التوازن بين الأصالة والمعاصرة في الفكر الإسلامي

By العربية الآن



العقل الإسلامي بين الأصالة والمعاصرة

المجتمعات الإسلامية ليست متدينة فحسب، بل من أكثر مجتمعات العالم تدينًا (العربية الآن)
العقل والنص صنوان لمرآة الشريعة فليس هناك خصومة بين النص الصريح والعقل الصحيح (العربية الآن)
ينبع الفكر الإسلامي الرشيد من العقل السليم، الخالي من شبهات الهوى وشهوات النفس، إذ لا يوجد نص صحيح في الشريعة يتنافى مع العقل الصريح. فقد نزلت النصوص الشرعية متوافقة تمامًا مع العقل الذي خلقه الله على الفطرة السليمة.

قال ابن تيمية: “كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه متوافق مع صحيح المعقول، والعقل السليم لا يتعارض مع النقل الصحيح، ولكن الكثير من الناس يخطئون إما في هذا وإما في ذاك”.

العقل يشكل المحور الأساسي للتقدم الإنساني والحضاري؛ أي خطوة يحققها الإنسان في هذا المجال هي نتيجة نشاط ذهني وتفكير متواصل ناشئ من نعمة العقل التي منحها الله لعباده.

قيمة ومكانة العقل في الشريعة

ومن الحقائق المقررة أن العقل هو مجال التكليف والتشريف للإنسان، وهو ما ميز الله به بني آدم عن سائر المخلوقات. الاتجاه الذي تتجه إليه الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالتكاليف يهدف لحماية الضرورات الخمس (الدين، النفس، العقل، النسل، المال)، ويأتي العقل في قلب هذه الضرورات للحفاظ عليها وتوازنها.

العقل هو الركيزة الأساسية للتقدم الإنساني والحضاري؛ فالخطوات التي يحققها الإنسان في هذا المجال هي نتاج من التفكير المستمر والنشاط الذهني الذي يجسد نعمة العقل التي منحها الله. كما يقول الغزالي، إن العقل هو منبع العلم وأساسه.

لا خصومة بين العقل والنقل

العقل والنص هما وجهان لعملة واحدة في الشريعة؛ فلا توجد خصومة بين النص الصريح والعقل السليم. وقد صور الإمام الغزالي هذا بعبارة “الشرع هو عقل من الخارج، والعقل هو شرع من الداخل، وكلاهما متعاضدان ومتحدان”. ولأن الشرع عقلٌ من الخارج، فقد نزع الله -تعالى- اسم العقل عن الكافر في العديد من القرآن، كما ورد في قوله تعالى: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون} [البقرة: 170]. ولأن العقل هو الشرع من الداخل، قال تعالى في وصفه العقل: {فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [الروم: 29]. فسمى العقل ديناً لكونهما متحدين، كما قال تعالى: {نور على نور} [النور: 35]، أي يرمز لنور العقل ونور الشرع.

الأصالة ليست تحجراً في العقول، والمعاصرة ليست ميوعة في المواقف، ولا ذوباناً في الشخصية. ليس الهدف من الدعوة إرضاء الناس وتحقيق رغباتهم، ولكن هدايتهم ودلالتهم على الصراط المستقيم.

مفهوم الأصالة والمعاصرة

بعد توضيح أهمية العقل ومكانته كضرورة لتجديد الفكر الإسلامي، يجب علينا توضيح مفهومي الأصالة والمعاصرة. لا شك في أن المفردات ليست هي الأهم بقدر ما تعكس المعاني والمقاصد.

  • تعريف الأصالة والمعاصرة:

الأصالة تعني “الاحتفاظ بجوهر الدعوة استنادًا إلى الأصول والأدلة الشرعية، والتمسك بمبادئها الأساسية”؛ بينما المعاصرة تعني “تطور الدعوة ومرونتها في معالجة قضايا العصر الحالي، بما يتماشى مع احتياجاته المتجددة”.

تسعى المعاصرة إلى أن يعيش الإنسان في ثوب عصره دون جمود أو مخاوف من مواجهة الواقع، وأن يجد حلولًا لمشكلاته. المسلم يجب أن يكون فعالًا وصانعًا لواقعه دون تردد.

  • الأصالة والمعاصرة في تاريخنا الإسلامي:

على الرغم من تكرار مصطلحي الأصالة والمعاصرة، قد نتخيل أنهما من المستجدات، لكنهما كانا راسخين في القِدم. فمفهوم التجديد والاجتهاد، وتكييف الحلول الشرعية، كان موجودًا منذ زمن بعيد، حتى في فترة الخلفاء الراشدين.

في عهد الخلفاء، اتسعت الدولة الإسلامية وكانت هناك تفاعلات بين أعراق وثقافات مختلفة، مما ساهم في تشكيل أمة جديدة. على سبيل المثال، في عهد أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) اتخذ موقفًا حازمًا تجاه مانعي الزكاة، وفي عهده تم جمع القرآن في مصحف واحد، وهي قصة معروفة. في حين استمرت المستجدات في عصر الفاروق عمر (رضي الله عنه) بسبب ظروف الفتوحات وتنوع الثقافات.

ومن هذا الإرث القديم، ظهرت فتاوى من أئمة المذاهب الأربعة وغيرها، حيث اعتبروا العمل بالمصالح المرسلة من الاجتهادات اللازمة لحل المشكلات التي تواجه الناس، وما زال علماء الأمة اليوم يجتهدون في مجالات الاقتصاد والاجتماع والسياسة والطب وغيرها.

الفكر الإسلامي حاليا يتطلب تصورات جديدة، ومدارس فكرية واعية، وتيارات وجماعات تتعاون على تحقيق أفكار مشتركة، لمواجهة تيارات التغريب والعولمة.

  • الصراع بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة:

للأسف، تفاقم أزمة التجديد في الفكر الإسلامي بسبب الاستقطاب بين تيارات تقليدية وأخرى تجديدية. هذه الصراعات السطحية ليست إلا مصدرًا للفرقة، وتمكن خصوم الأمة من تثبيط عزيمتها.

إن الأمة الإسلامية تحمل تراثًا حضارياً غنياً. إلا أن أزمتنا تتجلى في الصراع بين تيارين هما القديم الثابت والجديد الجذاب.

ورغم ذلك، لا شك أن التطرف من أي من الجانبين ليس في مصلحة الأمة. فالشريعة الإسلامية تتميز بكونها وسطية ومنهجها واقعي، تسعى نحو توازن لا ينزلق في الخيال أو الأوهام؛ كما جاء في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرَّسولُ عليكم شهيدًا} [البقرة: 143].

الأصالة ليست تقييدًا في العقول، والمعاصرة ليست استسلامًا للمؤثرات الخارجية. الهدف من الدعوة هو هداية الناس وتحقيق توجههم نحو الخير. كما قال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 120].

لا بد من ربط الفكر الإسلامي المعاصر بجذور قوية في تراثنا، لتوجيه الأصالة نحو التقدم.

الفكر الإسلامي يحتاج، أكثر من أي وقت مضى، لابتكار أفكار جديدة، وإنشاء مدارس فكرية ومجامع تعمل معًا لمواجهة تحديات التغريب والعولمة. {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة العربية الآن.



رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version