التحديات الجديدة في السياسة الإيرانية: أكثر من مجرد صبر استراتيجي
التحول المطلوب: تحديات الصبر الاستراتيجي
تشير الأحداث الأخيرة إلى أن الاستمرار في اعتماد “الصبر الإستراتيجي” لم يعد كافياً. فقد أدركت إيران أن المنافسات العسكرية مع إسرائيل وحلفائها تقترب أكثر من حدودها، لذا تحتاج إلى خطة أكثر فعالية لمواجهتها. هذا الأمر يستدعي مراجعة شاملة لسياساتها الدفاعية وتكتيكاتها العسكرية.
التاريخ كمعلم: الدروس المستفادة من الحروب الماضية
مفهوم “الصبر الاستراتيجي” ليس جديداً، بل له جذور تاريخية في العلوم العسكرية يعرف باسم “الاستراتيجية الفابية”، التي ابتدأها الروماني فابيوس ماكسيموس في مواجهته لحنبعل. هذه الفكرية ظهرت أيضاً في حرب الاستقلال الأمريكية مع جورج واشنطن، الذي تعلم من تجربته العسكرية ضرورة التركيز على تحقيق مكاسب من خلال تكتيك الهجوم غير المباشر.
في سياق التجارب الإيرانية، شهدت البلاد مأساة الحرب مع العراق من 1980 إلى 1988، حيث أظهرت نتائجها الدامية الحاجة إلى استراتيجية أكثر مرونة. فقد أدركت إيران أهمية تعزيز قدرتها العسكرية بعيداً عن المواجهات المباشرة التي تكبد خسائر فادحة.
نحو مراجعة استراتيجية جديدة
في مواجهة الواقع الجديد وما يفرضه من تحديات، قد تضطر إيران إلى إعادة التفكير في سياساتها الدفاعية وتكتيكاتها العسكرية. يجب أن تتضمن هذه المراجعة استراتيجيات بديلة تمكنها من مواجهة التهديدات بشكل فعال دون المخاطرة بخسائر كبيرة. إن إدراك الدروس المستفادة من التاريخ يمكن أن يمثل عنصراً أساسياً في تصميم نموذج عمليات جديد يتماشى مع التطورات الحالية.
### الاستراتيجية الإيرانية: التمدد في إطار دفاعي
تسعى إيران منذ فترة طويلة إلى توسيع نفوذها الإقليمي دون الدخول في مواجهات عسكرية شاملة، حيث تتذكر القيادة الإيرانية الأضرار الجسيمة التي نجمت عن تلك الحروب. ولهذا، طورت إيران استراتيجية تتبنى مبدأ “الصبر الاستراتيجي”، الذي يشمل تجنب المعارك المباشرة، و”الدفاع الأمامي” الذي يسمح لها بالتمدد بشكل تدريجي وغير مباشر خارج حدودها، مع التسبب بأضرار كبيرة لخصومها على المدى الطويل.
إرساء القوة عبر فيلق القدس
في سبيل تنفيذ هذه الاستراتيجية، استثمرت طهران بشكل كبير في برنامجها للصواريخ الباليستية، الذي استحوذ على جزء كبير من ميزانيتها العسكرية. وقد منح هذا البرنامج إيران القدرة على ردع أعدائها من خلال العمل عن بُعد. تأسس بعد الحرب العراقية الإيرانية “فيلق القدس”، التابع للحرس الثوري، والذي مُنيت إليه مسؤولية إدارة العلاقات العسكرية لإيران مع التنظيمات المسلحة في الخارج، وقد بدأ الفيلق أعماله بتقديم الدعم لحزب الله اللبناني بعد الاجتياح الإسرائيلي.
وقام فيلق القدس بدعم عدة قوى في المنطقة، بما في ذلك “تحالف الشمال” الأفغاني. ومن خلال ثلاثة عقود من تبني “الصبر الاستراتيجي”، تمكنت إيران من تعزيز نفوذها الجغرافي والتحكم في مجموعة من الأذرع المسلحة التي ترتبط بتنسيق مع طهران، مما أتاح لها تشكيل تهديد متعدد الجوانب لخصومها.
انهيار الصبر الاستراتيجي: طوفان الأقصى
رغم نجاح إيران في توسيع نفوذها، إلا أن الأحداث التي وقعت في 7 أكتوبر 2023 شكلت نقطة تحول في استراتيجيتها. فقد أدى “طوفان الأقصى” إلى تعريض المبادئ الدفاعية الإيرانية للخطر، حيث استهدفت العمليات العسكرية الإسرائيلية قدراتها على تأمين مواطنيها ولم تعد تتبنى ذات التوجه الاحترازي.
زاد هذا التحول من قلق قادة إسرائيل حول “محور المقاومة”، وأدى إلى إعادة التفكير في عقيدتهم القتالية. حيث أصبحت هناك حالة من الإجماع على انهاء التهديدات التي يمثلها هذا المحور، بما في ذلك طهران.
التحديات الجديدة لإيران
وجدت إيران نفسها في موقف غير متوقع، حيث اضطرت للتخلي عن استراتيجيتها الدفاعية والانخراط في حروب قد لا تكون قد اختارت توقيتها. على الرغم من ذلك، حافظت على ضبط النفس عبر دعم “وحدة الساحات” العسكرية، مع العمل على تقليل التصعيد والمخاطر المحيطة بها.
تقديرات الولايات المتحدة تشير إلى وجود فرص لتحقيق وقف إطلاق النار ومنع إيران من توسيع دائرة الصراع، الأمر الذي يزيد من تعقيد الموقف الإيراني وفرصها للاستجابة للاجتماعات والمبادرات المحتملة.
تصاعد التوترات في لبنان والتهديد الإيراني
تسير الأمور نحو تصعيد كبير في الساحة اللبنانية، إذ قامت إسرائيل بتعزيز وجودها البحري في البحر المتوسط قبالة سواحل لبنان، رغبةً منها في استعادة الأمن. في هذا السياق، يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يسعى لتوسيع نطاق الحرب، بما في ذلك استهداف شبكة اتصالات حزب الله واغتيال قياداته، مما قد يقود إلى عملية برية لاجتياح الجنوب اللبناني. ومع اقتراب المعارك من حدودها، تواجه إيران خيارًا صعبًا بعدما تلاشى “الصبر الاستراتيجي” الذي اتبعته لفترة طويلة.
الرد الإيراني ومخاطر التصعيد
في مساء الثلاثاء 1 أكتوبر/تشرين الأول، ضربت إيران إسرائيل بصواريخ دقيقة، ولكن من المبكر تقييم نتائج هذا الهجوم. يعتمد ذلك على كيفية رد إسرائيل وقدرة الولايات المتحدة على السيطرة على تصعيد التوتر. الضربة لا تعني أن طهران اختارت المواجهة، بل هي تعكس ردة فعل محسوبة لاحتواء التصعيد الإسرائيلي، مع الإبقاء على الباب مفتوحًا للتهدئة.
القيود على الخيارات الإيرانية
تواجه إيران تحديات كبيرة تعيق قدرتها على اتخاذ قرارات عسكرية. من بين هذه التحديات، يظهر ضعف الميزان العسكري، حيث تدرك إيران تفوق إسرائيل العسكري بدعم أمريكي كبير. كما أن تأخر إيران في استكمال برنامجها النووي يضعف قدراتها الردعية.
أيضًا، تعكس الأوضاع الداخلية تدهورًا كبيرًا، حيث تواجه إيران أزمة اقتصادية خانقة، تفاقمت بفعل العقوبات الغربية التي أثرت على القطاع النفطي والطاقة، مما يزيد الضغوط على النظام.
سياقات الانقسام السياسي
تتواجد تباينات داخل المؤسسة السياسية الإيرانية، حيث يعتقد أحد التيارات أن تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة يمكن أن يحفز النمو الاقتصادي، في حين يدعو تيار آخر إلى الاستمرار في مواجهة “الاستكبار” ودعم المقاومة الفلسطينية. هذا الانقسام يعقد من موقف إيران في اتخاذ قرارات تصعيدية.
سيناريوهات محتملة لمستقبل التوترات
استنادًا إلى هذه الظروف، يمكن تصور سيناريوهين رئيسيين قد تختار إيران أحدهما في الأيام المقبلة. في السيناريو الأول، قد تقدم على مبادرة عسكرية استباقية لدحض تهديدات إسرائيل، مما يساعد على استعادة قوتها على المسرح الإقليمي. لكن تلك الخيارات تحمل مخاطر كبيرة، خاصة مع احتمال تصعيد المواجهات.
أما في السيناريو الثاني، فقد تفضل الحفاظ على الاستقرار الداخلي مع الرهان على وقت طويل لاستعادة علاقاتها مع القوى المؤثرة، ولكن ذلك قد يصعب ردود أفعالها إذا استمرت الضغوط العسكرية.
بغض النظر عن الخيار الذي ستختاره طهران، من الواضح أنه سيكون له تأثير كبير على مستقبل الصراع المستمر.