الأسترالِيّون استخدموا الحرائق لخدمة الزراعة منذ 11 ألف سنة.. والإستعمار الأوروبي عطلها
وعمل فريق الباحثين في البحث الذي نُشِرَ في مجلة “نيتشر جيوساينس” على تحليل الفحم المحفوظ في رواسب مجرى مائي قديم ومغمور بالمياه منذ 150 ألف عام. وتوصَّلوا إلى أنه قبل نحو 11 ألف سنة خلت، حدث تغيُّر في نمط الحرائق، إذ أصبحت أكثر عدداً وأقل شدة، وكان ذلك مرتبطًا بإقدام السكان الأصليين على استخدام العصا الناريةفي المجال الزراعي، ومع ذلك قضى الهيمنة الأوروبية على هذه الفعالية أو تقريبًا، مما تسبب بعودة الحرائق الغابات العنيفة.
حوكمة الحرائق في أستراليا
يعتقد العلماء أن أحد الأسباب وراء زيادة الحرائق الكارثية في أستراليا اليوم يعود إلى انقطاع سكانها الأصليين عن إدارة النار بعد وصول الاستعمار الأوروبي، مما أدى إلى تقليل التنوع البيولوجي وتراكم كميات الوقود.
ووفقًا لالإعلان الصادر عن جامعة جيمس كوك، فإن إدارة الحرائق في أستراليا، المعروفة باسم “الزراعة بالعصي النارية”، تشكل جزءًا لا يتجزأ من تراث وثقافة السكان الأصليين، والتي كان لها دور في تغيير جذري للبيئة الطبيعية في جميع أنحاء البلاد.
تتضمن الزراعة بالنار عمليات حرق متكررة وخفيفة في مناطق صغيرة بنمط “فسيفسائي” غير مكتمل لتزيين الأرض، وتُنفذ في بداية موسم الجفاف. تعتبر هذه الفعالية ضرورية ثقافيًا وبيئيًا، حيث تقلل من كمية الوقود للحريق، وبالتالي تضعف شدة الحرائق الغابات التي قد تندلع في نهاية موسم الجفاف نتيجة للبرق أو غيرها من المحفزات.
تأريخ حوكمة الحرائق
يرى قائد الفريق العلمي في هذه الدراسة البروفيسور “مايكل بيرد” من مركز التميز التابع لمجلس البحوث الأسترالي المعني بالتنوع البيولوجي والتراث الأسترالي والجيولوجي في جامعة جيمس كوك: “تحتاج إلى سجل طويل جدًا يعود إلى فترة ما قبل وجود الإنسان هنا لكي تستطيع أن ترى كيف كانت الطبيعة دون تأثير النشاط البشري، لتحصل بعدها على بيانات كافية لرؤية التغيرات”.
ووفقًا لبيان من جامعة “جيمس كوك”، تشير الآثار الأثرية إلى أن البشر قد استقروا في القارة الأسترالية لأكثر من 65 ألف سنة، ومع ذلك، لا تعرف سوى معلومات محدودة عن بداية ممارسة الزراعة بالعصى النارية.
وخلال هذه الدراسة، وجد الباحثون سجلًا أثريًا في رواسب بحيرة جيراوين – وهي منطقة غير مستعمرة في إقليم داونز الجنوبي بجوار ولاية كوينزلاند في أستراليا- في تحليل حفرة مائية منهارة قرب داروين في الإقليم الشمالي، وتعد البحيرة مكانًا مهمًا لسكان الأرض التقليديين اللاراكيا، واشتهرت بمشهد هجوم التمساح في فيلم “كروكوديل دندي” عام 1986.
بسبب امتلاء البحيرة، فقدمت رواسبها سجلًا مستمرًا من الترسيبات التي لم تتأثر بالجفاف والتشقق، مما سمح لبيرد وزملاؤه بإستخراج نواة من قاع البحيرة للحصول على سجل يقدر بمدة 150 ألف عام من تغيرات أنواع الفحم ومكوناته الجيولوجية، وتراكم حبوب اللقاح.
تغير في الفحم
ويشير الفريق البحثي إلى أنه منذ نحو 11 ألف عام، تظهر تغييرات في رواسب الفحم تعكس تغيرات في شدة الحرائق في المنطقة، ويقول بيرد: “من غير التأثير البشري تصبح الحرائق أقل تكرارًا ولكنها تكون شديدة بما يكفي لحرق الأشجار وإنتاج الفحم، لم تصل النار الأضعف إلى فوق الأشجار، ولكنها تؤدي إلى احتراق ما على الأرض، بمعنى آخر يحترق العشب وفروع الأشجار وأوراقها المتساقطة أكثر من الأشجار النفسها”.<القش والفحم المستخرج من الأشجار يحتويان على تركيزات أعلى من "الكربون 13" مُقارنةً بالفحم العشبي. يُعد "الكربون 13" أحد النظائر المستقرة لعنصر الكربون الموجود في الفحم الطبيعي، وتبلغ نسبته فيه 1.1%. لهذا قام الباحثون بتحليل تركيب وكيمياء البقايا المحترقة في العينة، حيث وجدوا تغيرًا مُستدامًا في نمط الحرائق، من الحرائق ذات التردد المُنخفض والعالي الشدة (النظام الحرائق "الطبيعي")، إلى حرائق أكثر تواترًا ولكن أقل شدة. وقدَّروا أن ذلك نتيجة للزراعة باستخدام أعواد النار لدى السكان الأصليين. يُشير الباحث إلى أن الاستعمار الأوروبي فُرض حظرًا على ممارسات الحرق كوراثة ثقافية، وأعاد كثافة الحرائق نحو النمط الطبيعي. وقال: "نظرًا لامتلاكنا أكثر من 10 آلاف عام من نظام معين للحرائق، فإن الانطلاق من هذا النظام هو الذي يُخلق في الواقع مشكلات هامة للغاية". وهذا يُشير إلى أن هذا التحول ساهم في عودة المزيد من حرائق الغابات عالية الكثافة. يرى أستاذ بيئة الحرائق في جامعة مردوخ في بيرث بأستراليا "جو فونتين": "إن الفهم المُتزايد لكيفية تشكيل الموروث الثقافي لإدارة الحرائق في البيئة الطبيعية الأسترالية، خاصة في المناطق الشمالية، أمر بالغ الأهمية بالنسبة لممارسات إدارة الحرائق المعاصرة التي تأثرت بشكل كبير باستبعاد السكان الأصليين وتجاربهم". وأضاف فونتين أن العقبات التي تعترض تمارين الحرق كوراثة ثقافية تكمن في القوانين والبيروقراطية الصعبة التي يصعب التغلب عليها. ومع ذلك، يوجد أيضًا العديد من الهياكل الثابتة في البيئة الطبيعية حاليًا، تُختلف عن تلك التي كانت عليه قبل الاستعمار. وبناءً عليه، فإن التحدي ينحصر في تحديد مواقع وطرق استعادة ما يُعرف بوراثة الحرق الثقافي كممارسة. وبالتالي، يعتبر العمل المُستمر لتحديد ممارسات الحرق كوراثة ثقافية هناك وتثبيتها كشيء موجود فعلًا بالغ الأهمية لتطوير إدارة الحرائق المعاصرة.