لقد تداخل في هذه المدينة العربي والأمازيغي، وجمع بين الحرب والسلام، والأفريقي والأوروبي، مما أدى إلى نشوء الدار البيضاء، أكبر مدن المغرب وأشهر حواضر المغرب العربي، وثالث أكبر مدن أفريقيا من حيث عدد السكان بعد القاهرة ولاغوس.
من هنا، انبعث المغرب المعاصر بمشاكله التي نتجت عن مؤامرات الاستعمار، حيث شهدت المدينة تسلل الاستعمار البرتغالي إلى السواحل الأطلسية منذ عدة قرون، وتعرضت لتدميرها من قبل الغزاة، مشابهةً لسيناريوهات هولاكو.
كما كانت الدار البيضاء حاضرة في الفترات الحديثة، من حيث الاحتلال الفرنسي الذي أدى إلى بناء أكبر المنشآت الاقتصادية فيها، لتسهيل استغلال البلاد. وقد كانت نقطة انطلاق للأسطول الأميركي في عملية الإنزال الكبير بشمال افريقيا خلال الحرب العالمية الثانية.
مدينة أنفّا: آثار تعود لآلاف السنين
تقع الدار البيضاء على الساحل الأطلسي، على بعد حوالي 80 كم جنوب العاصمة الرباط، وتكون على بعد أقل من ساعتين من أوروبا وأقل من ثماني ساعات من نيويورك.
قبل مئة عام، كانت مدينة الدار البيضاء محدودة المساحة، ولا تتجاوز حدود المدينة القديمة، وكانت بلدة صغيرة بحجم 50 هكتارًا بجوار مرفأ صخري. اليوم، تتمدد المدينة على مساحة حوالي 400 كيلومتر مربع، ويُقدّر عدد سكانها بأكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة.
تشير أبحاث أثرية إلى أن مدينة أنفّا تُعتبر من أقدم مدن العالم، حيث وُجدت جمجمة تعود لبشر عاشوا قبل 300 ألف سنة، وهو أقدم تاريخ معروف حتى الآن. ويظهر أن المدينة كانت مأهولة بالسكان منذ حوالي الألف سنة قبل الميلاد.
تختلف الروايات حول أول من أسس مدينة أنفّا، بين الرومان والفينيقيين، حيث يُرجح أن الفينيقيين أسسوا المدينة، وذلك نظراً لاختيارهم مواقع ساحلية، كما في مدن مثل بيروت وطنجة.
إمارة بورغواطة: بداية تأسيس الحاضرة السياسية الكبرى
يعني اسم أنفا في الأمازيغية “التلة” أو “الهضبة”، بينما تُعتبر فترة إمارة بورغواطة، التي حكمت المنطقة الغربية من المغرب خلال القرنين الثامن والحادي عشر الميلاديين، مرحلة مهمة في تأسيس المدينة كمركز سياسي بارز. ويعتبر المؤرخ ابن خلدون من مؤيدي هذا الاتجاه.
ومع ذلك، يُصر بعض الباحثين على أن المدينة كانت مركزًا صغيرًا ولم تُزدهر إلا في عصر الموحدين، وأن الازدهار الحقيقي جاء في الفترة المرينية بين القرن 13 والقرن 15.
اخترها المرينيون مركزًا تجاريًا، واستولى عليها البرتغاليون والإسبان، ثم أعيد بناؤها في عهد السلطان العلوي محمد بن عبد الله في نهاية القرن الثامن عشر، وأُطلق عليها اسم الدار البيضاء.
الاسم الحاضر، “كازابلانكا”، هو ترجمة للاسم البرتغالي، وكان يأتي من منزل ذي طلاء أبيض الذي كان يستخدمه المسافرون لتحديد موقع المدينة. ومع ظهور دولة المرينيين، تعرضت المدينة للنهب، وأصبحت مركزًا للقرصنة.
غزو البرتغال: نار الانتقام تحرق الساحل المهجور
لعبت أنفا دورًا محوريًا في فك الحصار عن المسلمين في الجزيرة الخضراء، لكن المدينة كانت قد تعرضت للاختفاء في القرن الخامس عشر جراء البرتغاليين.
توجه البرتغاليون لهجوم منظم على المدينة، حيث قام الملك ألفونسو الخامس بمهاجمتها عام 1468 بقوة بحرية كبيرة، ودمّر المدينة وهجر سكانها.
استغلت القوات البرتغالية الفرصة للقضاء على أنفا التي كانت تسجل عمليات ضد وجودهم. وقد ألقت أضافت إلى آثار الدمار أسئلة عن ازدهار المدينة ومصير أهلها.
محمد بن عبد الله: سلطان يحيي المدينة من تحت ركام التاريخ
بقيت الدار البيضاء على ما هي عليه لقرنين قبل أن يأمر السلطان محمد بن عبد الله بإعادة بنائها، مدشّنًا عصرًا جديدًا في تاريخ المدينة.
فتح السلطان باب الهجرة إلى المدينة، فاستقر فيها عدد كبير من القبائل، ودعمت إحياء المدينة بالنشاط التجاري والاقتصادي.
نهضة الدار البيضاء: حركة تجارية تصنع ملامح المدينة الجديدة
في بداية القرن التاسع عشر، لم تكن الدار البيضاء معروفة بالصناعة كما هي اليوم، بل كانت تتكون أساسًا من صناعات تقليدية. لكن بحلول القرن العشرين، استفادت المدينة من موقعها التجاري ومحيطها الزراعي.
شهدت المدينة نهضة تجارية بفضل مينائها، ما سمح لها بالتبادل التجاري الذي عاد عليها بالازدهار، وأسهم في ظهور طبقة برجوازية جديدة.
مؤتمر الجزيرة الخضراء: فرنسا تلتهم البحر والبر المغربي
بينما كانت فرنسا تتوغل في شرق المغرب، كانت مقاومة السكان المحليين تتزايد. كانت الدار البيضاء مركز مقاومة توجه المزيد من الاستثمارات وبدء الأعمال.
وصلت المقاومة ذروتها عام 1907 مع هجوم على أعمال تطوير الميناء، موثقة الصراع العنيف ضد الاحتلال.
كانت الأحداث تتسارع حتى انعقد مؤتمر الجزيرة الخضراء، حيث ورطت فيه قوى الاستعمار نفسها في تقسيم نفوذها على المغرب.
مجزرة الدار البيضاء: ضربة عنيفة لمقاومة الاحتلال
في أغسطس 1907، تعرضت الدار البيضاء لمجزرة كبرى بعد قصف مدفعي من القوات الفرنسية، مما أدى لمقتل المئات من المدنيين، وترك أثرًا عميقًا في نفوس المغاربة.
اضطر الاحتلال الفرنسي نتيجة للمقاومة إلى تعزيز قواته وعزّز قواته بالمزيد من العسكريين لمنع انتشار الانتفاضة.
رحلة طنجة: ضربة تخريبية أزهقت آلاف الأرواح
في أبريل 1947، شهدت الدار البيضاء أحداثًا مأساوية قطعت التواصل الوطني، تخللتها عزل واستهداف وقتل من قبل الفرنسيين.
عانت المدينة أيضًا من قصف مدفعي أمريكي خلال عملية إنزال 1942 وما نتج عنه من دمار وأعداد هائلة من الضحايا.
معبر الأمريكيين: ساحة من ساحات الحرب الكونية الثانية
تصدرت الدار البيضاء المسرح الدولي حين نظمت محادثات عسكرية في يناير 1943، حين حضرها قادة دوليين، مما أعطاها أهمية تاريخية في المرحلة.
”كازابلانكا”.. ملهمة الشعراء والفنانين وقبلة السياح
برزت الدار البيضاء من خلال الفيلم الكلاسيكي الشهير “كازابلانكا”، ودعمت مكانتها كمدينة تاريخية وثقافية، وهنا تتكامل المعالم السياحية.
لطالما استلهم الشعراء والفنانون من روح المدينة، حيث تعكس تحفتها المعمارية ماضيها وحاضرها.
المصادر
[1] shorturl.at/hIP68
[2] shorturl.at/GHPV4
[3] shorturl.at/fgmqT
[4] shorturl.at/pqsu0
[5] هاشم المعروفي. الصفحة 17
[6]
[7]
[8] shorturl.at/NTW12
[9] هاشم المعروفي. عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار أنفا والشاوية عبر العصور، الجزء الأول، الطبعة الأولى 1987، الناشر غير معروف
[10] هاشم المعروفي. الصفحة 112
[11] La Chaouïa et sa pacification : étude sommaire de l’action française dans la région de Casablanca حتى 1 يناير 1909 / Lieutenant Segonds، تاريخ الإصدار الأصلي: 1910.
[12] الدكتور فليكس بروني. في الدار البيضاء من 1 إلى 7 غشت 1907، ترجمة بوشعيب الساوري، تقديم علال الخديمي، منشورات القلم المغربي، سنة 2019.
[13]
[14] La Chaouïa et sa pacification : دراسة موجزة للأفعال الفرنسية في المنطقة حول الدار البيضاء حتى 1 يناير 1909 / Lieutenant Segonds، تاريخ الإصدار الأصلي: 1910.
[15] الدكتور فليكس بروني. في الدار البيضاء من 1 إلى 7 غشت 1907، ترجمة بوشعيب الساوري، تقديم علال الخديمي، منشورات القلم المغربي، سنة 2019.
[16] shorturl.at/hktux
[17] shorturl.at/hktux
[18] عبد السلام انويكة، المغرب زمن الحرب العالمية الثانية بعيون الرئيس الأمريكي روزفلت، دورية كان التاريخية، السنة 14، العدد 52، يونيو/حزيران 2021، ص. 181-191.
[19] shorturl.at/hnuw8
[20] shorturl.at/krux7
[21] shorturl.at/lvy07
[22] shorturl.at/lvy07
[23] هاشم المعروفي. عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار آنفا والشاوية عبر العصور، الجزء الأول، الطبعة الأولى 1987، أعاد نشره المجلس العلمي المحلي لعمالة مقاطعة عين الشق بالدار البيضاء