الدينية بين الأيدلوجيا والمحايدة (4)
يعرف الاهتمام في سياق الدراسة في الدينية بين المحايدة والأيدلوجية بعض التحليلات الفكرية القوية التي أجراها بعض المفكرين الغربيين حول مفهوم الدينية من هذا الزاوية بالتحديد، كتلك التحليل الجريء القوي الذي أجراه إيرفنج كريستول، وهو مفكر أميركي يهودي أصدر دراسة ووصف فيها الدينية بأنها “رؤية بشأن الدين حققت انتصارا على كل من اليهودية والمسيحية”(انظر: المسيري، التعصيب الجزئي والشامل، ج1، ص101).
تايلور بهذا على الأمر مستل من عدد كبير من الباحثين في هذا الموضوع بأنه من تسطيح القضايا الكبرى القول بأن مفهومًا مثل العلمانية لا يتعدى كونه أداة فنية، أو إجراء إداري فقط، يمكن استخدامه لإدارة أي مجتمع، بمراعاة لخلفيته الدينية والحضارية والاجتماعية.
جغرافية المفهوم وتنابض النماذج العلمانية
يتعلق المسيري بتصريح كريستول المسبق بقوله: “وهو يصمد على تسميتها “رؤية دينية”، أي رؤية شاملة (على الرغم من رفض العلمانيين ذلك)؛ لأنها تحتوي على عبارات حول وضع الإنسان في الكون وحول مستقبله، لا يمكن وصفها علميًا؛ لأنها عبارات ميتافيزيقية لاهوتية؛ وفي هذا الدين (العلماني) يقوم الإنسان بخلق نفسه أو تكوينها (تمجيد الإنسان)، فضلاً عن أن الكون لا يحمل معنى يتجاوز نطاقه، ويمكن للإنسان أن يُفهم الظواهر الطبيعية ويتحكم فيها، ويستخدمها بشكل مسؤول لتحسين الحالة الإنسانية، حيث أصبحت قدرة الخلق، التي كانت تعتبر صفة إلهية، تُعد الآن في منظومة الدين العلماني من صفات البشر، ومن هنا خرجت فكرة التقدم. وهذه العقيدة العلمانية تُعتبر الإطار المرجعي لكل من الليبرالية والاشتراكية” (المسيري، التعصيب الجزئي والشامل، ج1، ص101-102).
نستطلع من ما تقدم أن لكل مصطلح -خاصةً المصطلحات الشاملة- مدلوله الجغرافي (جغرافية المفهوم)، وتحمُلاته الفكرية والثقافية، والخلفية المعرفية التي تنبثق منها، حتى اكتشفنا مثلاء غربيين كتشالرز تايلور في دراسة خاصة أشار إليها عزمي بشارة في موسوعته عن الدين والتعصيب يتعلق -يعني تايلور- بمطلب يورغن هابرماس المنادي بفصل المعرفة بين العقل الديني والعقل العلماني، يطالب بحذف أي مراجع دينية في نصوص البرلمانات وغيرها من المؤسسات الدينية بقوله -يعني تايلور-: “يجب تنفيذ هذا على أي فلسفة إلحادية كذلك، وبما أن الدولة لا يمكن أن تكون مسيحية أو إسلامية، فلا يمكنها أن تكون ماركسية أو كانتية أو نفعية..” (بشارة، الدين والتعصيب، (القسم الثاني/المجلد الأول)، ص 826-827).
وتايلور بهذا على الأمر مستل من عدد كبير من الباحثين في هذا الموضوع بأن من تسطيح القضايا الكبرى القول بأن مفهومًا مثل العلمانية لا يتعدى كونه أداة فنية، أو إجراء إداري فقط، يمكن استخدامه لإدارة أي مجتمع، بمراعاة لخلفيته الدينية والحضارية والاجتماعية.
الأحزاب الليبرالية الغربية المعاصرة، لا تخلو من نمط مماثل لهذا، والنموذج الفرنسي بالخصوص برغم اختلاف أحزابه وأنماطه الإجرائية، يكاد يكون كله من نوع التعصيب الشامل أو الصارم، أو المتطرف..
ومن جهة أخرى، إذا كانت العلمانية تعتبر مجرد أداة فنية أو إجرائية محايدة، غير مرتبطة بالفلسفة والأيديولوجيا، فهذا يعني أن العلمانية لا تتجاوز صيغة واحدة أو نهج واحد، بغض النظر عن بيئتها أو ثقافات الأفراد الذين ينتمون لها، أو اسماؤها، بينما نجد أنها تتمثل بنماذج مختلفة تختلف تمامًا في الطابع والهيكل أحيانًا وجزئيًا في أحيان أخرى.
وتتمثل نماذجها بشكل بارز في ما يُعرف بالتعصيب الكلي أو الشامل أو الصارم أو القاسي مقابل التعصيب الجزئي أو الليّن أو السلبي أو المتسامح أو المعتدل، وباعتبار التعصيب مجموعة متضادة على هذا النحو، وباستقلال عن أهمية الإفصاح الدقيق عن التسميات الأولى والمصطلحات المقربة، فإن حصر الشامل منها أو المتطرف أو الصارم أو القاسي ينتج عنه اتخاذ إجراءات قاسية، بل مظالم، ومتجهمة (غير عادلة) تلحق الضرر بأطراف داخلية أو خارجية أخرى.
فهذا فقط كافٍ لإلغاء فكرة أن التعصيب، ليس إلا أداة فنية إجرائية محايدة، بغض النظر عن الجانب الذي يديرها، لأنه يمكن للباحث في تلك الحالة أن يستبصر بدهشة: أين يذهب الإنصاف عندما تصل هذه النماذج من التعصيب إلى سلطة الحكم؟ وما الاشتراكية الستالينية والفاشية، والنازية والصهيونية وإخوتها كتعصيب حزب بهاراتيا جاناتا في الهند، وخصوصًا في ظل زعامة ناريندرا مودي، إلا دلالات على هذا.
بل، الأحزاب الليبرالية الغربية المعاصرة، لا يخلون من نمط مماثل لهذا
وتلك، والمثال الفرنسي بشكل خاص مهما تباينت أحزابه وأشكاله الإدارية؛ تكاد تكون كلها من نوع العقلانية الشاملة أو الدقيقة، أو المتطرفة.. وما إلى ذلك في الوقت الذي يُصنَّف على أساس العلمانية الليبرالية، ولذلك نعود بالتساؤل: هل لا تزال العلمانية في هذا السياق مجرد أداة تنظيمية أو إدارية أو فنية محايدة في مثل تلك النماذج؟
إذا أصر بعض الأشخاص على وجود كل تلك الوحشية في بعض النماذج العلمانية؛ فإن ذلك لا ينفي ضرورة وجود النماذج المعتدلة منها، ولذلك يظل -عنده- الحل الوحيد، بعيدًا عن تلك النماذج المتطرفة، وبعيدًا عن النماذج الدينية، بكل تسمياتها وأشكالها كذلك؛ فيصبح هذا تضادًا واضحًا في المعايير، حيث من المعروف أن الدين الإسلامي -الذي هو موضوع النقاش هنا- هو واحد، وإن كانت أنماط التدين فيه مختلفة، من ناحية وجود الوسطية المعتدلة بحق، والتشدد المفرط، وحتى التكفير والعنف.
فلماذا لا يُشجّع الوسطي المعتدل منها، وفق معايير الإسلام؟ -وليس مؤسّسة راند الأميركية وما في تصريحاتها التي سنشير إليها لاحقًا- ويتم اعتماده وحده، بوصفه الشخصية التي تمثل ثقافة المجتمع وقيمه وفلسفته الاجتماعية، دون اللجوء إلى فكرة استيراد الحل العلماني، الذي يبدو غريبًا على بيئة المجتمع ومعتقداته وقيمه وثقافته؟ ولكن دعاة الحل العلماني لا يولون اهتمامًا لهذا الجانب، ويسعون بكل ما لديهم من إمكانيات داخلية وخارجية ووسائل- بما في ذلك العنف والانقلابات العسكرية والاعتماد على الجهات الأجنبية- لفرض نمطهم على المجتمع المسلم، خارج سياق تلك البيئة وقيمها وفلسفتها وثقافتها، على الرغم من رفض الأغلبية لذلك، فهل يبقى هناك مبرر منطقي أو أخلاقي لديهم بعد ذلك؟
وأنصح بأن تحديد المسألة العلمانية يشير إلى أنه لا يوجد علماني بلا رؤية مسبقة أو مكوّنة: سواء كانت واضحة أو مخفية، مادية أو ميتافيزيقية أو معرفية؛ في التصوّر لطبيعة العلاقة مع الخالق والوجود والإنسان والمعرفة والمجتمع والقيم والحياة الدنيا والآخرة وأشكال العلاقات، سلبًا أو إيجابًا، قد يعترف بذلك ويقر، أو ينكر وينازع! وكمثال تطبيقي على ذلك سيُناقش الفصل الخامس القادم -بعون الله- الموقف من “النسوية” كمثال.