/847م) في فترة صعبة؛ فجاء رجل يعرض علي أبي: لدي أربعة آلاف درهم (= حوالي 8000 دولار أميركي اليوم) ورثتها وليست صدقة أو زكاة، هل تقبلها؟ فأبى أبي على ذلك، ورفضه مرارا..، وعرض عليه بعض التجار عشرة آلاف درهم من أرباحهم لكنه رفض وقال: نحن بحاجة إلى ما لدينا وجزاهم الله خيرا. وعرض عليه تاجر آخر ثلاثة آلاف دينار (= حوالي 600 ألف دولار أميركي اليوم) ولكنه رفض القبول وغادر المكان”!!