“الروح النقية “الإمام المهدي” الذي أعلن حرباً على حكم الدولة العباسية ونال دعم العلماء مالك وأبو حنيفة.. رحلة النهاية لانتفاضة الأسلاف!

Photo of author

By العربية الآن



“الروح النقية “الإمام المهدي”.. رحلة النهاية لانتفاضة الأسلاف!

المصدر : الجزيره - ميدجورني التاريخ الإسلامي - تراث - انتفاضة الروح النقية
(المصدر: ميدجيرني)
(المصدر: ميدجيرني)

“فيكره الله موسى حين قال: «أنا ربكم الأعلى» وأن أحق الناس بتأدية هذا الدين هم أحفاد المهاجرين الأوائل والناصرين المواسين. يا الله إنهم قد جعلوا حرامك حلالا، وحرموا حلالك أحلالا، وآمنوا بما كتمتَ، وانكروا ما أظهرتَ، اللهم فاعددهم بالعدد، واقتلهم بدونَ، ولا تترك منهم أحدا. أيها الناس إني والله لم أخرج من بينكم حاملا سلطانًا ولا قوة، بل اخترتكم لذاتي، والله لم أأتِ هنا وعلى الأرض مصر يعبد الله فيها إلا وقد خضعت لي فيها الولاء”؛ (تاريخ الطبري).

هكذا -منذ 1300 سنة هجرية- أعلن النبي محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى الهاشمي المشهور “النفوس النقية” (ت 145هـ/763م) -من فوق المنبر في المسجد النبوي بالمدينة- بيانه الثوري لإسقاط حكم الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (ت 157هـ/775م)، بعد أن قرر الظهور العلني في شوارع المدينة النبوية محملا مثلياته الثورية بين أبناء مدينته، وذلك في اليوم الأول من شهر رجب سنة 145هـ/763م.

كان تأثير خروجه الرائع يعمل بسحر على أبناء المدينة ومن التبعوهم من القبائل العربية، حيث كانوا عند رؤيته بينهم في المدينة يهتفون له في شوارعها: “المهدي.. المهدي..”.

“المهدي”! لقد كان -في نظر معجبيه- رمزًا لأمل كبير في التغيير، وكانت إجابة ثورية على الظلم الذي غمر البلاد وألهم الجماهير؛ حسب السجلات التاريخية.

وحسب ما يقوله المؤرخ أبو جعفر ابن طباطبا العلوي المشهور باسم ابن الطقطقي (ت 709هـ/1309م) -في كتابه ‘الفخري في الآداب السلطانية‘- كان أهل المدينة “متمسكين بالأخلاق النبيلة، ويثقون فيه بالفضيلة والرئاسة”، ولذلك كان لدعوته تأثير في أنحاء واسعة من الأمة حيث “اتبعه في كل مكان”؛ كما يقول الإمام ابن الحسن الأشعري (ت 324هـ/936م) في كتابه ‘مقالات الإصلا الموالين هواك وأيــهـــا الذيـن آمــنــــوا في الشام وما حولها، وكذلك في المغرب الإسلامي، وجمعت تحت قيادتها مجموعة من العلماء الموثوقين مثل الإمامين أبو حنيفة (ت 150هـ/768م) في العراق ومالك بن أنس (ت 179هـ/795م) في الحجاز، ودعمها أفضل طبقات المعتزلة، ومجموعة من القبائل المعارضة لحكم الدولة العباسية الصاعدة.

وهكذا كانت هذه الثورة السياسية الشاملة امتدادًا للنهج الوسطي الذي وضعه الإمام زيد، الذي كان برنامجه الفكري والسياسي يمتاز بالتوافقية حيث اجتمعت الجماعات تحت لواء واحد، وقد تم نقل هذا التوافق إلى ثورة النفس الزكية، وبالفعل كانت هناك تداخلات كبيرة بين الثورتين مما يعزز الاعتقاد بأن النفس الزكية ظل محسومًا بتوجيهات ابن عمه الإمام زيد حيث انعكس رأيه فيما يتعلق بالخلافة والولاية، وربما كل هذا جاء نتيجة لتحول البيت الحسني ليكون مركزًا رئيسيًا لتيار الزيدية حتى اليوم.

أما الفرع الجعفري -تحية لالإمام جعفر الصادق الهشيمي (ت 148هـ/766م)- فقد رسم خطًا سائدًا للفكر السياسي لأهل السنة، وهو الاستمرار في الإمامة الدعوية التي كانت غالبًا تبتعد عن السياسة، وتتجنب الثورات والصراعات، وكان ذلك شكلاً من أشكال المعارضة السلبية التي انضم إليها جموع كبيرة من التابعين والسلف بعد الخسائر الجسيمة التي منيت بها الثورات المسلحة التي شارك فيها بقايا الصحابة وعلماء التابعين وأتباعهم، وذلك خلال الفترة الممتدة من 50-145هـ/672-763م.

وبالنظر إلى التاريخ، يبدو أن حركة النفس الزكية كانت ثورة من أجل تصحيح مسار الثورة العباسية التي نشأت بعد تحضيرات طويلة وصراعات عنيفة شاركت فيها النفس الزكية بنشاط وقيادة، وبالفعل تم تقديم البيعة له مبكرًا من قبل معظم أفراد البيت الهشيمي ليصبح زعيمًا في التحول الضخم الذي كان متوقعًا ليصبح الخليفة الأول في الدولة الجديدة، وهو والعباسيون وتيارات أخرى ينتمون إلى موجة ثورية كبيرة استمرت عدة عقود.

ومن الواضح أن التحولات الكبرى في التاريخ تؤدي إلى الصراعات الداخلية، وتزعزع الاستقرار السياسي والاجتماعي، وغالبًا ما تكون صناع الثورات هم أولى الضحايا. وإذا كانت تلك الحقبة الثورية قد لاحقتها قساوة شديدة -بفعل أعداءها من عشيرة العباسيين- مثل ما حدث مع البيت الهشيمي -وبالذات فرعه الحُسيني- في ثورتي الإمامين الحسين بن علي وحفيده زيد بن علي زين العابدين الهاشمي (ت 122هـ/740م).

أحد الرؤساء الكبار في الثورة الفرنسية، جورج دانتون (ت 1794م؛ 1208هـ)، قد قال: “الثورة تأكل أفرادها”. ويمكن تطبيق هذه العبارة تمامًا على ثورة الهاشميين ضد بني أمية بكل تطوراتها الثورية.

فقد تناول الإمام والمؤرخ، تقي الدين المقريزي (ت 1441م؛ 845هـ)، الصراع السياسي بين بني أمية وبني هاشم بإهتمام شديد حتى وضع كتابه الشهير “كتاب النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم”. وبناءً على ذلك، تستحق قصة البيت الحسني في ثورة النفس الزكية ونتائجها المثيرة أن تحظى بالإهتمام.

وبمناسبة الذكرى الـ١٣٠٠ لثورة الإمام النفس الزكية التي حلت في عام (2024م؛ 1445هـ)؛ تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على مسار الثورة الجريء الذي تبناه في مواجهته للعباسيين بعد الأمويين، ورسم خريطة البيئة السياسية والثورية التي تحفّزه وتحفّز أنصاره، بالإضافة إلى تحديد أهم عوامل القوة والضعف التي تأثرت بها حركته الثورية، وأساسيات الفشل والانكسار التي واجهها، والنتائج التي نتجت عن هذه التجربة الثورية الملحمية. وهذا يأتي وسط تأملنا في آثار وأثار تلك الفترة في عصرنا الحالي.

61e858cf 0536 4258 87bc ce2eb785235b

نشأة مكينة
تتفاوت الروايات في تاريخ ولادة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الملقب بـ”النفس الزكية” (763م؛ 145هـ). إذا اعتمدنا على رواية المؤرخ البلاذري (892م؛ 279هـ)، الذي قال إنه كان “أحد أبناء ستين” عند وفاته، فهذا يعني أنه وُلد على الأقل في عام 700م، 80هـ تقريبًا.

ولو كانت المصادر متضاربة فيما يتعلق بتاريخ ولادته، إلا أنهم اتفقوا على أنه نشأ في أسرة ذات ديناً عميقاً من بيت هاشم. وكان والده عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (763م؛ 145هـ)، الذي كان يُلقب “المحض” أو “الكامل” لأنه كان “من أجمل الناس وأكملهم وأعلمهم”، وفقًا للمؤرخ كَمَال الدين الفوطي (1323م؛ 723هـ) في “مجمع الآداب في معجم الألقاب”.

وكانت تلك الصفات التي تميز بها عبد الله المحض، تجعله “شيخ الطالبين في زمنه”، على حد قول أبي الفرج الأصبهاني (967م؛ 356هـ) في كتابه “مقاتل الطالبيين”، وقد جعلته، في النهاية، “أحق الناس بالخلافة” حسب الفوطي.

وتظل هذه الأقوال والقصص وأمثالها التي نُسجت من قبل الأصفهاني، تحمل وزنًا كبيرًا نظرًا لتعقيباته المتعارضة حيال نسبه الأصلي ومذهبه. على الأخص، تُشير الروايات التاريخية إلى تنوع الأساليب المستخدمة في توثيق الأحداث والمعلومات التاريخية، بالمقارنة مع سندية أحاديث النبوي.

كما أن كتابه هذا، على الرغم من الانتقادات الموجهة إليه، ظل مرجعًا هامًا لمصادر التاريخ والسير التي تم نقلها عنه من قبل كبار علماء الحديث، مثل الذهبي، الذي أشار في “سير أعلام النبلاء” إلى كون الأصفهاني كان “يروي عنه: الدارقطني (996م؛ 385هـ)” وغيرهم من العلماء. وأوصفه بأنه “صادق في الرواية” حسب الحافظ ابن حجر العسقلاني (1448م؛ 852هـ) في “لسان الميزان”.

وبالنسبة لأم النفس الزكية، فهي هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب القرشي الأسدي، ما يعني أنها من أسرة قريشية بحتة. ولذلك كانت تُعرف بـ”صريح قريش”، بسبب عدم وجود جارية تقام طلبة ولدها في أي جزء من أسلافها أو أمهاتها أو جداتها، وفقًا للأصفهاني.

وفي ظل مناخ المدينة النبوية المليء بالمعرفة، اتجهت النفس الزكية نحو العلم بمرافقة والده في البداية، ثم باتخاذها للعلم من الأئمة التابعين. وبجد واجتهاد شديد، جمعت السنة والكتاب بعناية. ووصفت لنا مراحل سعيها المستميت عندما قالت: “كنت أقتني العلم في دور الأنصار حتى أجلس على عتبة أحدهم، فيوقظني الإنسان قائلًا: سيدك ذهب للصلاة، لا تتخيل نفسك غير عبد له”!!

ووفقًا للأصفهاني، كان والد النفس الزكية يصطحب ابنيه، محمدا وإبراهيم، للإمام الحديث، طاووس بن كيسان اليماني (751م؛ 132هـ)، ويقول له: “حدثهما ربما ينتفعا به”. وقد ورد الذهبي – في “سير أعلام النبلاء” – قائلاً إن النفس الزكية انتفع بعلمها من الأئمة الذين درسوه.

المعرفة وتنويره العلمي يذكر أن “حدث عن نافع، مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفى 117هـ/736م، وأبي الزناد، عبد الله بن ذكوان المتوفى 130هـ/749م”.

وبالرغم من أن المصادر قد تناولت تفاصيل حياة هؤلاء العلماء النافعين، الذين سعوا جاهدين نحو العلم دون اهتمام بالشؤون السياسية، فإنها برزت لنا ببيانات تشير إلى حضور علمي يتجلى في مجالات التعليم والإفتاء، رغم التحديات التي واجهوها خلال حياتهم المضطربة والتي استدعت منهم اتخاذ تدابير لتفادي الضغوطات من السلطات الأموية والعباسية.

ومن ذلك أن الذهبي أشار إلى أن من تلاميذه رووا عنه مثل عبد الله بن جعفر المخرمي، وعبد العزيز الدراوردي، وعبد الله بن نافع الصائغ، وقد أسس هؤلاء مدارس علمية في العراق والحجاز، وخرج من تحت أيديهم علماء كبار في الحديث والفقه. وقد أشار التلميذ المخرمي عن ابن سعد السمعاني إلى أنه “روى عنه العراقيون وأهل المدينة”.

أما التلميذ الدراوردي، فقد روى عنه شعبة، والثوري، وإسحق بن راهويه، وأشاد به معن بن عيسى بقوله “يصلح أن يكون الدراوردي أمير المؤمنين”، وقد وثقت مقولاته في كتب عديدة.

وأما ابن نافع الصائغ، فقد أصبح من كبار الفقهاء في المدينة، وكان أعلم تلامذة الإمام مالك بن أنس. وقد وثقه النسائي وغيره من أئمة المحدثين.

وبخصوص رواية الحديث النبوي، أشار الذهبي إلى أن النفس الزكية وثقه النسائي وغيره من أئمة المحدثين مثل ابن حبان وابن حجر العسقلاني.

على الرغم من عدم وجود مصنفات علمية تركها النفس الزكية قبل وفاته، إلا أن آراءه الفقهية تم نقلها من خلال مؤلفات مختلفة، وقد تم تحقيقها في كتاب بواسطة الدكتور رضوان السيد بعنوان: “النفس الزكية: كتاب السير وما بقي من رسائل الدعوة والثورة”. وإذا راجعنا آراءه في مجالات مثل الجهاد وقتال “البغاة”، نستشف جانبًا من تكوينه العلمي وعمق آرائه.

وبالنظر إلى شخصيته، وصفه الإمام ابن الأثير بأنه “محمد شديد السمرة، سمين شجاع كثير الصوم والصلاة”. وتحدث العمري عن قوته الجسدية وكيفية تفوقه على رجل جرب الفرار منه.

%d8%b5%d9%88%d8%b1 %d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae %d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85%d9%8a %d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ab %d8%a5%d8%b3%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%a7%d8%aa %d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af 000000

إرث ثوري
في سياق الثقافة الجذرية والتعليم القوي، نشأ الروح النقية في المدينة النبوية بحضنها الخاص، كونها مركزًا للنموذج الاجتماعي والسياسي الإسلامي الأول. تُعتبر المدينة مكانًا مهمًا للدعوة والعلم في بدايات الإسلام، مساندة لمبادئه ومقاومة لكل مظهر مناهض لهذه المبادئ.

كانت الروح النقية أحد أبناء المدينة الذين تفاعلوا مع مبادئها وتاريخها، سواء في صناعة الخلفاء أثناء عهد سيطرتها كعاصمة للدولة الإسلامية، أو في مواجهتها لمعارضة السلطة بعد نقل مقر الحكم إلى العراق والشام. هذا الواقع جعل المدينة مكانًا غير مناسب لحركات التمرد بسبب طبيعة أرضها وضعف مواردها.

كان المنصور يعلم تمام الوعي بأهمية منع تمرد الروح النقية، حيث قام بفرض حصار اقتصادي عليها ومنع إمداداتها عن طريق البحر من مصر. كما قام بحصارها أيضًا من جهة الشام لإحكام السيطرة عليها، وقد اعتمد على مستشاريه في تنفيذ هذه الخطة.

تجلى عدم ملاءمة المدينة للثورة من خلال تجربة “ثورة الحرة” التي حدثت قبل ظهور الروح النقية بسنوات. كانت هذه الثورة محاولة لتغيير الحكم في عهد الأمويين بقيادة عبد الله بن مطيع العدوي وعبد الله بن حنظلة الأنصاري.

رفض أهل المدينة سيطرة يزيد وعاشوا تحت حكم عبد الله بن مطيع، وجعلوا مسجد النبي مقرًا لحكمه. شاركوا في معركة مع جيش يزيد وقدموا تضحيات جسيمة خلال تلك الثورة. حيث توفي العديد منهم جوعًا أثناء المحاصرة.

تجربة “ثورة الحرة” وغيرها من التجارب لم تنسى الروح النقية، حيث أظهرت تمسكها بقيم الثورة. كان لديه وعي بالتاريخ الثوري الذي نقلته له العائلة الهاشمية، واستمر في مواجهة الظلم والطغيان من خلال مشاركته في ثورات عدة.

كانت ذاكرة الإمام الحسين والإمام زيد بن علي تغذي احتجاجات الروح النقية ضد الأمويين، وكانت تلك التجارب تعزز ثورتها ضد السلطة الفاسدة.

واقتحموا المدينة في يوم حار وقذفوا بيت الله بالحجارة والنار أثناء قتالهم ضد الثائر عبد الله بن الزبير وفق ما يرويه المؤرخ عبد القاهر الجرجاني في كتابه “الفرق بين الفراق”.

كان للهاشميين وعي ثوري مرتبط برغبتهم في التغيير؛ إذ انضمت النفس الزكية إلى جيش الإمام زيد وهو في منتصف عمره، وأصبح جنديا مدركا لأبعاد الثورة الزيدية التي انطلقت بخروج نجل قائده يحيى بن زيد في خراسان وبعد ذلك بخروج ابن عمهم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

على الرغم من فشل الثورة الزيدية وإحباط أنصارها، إلا أن روح النضال والتغيير لم تختفِ من النفوس الزكية وأنصارهم، خاصة مع جعل الثورة ضد الأئمة الظالمين مبدأ جوهري للزيدية، وكذلك بتوجيه يحيى بن زيد للقيادة بعد وفاته إلى اثنين من بني عمه من البيت الحسني، وهما “محمد وإبراهيم الإمامين” كما ذكر الشهرستاني في كتابه “الملل والنحل”.

إبراهيم الذي قاد جناح الثورة في البصرة، انضم إليه بعض أبناء البيت الحسيني ومن بينهم “الحسين وعيسى ابنا زيد بن علي”، وعندما علم الخليفة العباسي جعفر المنصور بخروجهما، قال بإستغراب: “كيف خرج ابنا زيد ونحن قتلنا قاتل أبيهما كما قتلناه”.

وبناءً على الوعي الثوري كانت إخوته من الثوار ضد العباسيين، حيث تولوا مهمة نشر العمل السياسي المعارض ومواجهة الظلم في المجتمع الإسلامي، وفي كتابه “جمهرة أنساب العرب”، تحدث ابن حزم الأندلسي عن أسماء رواد هذا النضال من أبناء البيت الحسني.

صور من التاريخ الإسلامي - علماء الحنابلة

الرموز المبشرة
بسبب مكانة النفس الزكية الرفيعة في العلم والعائلة والمجتمع، كانت تنعم بالاحترام والتقدير من قبل آل البيت الذين كانوا يطلقون عليه لقب “المهدي” بناء على الإشارات التي جاءت بها الروايات، ويُعتَقَد أنه هو الشخص الذي يشبه هدي رسول الله ﷺ.

وكان والده عبد الله بن الحسن يُعَدّ أسرته وأبنائه لقيادة التغيير الكبير، كما يشير البلاذري إلى أنه كان يُقدم ابنيه محمد وإبراهيم لقيادة الخلافة ويطلق عليهما لقب “المهدي” و”النفس الزكية”.

وبالرغم من عدم موافقة الإمام جعفر الصادق على بيعته، إلا أنه كان يحترمه بنفس التقدير الذي يكنه له الأسرة الهاشمية، وكان يعبر عن تقديره به قائلا: “إن الناس يقولون إنه المهدي وإنه سيموت”.

وكانت شهادة أبو جعفر المنصور تؤكد على هذا الاحترام، حيث شاهده محمد بن عبد الله بن الحسن وهو يغادر منزل ابنه، وعندما خرج قرأ أبو جعفر عليه وركب فرسه وتابعه، مما يظهر احترامه له ولقيادته المحتملة.

ولم يخالف هذا الاحترام حتى منافسه الأكبر أبو جعفر المنصور، إذ شاهده عمير بن الفضل الخثعمي وهو يغادر المنزل وقد نظر أبو جعفر باتجاهه، وبمجرد أن خرج محمد بن عبد الله بن الحسن، أخذ به وساعده على ركوب الحصان وثم أعاد الثياب للجلوس على السرج ومضى، مما يدل على احترامه الكبير له ولعائلته.

“مولاية ال أهل البيت”، بحسب ما قاله الأصفهاني.

نتجت موقعتهم البارزة بأهل البيت عن “محبة الله الواضحة لهم جميعًا، فأقبل الناس عليهم بأجمعهم، وقوى هذا الأمر بأن شرفاء بني هاشم بايعوه وأيدوه للحكم، فقدموه على أنفسهم فزاد شغفهم بالسعي وراء السلطة، وزاد شغف الناس به لتوليها” كما ورد من قبل ابن الطقطقي.

هذه الاتفاقية تؤكد الجدارة الفردية والأخلاقية التي تميزت بها الشخصية الطيبة وجعلتها تحظى بكل هذا التقدير، ويبدو أن دفع “مهديته” كان مصدر شوقه للتغيير، والبحث عن بطل يحارب الظلم ويحقق العدل والأمان، ويرجع خلافة المسلمين إلى مسارها الأولى، ووصلت هذه الآمال إلى اوجها في نهاية العصر الأموي، ليس عند أهل البيت فقط بل عند جموع كبيرة من المجتمع الحجازي على الأقل، لاسيما أن حركة الشخصية الطيبة جاءت في فترة مهمشة شهدت تدهور هياكل الدولة وتحفيز أخرى للازدهار.

وفي فترات مثل هذه، ترتفع فيها الأحلام والآمال، ولكن الشخصية الطيبة – وفقًا لسيرته – لم تتركز فقط على تلك الألقاب الشرفية، وإنما استخدمتها في خطاب الشرعية العائلية التي تنازعه عليها المنصور، فكانت الشخصية الطيبة ترسل رسائله إليه بقوله: “محمد بن عبد الله هو المهدي”؛ كما يفيدنا “السير” للذهبي، الذي يشير إلى أن خطاب “المهدوية” كان شائعًا بين علماء السلف في ذلك الوقت، حتى كان الإمام سفيان الثوري يتحدث عن “عبد الحميد بن جعفر وخروجه [مع الشخصية الطيبة] ويقول [له معتابًا]: لا تخرج للمهدي حتى يجتمع الناس عليه”!! ويُروى أيضًا أن والي المدينة حينها أسر أحد العلماء الأئمة الذين دعموا الشخصية الطيبة “وسبه وأمر بقطع يده، فقال العلماء: الله يصلح الأمير! إن هذا فقيه المدينة وعابدها، وشبه بأنه المهدي! فتركه” الوالي ولم يعاقبه.

على الرغم من ذلك، استخدمت الشخصية الطيبة تلك الألقاب الشرفية في خطاب سياسي صريح ونشاطي فعال، وطرحت مطالب عادلة تلامس تطلعات العديد من جمهور الأمة، وهذا ما جعله مؤهلا لأداء هذا الدور، بالإضافة إلى إلتزامه بمسار عمه زيد الذي حقق أهميته بفضل دوره في التغيير والتضحية، ثم بنيل رضى الناس وتأييدهم بعد ذلك.

فقد انتشرت الزيدية – كما يقول “قاضي القضاة المؤرخ ابن خلدون” (ت 808هـ/1406م) في “المقدمة” – عن اتهامات وقعت على “الشخصية الطيبة” بأنهم “قاموا بالإمامة وفق منهجهم الخاص دون العودة إلى نصوص”. وقد كونت “الشخصية الطيبة” تحالفًا سياسيًّا بين الحق الثوري وشرعية التأييد من مناطق مختلفة، بغض النظر عن الهدف من ألقاب “المهدوية” التي تقربت منه.

وفي سياق رموز اعلان ثورته على العباسيين؛ يقول السجلات التاريخية والسير أن “الشخصية الطيبة” كانت تلتزم بالبادية وتعيش حياة العزلة في نحورها، ولم يقبل الخلفاء ولا ولاة العهود حتى لا يكون ذلك بمثابة اعتراف منه بشرعية ولايتهم، حتى اقام عدة سنين مستترًا في (أجأ) و(سلمى) اللذان يقعان اليوم في منطقة حائل شمال السعودية، كما يشير “العمري” في “مسالك الابصار”.

بدا أن هذا التخفي كان مرتبطًا بنشاطه الثوري السري وتحضيرا لتنفيذ ثورة بعيدًا عن أنظار العباسيين، وهذا ما يثبته “البلاذري” حيث يقول: “واختبأ محمد بن عبد الله بعد أن بايعه مجموعة من أهل بيته ومن قريش، وكان يخرج إلى البادية ليرقب الأمور ثم يظهر أحيانا ويختفي أحيانا”.

ومن العلامات التي تؤكد الجانب السياسي لهذا الاختفاء هو أنه كان موضع شك مستمر من السلطات الأموية ثم العباسية؛ فقد روى الإمام المؤرخ محمد بن سعد الزُهْري (ت 230هـ/845م) -في كتابه الطبقات الكبرى- قول والد “الشخصية الطيبة” بأنه: “عندما زرت هشام بن عبد الملك (ت 125هـ/746م)، قال لي: لماذا لا أرى ابنك محمد وإبراهيم يأتيانا بانتظام؟ فأجبت: سيدي الأمير! أن الخروج بالأبناء محمد وإبراهيم إلى البادية والاعتماد على الخلوة فيها، وليس لانقطاعهم عن سيدنا الأمير مرفوض. هكذا سكت هشام”!!

صور من التاريخ الإسلامي

شرعية محتجزة
تأسست الأرضية الثورية التي خرجت منها حركة “الشخصية الطيبة” وما تبعها من تغييرات كبيرة – وفقا للمؤرخ ابن الطقطقي – في “نهاية دولة الأمويين”، خاصة بعد فشل ثورة الإمام زيد في العراق وابنه يحيى في خراسان، وقبلها إخفاق حركة الإمام الحسين؛ وكلها حركات تركت انطباعا عميقا في نفوس أبناء هاشم من الطلاب والعباسيين، ودفعتهم نحو التفكير في كيفية استمرار هذا المسار الثوري “السلفي” المتجدد.

وطبقا لما يرويه ابن الطقطقي؛ فقد عُقد اجتماع لأهل هاشم في مكة في نهاية حكم آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد (ت 132هـ/751م)،

وحضرت النخبة من بني هاشم الذين ينتمون لعائلة علوية وعباسية، وحضر أيضاً نخبة من الطلاب الصادق جعفر بن محمد…، وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 144هـ/762م)، وابناه محمد «النفس الزكية» وإبراهيم قتيل باخَمْرَى (= بلدة بين البصرة والكوفة)، ومجموعة من الطلاب. وبين العباسيين: السفاح والمنصور، وغيرهما من آل العباس”.

هذا الاجتماع التاريخي تسبب في تحولات كبيرة قد كتب لها أن تنقش تاريخ السياسة لأمة الإسلام على مر العصور. كان سبب الاجتماع هو الوضع الصعب الذي كانت تعيشه الأمة والظروف الصعبة التي كانت تمر بها عائلة الهاشميين. ” لقد آل إليها أمر بنو أمية من الاضطهاد، وانتقال دعم الناس إليهم (= الهاشميين)، ثم أكدوا أنهم بحاجة إلى قائد لبايعه”.

وأضاف ابن الطقطقي أن الهاشميين قرروا بموافقة الجميع مبايعة «النفس الزكية» محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن…، وكان من رواد بني هاشم ورجالهم بالشرف والعلم…، باستثناء الإمام جعفر بن محمد الصادق الذي قال لأبيه (= النفس الزكية) عبد الله المحض: بنك لا يصل إليها -أي الخلافة-، إلا صاحب القَباء (= القفطان) الأصفر، أي المنصور الذي كان يرتدي القَباء الأصفر في ذلك الوقت. قال المنصور “قررت تعيين موظفي الحكومة في نفسي في تلك اللحظة! ثم قرروا بمبايعة النفس الزكية وقدموا له البيعة ، ثم حان وقت بني العباس ألاخذ بزمام الأمور” !!.

والواقع هو أن ما حدث لم يكن نتيجة للدهر، بل كانت خطة محكمة من بني العباس، الذين نجحوا في محاكاة جميع التيارات الثورية التي كانت تقترب منهم نهاية الدولة الأموية. ثم تمكنوا من توجيه الثورة أو “اختطافها”، وتوجيه نشاطها نحو قواهم في خراسان التي كانت تعتبر تحركهم الأكثر ذكاءً من حيث الجغرافيا السياسية.

وقد تأكدت توقعات الإمام جعفر الصادق الذي كان يرى تغيرات العصور وتحول المشاعر نحو العباسيين، وأدرك أن ميزان القوة لم يكن لصالح النفس الزكية وفريقه، كما لم تكن لصالح الإمام زيد قبله، ولذا رفض الانخراط في ثورة لن يبغت نتائجها.

قد تكون من أسباب رفض جعفر الصادق لبيعة النفس الزكية حفظه على أهليته وهو قائد الثورة الرائدة إلى الخلافة، خاصةً لأنه كان متزامنًا معه في السن، مما قد يؤدي إلى تأثير المعاصرة وتعفُن المناصرة بين الأمم، وقد كان هذا ما قصده جعفر الصادق عندما تحدث مع والد النفس الزكية قائلاً: “أنت كبير السن، انا مستعد لبيعتك، أما ابنك فوالله لا أقدم عليه واطلب السماح”. بحسب رواية الأصفهاني،

بل الذهبي يقول – في تاريخ الإسلام – حول موقف جعفر من ثورة النفس الزكية أنه لم يقتصر على عدم تأييدها، بل كان يقوم بتحذير كل من أراد الانضمام إليها من أهل بيته ويرد عليهم قائلاً: “هو والله ميت”!! حين اندلعت ثورة “اختفى جعفر الصادق وذهب إلى ملكية في الفُـرُع (= بلدة تابعة للمدينة) معتزلًا لتجنب التحريض”، رغم أنه كان “سيدَ العلويين في زمانه”؛ حسب تعبير الذهبي في كتابه العلوّ للعلي الغفار.

ربما قصد الذهبي هنا أن جعفرا كان سيد الفرع الحسيني من العلويين، بما أنه كان حينذاك إمام بني هاشم عبد الله المحض والد النفس الزكية.

هذا الاجتماع وما نتج عنه من اتفاق هاشمي وخطة انقلاب الفصيل العباسي ضده، يعطينا تفسيرًا منطقيًا لقسوة الصراع العنيف الذي حدث بين أبناء ثورة واحدة، وجرت أحداثه بين العلويين وأقرباءهم من العباسيين، حيث شعرت العائلة الحسينية بالخيانة والانقلاب على البيعة والإتفاق المشهود، وشهدوا اختطاف ثمار الثورة بعد أن كانوا العلويين طليعتها وزعمائها، وعبّر عن ذلك النفس الزكية في مراسلاته مع المنصور: “الحق حقنا، قمتم بهذا المشروع بنا، وخرجتم به شيعتنا واستفدتم من تقديماتنا” !!

ومن جهة أخرى؛ المنصور وأنصاره شعروا بلياقتهم لتولي الخلافة من حيث الواقعيات المتعلقة بميزان الشوكة وفعالية الأداء الثوري، وأن لهم دورًا في إخراج مشروع الثورة من مرحلة الفوضى إلى مرحلة التنظيم والتنظيم، واعتقدوا أن نجاح انتصاراتهم في إسقاط الأمويين كان بسبب استعدادهم الطويل المدى، وقدرتهم على تحمل الخسائر الكبيرة التي تعرض لها الهاشميون – بقيادة العلويين – في معاركهم السابقة مع الأمويين، وأنهم لن يسمحوا بتكرار هزيمة الهاشميين مرة أخرى.

في سجلهم التاريخي السري، دفع العباسيون ثمنًا باهضًا لم يكن أقله ما عانوه كبار رجالهم من ملاحقات أمنية ملاحقات أموية محكمة. ومن ذلك الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في تاريخ دمشق- من أن شقيق المنصور إبراهيم بن محمد الملقب بـ “إبراهيم الإمام” (ت 131هـ/750م) بقي مختفيًا لدى رجل من أهل الكوفة طوال فترة توليه ثورة العباسيين “.

“مكنه داخل الأرض”!!

بقي الإمام إبراهيم خفيًا في نفقه الخاص لفترة حتى كشف أمره للأمويين أحد رعاة دعوته الذي كان يعمل كوسيط بينه وبين القائد الميداني للثورة في خراسان أبي مسلم الخراساني (ت 755م)، وفي هذا الوقت “أدرك الخليفة الأموي مروان بن محمد (ت 751م) ما حدث، فأمر جنوده بالقبض عليه واحتجازه وقتله”!

كان للعباسيين وجهة نظر خاصة في مسألة شرعية حول من يستحق الخلافة بناءً على النسب النبوي والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه المسألة موضوع جدال بين الثوار الهاشميين عمومًا من أجل استخدامها سياسيًا وتعزيز الشرعية في قلوب الجماهير.

لذا كان العباسيون يحاورون بموقفهم الذي يعتبرونه حق شرعي أصيل لأبناء العباس، عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشمل أبناء فاطمة رضي الله عنها. وقد أشار المنصور في رسائله بشكل واضح إلى ذلك بقوله: “لكنكم أحفاد بنته [صلى الله عليه وسلم]، وعلى الرغم من كونها قريبة إلا أنها غير محق لها التركة، ولا تورث الحكم ولا يمكنها أن تكون الإمامة، فكيف يمكنها الوراثة؟”؛ وفقًا لرواية ابن الأثير.

عبّر شاعر بلاطهم العباسيين مروان ابن أبي حفصة بشكل جيد عن هذه الحجة الفقهية “الافتراضية” التي تمسك بها العباسيون بقوله:
النساء مع الرجال ليسوا ورثة ** ورث ذلك تفسير سورة الأنعام
كيف يكون الورث لأبناء البنات ولا يرثُ ** خلافة الأعمام الأشقياء؟!

قد تصاعد التصادم بين هذه الروايات والتفسيرات، والصراع على ريادة المشهد الثوري بين التيارين الهاشميين، مما جعل الصراع بينهما شديدًا وخطيرًا، حيث قرر التيار العلوي -خصوصًا فرعه الحسني- التصدي، ورد التيار العباسي بتصعيد ضدهم واستخدام العنف لقمعهم، مما جعل دولة العباسية تواجه تحديات هذا الصراع العائلي الذي أثر بشكل سلبي عليها في النهاية نتيجة التصارع بين الأجناس والأعراق داخلها وحولها، حتى واجهوا -في فترة حكمهم الثانية- التحدي من فاطميين مهددين لدولتهم، يدعون تبعيتهم لفاطمة الزهراء رضي الله عنها!

المصدر : الجزيرة - ميدجورني التاريخ الإسلامي - تراث - ثورة النفس الزكية
(المصدر: ميدجيرني)

استيعاب مزدوج
عندما تولت دولة العباسيين وبايعوا أبو العباس السفاح كأمير للمؤمنين، وحضرت غرفة البيعة الشهيرة للنفس الزكية في مكة، شعر بالقلق من التحركات التي يقوم بها البيت العلوي، خاصة فرعه الحسني الذي اتبع نهج الزيدية.

السفاح كان على دراية بالاستعدادات الثورية لهذا التيار، وكان يعرف طموح النفس الزكية ومتابعيها في مختلف المناطق، لذا كان قلقًا من غياب ابنيه محمد وإبراهيم عن حضورهما في القصر، وشك في نيات والدهما عبد الله، حيث “اتهمه السفاح بإخفاء ابنيه، فقال: غابا ولا أدري أين هم! فأجاب: أنت منعتهما”؛ وفقًا لما ورد في كتاب ‘مقاتل الطالبين‘.

لكن السفاح لم يكن على استعجال في التصعيد ضد الحسنيين، لأن الظروف لم تسمح بفتح جبهة جديدة داخلية، حيث كانت الدولة في مرحلة التأسيس وما زالت التهديدات الأموية قائمة، وكانت هناك اختلافات داخل البيت العباسي بشأن مَن يمتلك الحق في خلافة، لذا اتخذ السفاح موقفًا مرنًا لاستيعاب الثورة الحسنية المتصارعة، فهدد بالقتل إذا لم يبايع الثائرون العباسيين، وتوجه بطلب من عبد الله والنفس الزكية وإبراهيم “فقال: لا أطلبهما، والله سيتم قتل محمد وإبراهيم”؛ وفقًا للبلاذري.

على الجانب الآخر؛ كان استراتيجية السفاح تتضمن “تمييزًا لصالح عبد الله وأخيه والذين أفضلهم”، ولقد قال له في إحدى المرات: “يا أبا محمد! أنا موافق على بنك محمد بالبيعة في المدينة دون حضوري، فأجاب: اللهم لا أعرف أين يقيم”؛ كما أورده البلاذري.

وحاول أبو العباس أيضًا أن يصالح منافسه الثائر؛ فقد “زوج ابنه محمد زينب ابنت محمد بن عبد الله” أي ابنة النفس الزكية. وحاول أن يقدم لأسرته بعض المكافآت والهدايا؛ فسمع عبد الله بن الحسن والد النفس الزكية “السفاح يقول: لم أرى ألف درهم يومًا مجتمعة! فوجه له ألف درهم كهدية وقال: لقد قدمنا بعض مستحقاتنا”!!

مع تولي المنصور الخلافة بعد وفاة شقيقه السفاح، بدأت تتغير الاستراتيجيات بشكل كبير

في السياسة تقع “جذر الدولة وتنظيم المملكة، وتنظيم الأنظمة وإنشاء النظام العام”؛ كما ورد في كتب ابن الطقطقي. ولكنه كان يعتقد بقوة أن استمرار استراتيجيات أخيه لن تكون فعالة مع الثوار من أفراد عشيرته العلوية، لذا قرر المواجهة المباشرة معهم دون تردد، وبذلك “أول من أثار الفتنة بين العباسيين والعلويين، وكانت لديهم أجندة مشتركة”؛ كما ذكر الإمام جلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1505م) في كتابه ‘تاريخ الخلفاء‘.

ومن المحفزات التي دفعت المنصور إلى فتح الصراع مع العلويين هو توجه الدولة نحو الاستقرار والقضاء على معظم أعدائها، حيث نجح في قمع تمرد القائد التاريخي للثورة العباسية أبي مسلم الخرساني، وحل الفوضى التي كانت تهدد الدولة في الشرق، وسيطر على تمرد عمه عبد الله بن علي (ت 147هـ/765م) الذي كان له دور كبير في إنهاء حكم الأمويين.

بشكل عام، فقد فهم المنصور التحديات التي واجهت الدولة خلال عهد الصور، ولم يتبقى لديه سوى النقاط الثورية الحادة في مكة والمدينة والكوفة. وبالتالي “عندما تولى المنصور الحكم، كان همه الأساسي هو مسألة محمد [النفس الزكية]، والبحث عن نواياه، فاستدعى أفراد عائلة الهاشم بشكل سري ليستفسر كل فرد عنه بشكل سري، وكانوا جميعًا يعترفون بمعرفتهم له واهتمامه بمعرفة ما يريد، وكان يخشى منهم على نفسه، ولم يكن لديهم خلافات”؛ حسب ما ذكره ابن الأثير. وبينّ الطبري سبب انشغال المنصور بمسألة النفس الزكية أن “أبو جعفر كان قد تلقى البيعة في مكة من بعض المعتزلة” قبل سقوط الأمويين!

وحاول المنصور جذب محمد النفس الزكية للانضمام به وتقديم الولاء عليه بطريقة مشابهة لتلك التي اتبعها أخوه، لكن والدهم كان يعلم بنويه، وقال له: “تأتيني بولدين لتقتلهما”!!
%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae %d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85%d9%8a %d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ab %d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d9%8a%d8%b1%d8%a9

تدابير أمنية
كان أخطر تحدٍ يواجه المنصور هو التأكد من عدم وجود أعداء من النفس الزكية ضمن الحكومة والموظفين، ونجح ببراعته الأمنية في وضع مدير المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي (ت بعد 145هـ/763م) تحت مراقبته الوثيقة، واكتشف عدم ولائه من خلال مكتب الحكم، حيث “كان كاتب زياد متشددا، فعندما علم بذلك المنصور، كتب له ليرسله خاليا من المسؤولية”؛ وفقا للأصفهاني الذي أفاد بتهمة المنصور لزياد بالانحياز للمتمردين، وقال له: “والله لقتلني إذا لم أقتلك! لقد حذرت ابني عبد الله وهربا بعد كشفي لهما”!!

وسمح زياد للنفس الزكية بزيارة المدينة سرًا وتلقي البيعة من الناس، لذا عزله المنصور، وفعل الأمر نفسه مع اثنين من الولاة الذين كلف بهما في المدينة بديلاً للحارثي، وكان يكتفي بمراقبة المتمردين وتشديد الرقابة عليهم من خلال الولي الثالث رياح بن عثمان بن حيان المري (ت 145هـ/763م)، الذي حذر سكان المدينة من هزيمة أجدادهم أمام جيش ابن عمه مسلم بن عُقبة المري (ت 64هـ/685م) في حادثة الحرة، وهددوهم بتكرار النكبة معهم، وصرح البلاذري قائلًا: “يا أهل يثرب، ليس لديكم وقت، استعدوا، إنني ابن عم مسلم بن عقبة الشديد ألم كان عليكم، والمعركة الثقيلة تحل عليكم، والنفاق متجذر بينكم، وأنتم اليوم خلفاء الذين حُصدوا بالسيف، ووالله سأحصد منكم خلف الذين حصدوا، وسأضعكم في الذل كمن أذلك”!!

لكن المنصور استغل الخطر المتوقع من داخل دولته كفرصة للتلاعب بمنافسه وإخراجه من المختبئ، حيث يوضح الطبري أن “أبو جعفر كان يكتب إلى محمد من خلال موثقيه داخل المدينة داعيًا إياه بالظهور ومبلغًا أن موثقيه معه”، ويبدو أن هذا الخداع لم يعد غامضًا للنفس الزكية عندما صدق تلك الرسائل المزيفة “فقال محمد: لو التقينا [جيش المنصور] لجئت إلي أفراد موثقي وظننت أنهم معي”!!

ولم يكتف المنصور بأسلوبه الأمني ومتابعة جهاز الاستخبارات على موظفيه فقط، بل نفذه بشكل كبير ومتنوع على الجمعيات المجتمعية داخل وخارج المدينة، بحيث كان يرسل رسائل إلى الشخصيات العلمية البارزة المعروفة بمواقفها المستقلة من السلطة، يتنكر فيها بصوت النفس الزكية لكشف أي محاولات تفتيت حوله ودعم ثورته، خاصة تلك التي كانت لها تأثير على الرأي العام الإسلامي.

ومن هذا القبيل، وجه المنصور رسالة مزيفة إلى زعيم حركة المعتزلة في البصرة عمرو بن عبيد (ت 144هـ/762م) ليختبر ولاء النفس الزكية، وعندما تسلم الرسالة، فحصل على تبصر ما وراء الكلمات

من خلال مكيدةٍ، أُعيدت الرسالةُ إلى النبي وقالت له: “اخبر صاحبك أن نتوقف هنا تحت الشجرة ونشرب من ماء النهر البارد حتى يأتينا أجلنا بسلام”؛ كما نقله ابن قتيبة الدِّينَوَري (ت 276هـ/889م) في كتابه ‘عيون الأخبار‘. وقد تمَّ تحقيق رغبة ابن عبيد حيث وافاه أجله في السنة التي سبقت اندلاع الثورة في المدينة!!

وبنفس الطريقة، أُختبيء المنصور ليختبر ولاء واحد من عُظماء العلماء السُّنة وهو سليمان بن مهران الكوفي المعروف بـ”الأعمش” (ت 148هـ/766م)، الذي وُصِف بوصفه “شيخ المقرئين والمحدِّثين، شيخ الإسلام، الإمام”. ولكن الأعمش -الذي كان لديه خبرة سياسية وأمنية اكتسبها في أروقة السلطة الأموية- لم يقع في الفخ المعد له، بل قابله بروح فكاهية ساخرة كانت تعد من سماته المعروفة! ذكر الطبري أن “أرسل أبو جعفر رسالةً إلى الأعمش بلسان محمد (= النفس الزكية) يستدعيه للمساعدة، فعندما قرأها قال: لقد علمتم يا بني هاشم أنكم تحبون الطعام! فعندما عاد النبي إلى ابي جعفر وأخبره، قال: أشهد أن هذا من قول الأعمش”!!

ومن الملفت حقًا ذلك الجهد الأمني المُنسق الذي بذله المنصور لكشف القوى الخفية التي تؤيد الثورة بهدوء، حيث بَذل الجهد في استخدام أجهزة الاستخبارات وتنويع الطرق التي تعمل تحت شعارها لكشف الخلايا المتمردة. فـ”وَظَعَ ملايينه على محمد وإبراهيم ليقوموا بمهام التجسس” و”كان المنصور يُرسل أفرادًا ليتجولوا في المدن ويجمعون المعلومات”؛ وفقًا لما أورده البلاذري.

وكان من بين تلك التجارب، أنه أرسل أحد جواسيسه “إلى المدينة ليتعلم تفاصيل حياة محمد (= النفس الزكية)، ودخل المدينة وهو يتنكر وبدأ ببيع العطور وتجنيد شبان للتجسس والاستطلاع، وكان ينفق المال ويعطي لكسب ثقتهم والحصول على المعلومات” وإرسالها إلى المنصور في العراق. ويروي الذهبي -في ‘السِّيَر‘- أن المنصور استخدم في ملاحقته للمتمردين مرتزقته المُختبئين في أزياء الرعاة البدو، “واشترى عبدًا من العرب، وكان يقدم لكل واحد منهم ناقتين، ويفرقهم في طلب الأخبار (= النفس الزكية) وهو يبقى مخفيًا”!!

بالإضافة إلى ذلك، عمد المنصور إلى تشغيل النساء في جهود التجسس على النفس الزكية وأنصاره، خاصةً وأنهن كن قادرات -بشكل مُغاير للرجال- على الوصول إلى أعماق البيوت، حيث كانت النساء المُخبرات يدخلن البيوت بثقة ويجلبن أحدث المعلومات عن سكانها. ومن بين القصص الغريبة في هذا السياق، كان ما ذكره إبراهيم بن محمد البيهقي (ت نحو 320هـ/933م) -في ‘المحاسن والمساوئ‘- حيث أجرى المنصور شخصيًا تحقيقًا أمنيًا بما أنه يرافقه جاريةٌ لتعذيب أحد العلويين، محاولًا الحصول على معلومات عن قائد الثورة النفس الزكية.

ومع تصميم الجارية على عدم الاعتراف، قال لها المنصور: “هل تعرفين فلانة الحلاقة؟”، مما أدى إلى تغيير لون وجهها وظهور علامات الرعب! فأجابت: نعم يا أمير المؤمنين..! ثم استمر في تحقيقه بالقول: “… هي، بالله، استأجرتها بثمن طيب لمتابعتها والتجسس عليها، وهي تزور بيتنا وتعرف تحركاتنا! ثم قال: هل تعرفين فلان الجزار؟” فأجابت: نعم..، ثم أخبرها بما يعرف من معلومات عنه. وهكذا، بوح المنصور بهذه المعلومات من خلال التحقيق والتعذيب!

01cc5863 06a7 4d68 8dfd cc85978f8fff

جبهة شاملة
عمل النفس الزكية على تشكيل جبهة ثورية واسعة، وجمع القوى والتأييد الهائل الذي تركه الإمام زيد الذي كان يُعتبر من قبل جموع الأمة كأحد كبار المثقفين المثابرين، حيث سادت في أوساط تلك الجموع مشاعر التذمر والمواقف المناهضة للسلطة بطريقة سلمية واضحة، حيث كانت تسعى لتوجيه المسار السياسي للعودة إلى حالة الاستقرار قبل تدهور الظروف، واستئناف النهج الرشيد في الحكم.

وقوَّي ذلك الشعور بالتحولات الضخمة التي كانت تمر بها الأمة في ذلك الوقت من تغيير دولي إلى آخر، حيث نجحت النفس الزكية في جمع التأييد له من قبل الدول الرئيسية ذات الأهمية، حيث قال في خطابه أمام أهالي المدينة: “لم أغادر حتى بايعني أهالي الكوفة والبصرة وواسط والجزيرة والموصل”. وفي مقالات الإسلاميين، يُلخّص الأشعري هذا التأييد الشامل للنفس الزكية بوصوله “إلى الآفاق”، مما يُظهر تقبل الناس عمومًا له ورضاهم عنه وموافقتهم على بيعته.

وفي المدينة، التي كانت مهد دولة الإسلام، نجحت النفس الزكية في تشكيل جبهة ثورية واسعة ضمت عددًا كبيرًا من

كم منزل عد في المجتمع القرشي بوزن ثقيل؛ حيث يُعَتبَر الطَبْرِي جزءا من “الذين تحالفوا مع النبي… آل الزبير… وآل عمر” ابن الخطاب، كما ذكر في قائمة جنود الثورة عدة من “العوائل العربية، بما فيهم: جحينة ومuzaynah وsulaym وبنو بكر وأسلم وغفار”.

ملفت أن الشخصية النقية نجحت في جذب كبار شخصيات مجتمع المدينة؛ حيث ذكر الطبري أنه “كان يُصحب… وجوه أهل المدينة وأهل بيته بني الطالب”، وأكد ابن الطقطقي أن عندما ثار “اتّبعه شوَكة المدينة ولم يبق إلا عدد قليل”. وهذا ما يؤكده الإمام ابن كثير بقوله -في ‘البداية والنهاية‘- إن الشخصية النقية عندما أعلنت ثورتها في المدينة خطبت للناس “وأبلغهم أنه لم يأت بقرار من القرارات إلا وقد بايعوه عليها، فبايعه جميع أهل المدينة إلا القلة”.

وبالنسبة للجناح العراقي من الثورة؛ ذكر البلاذري أن قائده إبراهيم بن عبد الله حين أطلق الثورة كان يستعد لمواجهة جيش المنصور “خرج في عشرين أو أكثر”، كلهم من شيوخ قبائل البصرة. وحسب تقدير الأصفهاني -في ‘مَقاتل الطالبيين‘- أن “سجله كان يحتوي على أربعة آلاف” مقاتل في البصرة وحدها، ويضاعف البلاذري هذا العدد قائلا إن مع إبراهيم كان هناك “أحد عشر ألف: سبعمئة فارس وبقية الرجال”!!

الأهم من ذلك كله هو أن الثورة حظيت بدعم الرائدات الفكريين خاصة في المدينة المنورة؛ حيث ذكر ابن سعد -في ‘الطبقات الكبرى‘- أن “مجموعة كبيرة من الفقهاء وأهل العلم” شاركوا فيها. وهذا يؤكد أن ثورة زيد وابنه يحيى والشخصية النقية لم تكن ثورات دينية أو عنصرية، بل كانت ثورة لقطاع واسع من الشعب يناضل ضد ظلم بني أمية، وما بدا كان انحرافًا مبكرًا نحو سياسات الدولة العباسية نحو ممارسات بني أمية، وأن تلك الثورات كانت استكمالًا لثورات الحسين وابن الزبير والفقهاء الذين خرجوا مع القائد الأموي القوي عبد الرحمن بن الأشعث الكندي (ت 85هـ/705م).

ذكر الإمام المؤرخ ابن الأثير -في كتابه ‘الكامل‘- قائمة بأسماء نحو ثلاثين عالمًا وشيخًا من مجتمع المدينة المنورة التحقوا بصفوف الثورة للشخصية النقية، كما ذكر آخرون أسماء أخرى. سنقتصر هنا على أمثلة تركز على أبرز العلماء الذين بايعوه ودعموا ثورته وخرجوا معه إما في المدينة نفسها أو مع أخيه إبراهيم في البصرة، بعضهم شارك في تحضيرات الثورة ولكن توفي قبل بدء الثورة؛ من بينهم كتبهم:

صور من التاريخ الإسلامي - الأئمة 1

سلسلة علماء
1- عبد الواحد بن أبي عون الدوسي (ت 144هـ/762م)، الذي وصفه الإمام جمال الدين المزي “كان من الثقات المعتمدين على زهري (الإمام ابن شهاب الزهري الذي توفي 124هـ/743م)…، وقُتل معه البُخاري (ت 256هـ/870م)، وصنف له ابن ماجه (ت 273هـ/886م)”. وذكر ابن سعد – في ‘الطبقات الكبرى‘- صلته بثورة النفس الزكية حيث كان والده عبد الله بن الحسن “قُدّين له من قبل أبي جعفر في قضية محمد بن عبد الله بأنه كان يعلم شيئًا عن أمره، فهرب منه” وظل في الاختفاء حتى وفاته قبل بدء الثورة بعام.

2- محمد بن عجلان القرشي (ت 148هـ/766م)، الذي وصفه الذهبي -في ‘السير‘- بأنه “الإمام الرئيس المثالي للأعلام…، وكان فقيهًا مفتيًا، عابدًا صادقًا، ذو شأن، له دائرة واسعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم”. ثم ذكر أنه ثار مع النفس الزكية ضد المنصور، وعندما فشلت الثورة “قرر والي المدينة جعفر بن سليمان (ت 174هـ/790م) معاقبته، فقالوا له: لو كنت ترى الحسن البصري (ت 110هـ/728م) يفعل مثل هذا أكنت ستعاقبه؟! قال: لا! قالوا: بن عجلان في أهل المدينة كالحسن في أهل البصرة! ويقال: كان ميلًا نحو قطع يده حتى طلبوا منه التحدث، وتجمع الناس عند بابه، وقال: بتصرف عنه”!!

3- الفقيه والمحدث عبد الله بن يزيد بن هرمز (ت 148هـ/766م) الذي كان معلمًا للإمام مالك بن أنس، وذكر الطبري أنه كان مستعدًا للقتال على الرغم من كبر سنه عندما سُئل عن السبب فقال: “فهمتُ أن عمر كبر سني، لكن غير المسؤول يقلدني”!!

4- الإمام أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ/768م)، مؤسس المذهب الذي اشتهر، وكان من بين أبرز الداعمين للثورة بالمال والإفتاء.

لتَحقيق ثَورَة زيد بن علي، قال الأمام الزمخشري (ت 538هـ/1143م) في تَفسيره ‘الكشاف‘: “وكان أبو حنيفة -رحمه اللَّه- يَصدُر فتوى سرية بوجوب دعم زيد بن عليّ.. ونقل المال إليه والانضمام إليه في مواجهة الظالم المتقن المُعتَمد على كونه إمامًا وخَليفة”. يَبدُو أن وفات زيد لم تَجعل أبا حنيفة يَتَخلَى عن إرثه الثوري؛ إذ يَحكي الزمخشري أيضًا أنه “قالت له امرأة: أشرتَ على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابنيْ عبد اللَّه بن الحسن حتى قُتل! فقال: ليتني مكانَ ابنِكِ”!!

ويُقول الشهرستاني في ‘المِلَل والنِّحَل‘: “وكان أبو حنيفة… على بيعته (= النفس الزكية) ومن ضُمن أنصاره، حتى رُفع الأمر إلى المنصور فسَجَنه حبس الأبد حتى تُوفي في السجن”. ويَرى البعض أن وفاة أبي حنيفة لم تكن طبيعية بسبب موقفه الثوري هذا، فالإمام السيوطي يَحكي -في ‘تاريخ الخلفاء‘- أن المنصور رُبَّما “أَماته بالسم لأَنه أفتى بالانضمام إليه”!!

5- عبد الحميد بن جعفر الأنصاري (ت 153هـ/771م) الذي يُصفه الذهبي -في ‘السير‘- بأنه “الإمام المحدِّث الثقة”. ويَوضح لنا الطبري أن النفس الزكية عندما وَزَعَ المسؤوليات بين رُجال ثورته “خَلَفهُ عبد الحميد بن جعفر الحربة، وقَال: أكفنيها، فقَبَلَها ثم استَقَالَه منها فأعفاه”.

6- الفقيه المحدث أبو بكر عبد الله بن أبي سَبْرة (ت 162هـ/780م) الذي أوَصَفه الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بأنه “الفقيه الكبير قاضي العراق… كان مُفتي أهل المدينة”. وكان هذا الإمام عاملا للمنصور في تجميع أموال الزكاة فلما ثارت النفس الزكية في المدينة اِنضم إليها، ثم إنه “دَفع إليه ما كان معه من المال (= الزكوات)، وقَال: استَعِن به على أمرك! فلماُ قُتِل مُحمد قِيل لأبي بكر: اهرب! فقال: ليس مثلي يهرب، فأخِذ أسيرا فطُرِح في حبسِ المدينة” حتى أُفرِج عنه لاحقًا؛ بحسب البلاذري.

7- الإمام عبد الله بن جعفر بن المسوّر الزُّهري (ت 170هـ/787م) الذي سبق أن ذكرنا تلمُذَتَه على النفس الزكية، ويُخبرنا المؤرخ ابن سعد أنه “كان عالما بالمغازي والفتوى، وكان عبد الله بن جعفر من ثقات مُحمد بن عبد الله بن حسن (= النفس الزكية)، وكان يُعَلِّم علمه..، فلما خَرَج مُحمد بن عبد الله خرج معه”، وقد عَيَّنه مُشرَفًا “على ديوان العطاء” أي وزيرًا للمالية في حكومة الثورة؛ وفقًا لابن الأثير.

ويُضيف ابن سعد أن ابن المسوّر كان أهم جزء من شبكة المخبرين الذين اعتَمد عليهم النفس الزكية في مواجهة الرصد الأمني الحَثيث الذي أداره ضده المنصور بكثافة وكفاءة عالية، فكان “إذا دَخَل المدينة مُستخفيا جاء حتى يَنتَزل في منزل عبد الله بن جعفر، ويَغدو عبد الله فيجلس إلى الأمراء ويسمع كلامهم والأخبار عندهم وما يَخوضون فيه من ذكر محمد بن عبد الله وتوجيه من توجّه في طلبه [للقبض عليه]، فيَنصُرف عبد الله فيُخبِر مُحمدا ذلك كلَّه..؛ فلما قُتِل مُحمد بن عبد اللله اختفى [عبد الله بن جعفر] فلم يزل مُستخفيا حتى استُأمن له فُؤُمَّن”.

8- إمام دار الهجرة مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) صاحب المذهب المُعروف، فالطبري ينَقِل “أن مالك بن أنس استُفتي في الخروج مع مُحمد (= النفس الزكية)، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر [المنصور]! فقال: إنما بايعتم مُُكرهين، وليس على كل مُكرَه يمين، فأسرع الناس إلى مُحمد، ولزم مالك بيته”.

وبسبب موقف مالك المُؤيد للثورة؛ اُعتَقله والي المدينة وأمر بضربه حتى انخلعت كتفُه وحُمِل مغشياً عليه، لكنه رفض التراجع عن موقفه وقال في ذلك مقولته التي سَجَلها التاريخ في وجوب مُعارضة العُلَماء للسُلطة إذا انحرفت: “ضُرِبْت فيما ضُرب فيه سعيد بن المسيب (ت 93هـ/703م) ومحمد بن المُنْكَدر (ت 130هـ/749م) وربيعة [بن عبد الرحمن (ت 136هـ/754م)]، ولا خير في من لا يُؤذَى في هذا الأمر”؛ وفقًا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

صور من التاريخ الإسلامي

مُشارِكَة معتزلية
وبالنسبة لموقف تيار المعتزلة -الناشئ حينها- من ثورة النفس الزكية؛ فيمكن القول إنهم استقر رأيهم -بعد فشل أغلبية الثورات السابقة على الأمويين- على رفض الثورة إلا بعد التأكد من إعداد العدّة التي تضمن النجاح وتعطي غلبة الظن بالنصر، وأرجحية تحقُّق المصلحة على المفسدة. فشيخ المعتزلة القاضي عبد الجبار بن أحمد الهَمَذاني (ت 415هـ/1025م) يقول في كتابه ‘تثبيت دلائل النبوة‘:

“وما يحل لمسلم أن يُخَلّي أئمةَ الضلالة وولاة الجور إذا وَجَد أعواناً، وغلب في ظنه أنه يتمكن من منعهم من الجور، كما فعل الحسن والحسين [ابنا علي ابن أبي طالب]، وكما فعل القُرّاء حين أقاموا ابن الأشعث في الخروج على عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م)، وكما فعل أهل المدينة في وقعة الحَرّة، وكما فعل أهل مكة مع ابن الزبير حين مات معاوية”。

(غادر ابن ابي سفيان المتوفى 60هـ/681م)، وكما قام عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م)، وكما قام يزيد بن الوليد (بن عبد الملك الأموي المتوفى 126هـ/744م)؛ بما تأكدوا من كونه منكراً” على حُكّام عصورهم.

وبالرغم من موقفهم المتحفظ تجاه الثورات؛ يذكر بعض السجلات التاريخية أنهم كانوا يؤيدون منح منصب الخليفة للنفس الزكية قبل سقوط الدولة الأموية، وسبق القول بأن الطبري علل اهتمام المنصور -عند توليه الخلافة- بالنفس الزكية بأن أبا جعفر وقع له [البيعة] في مكة من قبل بعض المعتزلة”.

ويبدو أن تلك البيعة لم تكن محل توافق بين زعماء المعتزلة؛ إمامهم واصل بن عطاء (ت 131هـ/750م) كان يروى حق النفس الزكية في الخلافة بسبب كفاءته وامانته، وذلك ربما بسبب اقتراب واصلٍ من الهاشميين ولا سيما زيد بن علي الذي يمثل النفس الزكية تكملة له في مساره الثوري.

أما الشخص الثاني في زعامة المعتزلة عمرو بن عُبيد فقد تغير موقفه الأصلي إلى الحياد، ولكن يبدو أن لديه علاقة سابقة بالمنصور تأثرت في موقفه ومنعته من دعم النفس الزكية، حتى إن الشهرستاني يؤكد أنه “شاور المنصور وأعلن دعمه له”.

ووفرنا الأصفهاني -في ‘معارك الطالبين‘- بما يشبه “الاجتماع” لمناقشات حصلت بين زعماء المعتزلة لاتخاذ موقف رسمي من ثورة النفس الزكية؛ فذكر أنهم اجتمعوا “واصل بن عطاء وعمرو بن عُبيد في بيت عثمان بن عبد الرحمن المخزومي (ت بعد 130هـ/749م) من أهل البصرة، فناقشوا الموضوع، قال عمرو بن عبيد: من يجب مسؤوليته وهو أهل؟ فقال واصل: المن يجب عليه بالتأكيد خير هذه الأمة: محمد بن عبد الله بن الحسن!

فقال عمرو بن عبيد: لا أرى أن نقرر، ونقم إلا مع من قد اختبرناه، وعرفنا سجله! فقال واصل له: بالتأكيد لو لم يكن لمحمد بن عبد الله ما يثبت فضله إلا أن أباه عبد الله بن الحسن -في سنه وفضله ومرتبته (= مرتبته)- قد اراه عليه، واتخذه فيه فوق نفسه؛ لذا كان يستحق ما قد نشاهده له، فكيف بوضع محمد في نفسه وفضله؟!”.

ويبدو أن الرأي الداعي إلى دعم النفس الزكية في ثورته هو الذي ساد داخل التيار المعتزلي، ولا سيما بعد وفاة عمرو بن عبيد الذي سبق اعلان الثورة بعام واحد، وهذا ما يوضح قائلاً المنصور: “لم يخرج عليّ المعتزلة حتى توفي عمرو بن عبيد”؛ كما جاء في كتاب ‘مدح الاعتزال طبقات المعتزلة‘ للمؤرخ المعتزلي ابو القاسم البَلْخي (ت 319هـ/931م).

وتؤكد المصادر التاريخية من المعتزلة وغيرهم من مواقفهم بدعم الثورة وقتالهم في خندقها عند اندلاعها، ولاسيما في معاقلهم البصرة التي خرج فيها ابراهيم اخو النفس الزكية؛ فموثقهم البَلْخي على سبيل المثال يقول: “خرج المعتزلة مع إبراهيم بن عبد الله… فيهم بشير الرحال (ت 145هـ/763م) فُقتلوا بين يديه صابً، وذلك أن اصحابه اهزموا ووقف هو والمعتزلة وبشير الرحال”. وهو ما يوافقه البلاذري بتأكيده: “وُقتل إبراهيم وصبِر [معه] جزءٌ من الزيدية حتى قتلوا”!!

ومشاركة المعتزلة في ثورة النفس الزكية مسجلة حتى في مصادر خصومهم من الذين اعتادوا في تاريخ الفرق؛ فهذا الامام ابو الحسن الاشعري يؤكد حدوثها بقوله في كتابه ‘مواقف الاسلاميين‘: “ثم خرج بعد محمد بن عبد الله اخوه ابراهيم… بالبصرة فتغلب عليها وعلى الأهواز وعلى فارس وأكثر السواد (= المناطق الزراعية جنوبي العراق)، وسافر عن البصرة في المعتزلة -وغيرهم من الزيدية- ناقص محاربة المنصور… [فحارب عدوانه] حتى قُتل، وقُتلت المعتزلة بين يديه”!!

ونحن نلاحظ هنا أن اشتراك المعتزلة في الثورة هو جزء من اشتراك تيار الزيدية العام فيها، ربما بسبب العلاقة الخاصة التي تربط الجماعتين والتي خلاصها مقترحٍ -في كتابه ‘المحاضرات والنقد‘- بالقول إن الزيدية “يتفقون مع المعتزلة في أصولهم تماماً مع استثناء مسألة الامامة، واقتبست مذهب زيد بن علي من واصل بن عطاء”. واعترف بدعم المعتزلة للنفس الزكية شيخ الشافعية اليمني يحيى بن ابي الخير العمراني (ت 558هـ/1163م)، عندما أكد -في كتابه “الرد على المعتزلة القادرية الخبيثة”- أن النفس الزكية وإخوانها عندما ثاروا على العباسيين “أمُنَّتهم اكابر المعتزلة”!!

التاريخ الإسلامي - تراث - احتفالات النصر

إعلان متعجل
ذكر ابو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) -في كتابه ‘البصائر والذخائر‘- انه “رأى المنصور -أثناء نومه- كانه قد صراع مع محمد (= النفس الزكية)، وان محمد قد اسقطه وجلس فوق صدره، فشرّه ذلك وظل يُفكر، وجمع الاستثارة (= مؤرخي الرؤية)، فتوقف الجميع عن تفسير رؤيته”،

سألت أبي العيناء جدي، فأجاب: “تكسب عليه وتظهر عليه!” قال: وكيف؟! قال: لأنك كنت تقف أسفله والأرض تحت سيطرتك، وكان فوقك والسماء خاصته، فانطلق بعيدًا عنه” وتبددت همومه!!

بغض النظر عن مدى دقة هذه الرواية؛ إلا أن قصتها تمنح تحليلًا لشخصيتين يتنافستان في أحد أخطر فصول التاريخ الإسلامي. طبقًا لما تشير إليه هذه الرؤية؛ السلطة والسيادة للمنصور بكل قوتها وفطنتها، والأخلاق والنبلاء للنفس الطاهرة بكل أخلاقها وتفانيها ورفعتها.

إذا كانت قوة الحكومة هي نقطة القوة لدى المنصور، فإن الدعوة للعدالة وإرث الثورة الزيدية وتجمع العلماء هي محور قوة خطاب النفس الطاهرة؛ ولذلك عندما استخدم المنصور الأساليب المتاحة له لإخماد هذا الصراع؛ رفضت النفس الطاهرة حتى قتل جواسيس الخصم، ورفضت عملية اغتيال المنصور عندما حاول أتباعه ذلك خلال زيارته لمكة سنة 140هـ/758م، وقالت لهم: “لا والله! لن أقتله مهما حدث، سأدعوه أولًا”، فشوّش هذا تدبير الاغتيال؛ بحسب الطبري.

عمل المنصور على استغلال الحس الأخلاقي للنفس الطاهرة ليضغط عليها، وحاصرها ليدفعها للظهور في الوقت والمكان المناسبين له ويجبرها على الظهور السريع، حتى لا تجد حرية في اتخاذ القرارات خارج ضغط الملاحقة المحاولة منه ومن آل بيته، فأمر المنصور سنة 144هـ/762م بنقل والد النفس الطاهرة وإخوته إلى العراق، وأمر جنوده بتنفيذ ذلك بأن “نقلوا آل حسن مكمنًا إلى العراق…، وجعلوهم في المحمّل دون توقف”؛ بحسب الذهبي. وأورد ابن الطقطقي أن المنصور “أخذ عتيقاء السادة منهم (= آل حسن)… فحبسهم عندهم وتوفوا في السجن عندما كانوا بالعراق.”

نجحت خطة المنصور في إساءة ضيقيه وطرده قبل نضج الظروف الملائمة لثورته وخطته؛ حيث يقول ابن الطقطقي إن النفس الطاهرة “علمت بمصير والدها وأفراد قبيلتها وظهرت في المدينة مكشوفة موقفها” قبل الوقت المحدد. ويؤكد ذلك بصراحة الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في “المنتظم”، عندما يقول إن المنصور “أضاف محمدًا حتى قرر الظهور، فخرج قبل موعد خروج أخيه إبراهيم”!!

وبالرغم من الترصد الأمني المكثف والضغين على المنصور؛ نجحت النفس الطاهرة في خداع السلطات العباسية بظهورها المفاجئ في شوارع المدينة المنورة في أول ليلة من شهر رجب سنة 145هـ/763م، وأعلنت الثورة في جيشها الذي كان عدده “مئتان وخمسون رجلًا”، حسب الطبري الذي بين في الوقت ذاته عن قائد للثورة أنه “اجتمع مع محمد تجمعًا لم أشهد مثله ولا أكثر منه، كنت أظن أننا مائة ألف”!!

وربما يُفسَّر الفارق الهائل بين الإحصاءين بأن الأول كان يمثل عدد الجنود لحظة إعلان الثورة، في حين يُظهر الرقم الثاني -إن كان دقيقًا ولم يكن مبالغة كالمعتاد- تقدير لعددهم الذي قابل الجيش العباسي، والفترة بين هاتين اللحظتين هي بمثابة موجز لحياة هذه التجربة الثورية الفاتنة، حيث “بقي محمد بن عبد الله منذ ظهوره حتى قتله لمدة شهرين وسبعة عشر يومًا” انهى حياته بمقتله في منتصف شهر رمضان من نفس العام؛ حسب الطبري.

التاريخ الإسلامي - إصلاح دولة المماليك

حكومة ثورية
خلال تلك الفترة القصيرة، أطلق النفس الطاهرة عليها لقب “أمير المؤمنين” بعدما بايعه الناس للخلافة، وهو شيء لم يحدث سابقًا في تاريخ ثورات البيت العلوي، كما يؤكد ابن حزم الأندلسي في ‘رسالة نقط العروس في تواريخ الخلفاء‘ بأن “لا أحد من ثوار بني علي رضي الله عنه قد نَليَ الخلافة -رغم وجود عدد كبير منهم- إلا محمد بن عبد الله”، إضافة لاثنين بعده.

قدمت النفس الطاهرة خطابًا سياسيًا اتهمت فيه العباسيين بارتكاب أخطاء وآثام؛ فخلال ثلاث عشر سنة من حكمهم وصولًا إلى تلك اللحظة “نشب الطغيان، واندثر العدل، وأغلقت السنة، وشاعت الابتداع”. ومقابل ذلك، عرضت النفس الطاهرة خلاصة برنامجها السياسي قائلة: “ندعوكم أيها الناس إلى الحكم بكتاب الله، والعمل بما جاء فيه، ورفض الشر، والتأكيد على الخير”، وفقًا لخطبتها المنقولة في كتب الزيدية ونقلها عنها الدكتور رضوان السيد في كتابه ‘النفس الطاهرة: كتاب السير وما بقي من رسائل الدعوة والثورة‘.

كما اتخذت النفس الطاهرة سلسلة من القرارات الكبرى التي تبرز استعدادها للحكم وسرعة تنفيذها، كأنها فُعليًا أصبحت دولة ذات سيادة مستقلة. وكانت أولى قراراتها إطلاق سراح المعتقلين “توجه إلى السجن… دق الباب وأطلق سراح من كان داخله” من السجناء؛

بناء على ما جاء في تاريخ الطبري، والذي أشار أيضًا إلى وقوعه خلال الليل “تم سيطرة المشهورة وخزانة المال” بعد تأمين الوضع الأمني واعتقال أبرز قادة الحكومة العباسية بقيادة واليهم في المدينة رياح بن عثمان بن حيان المري (توفي 145 هـ / 763 م).

أيضًا، أقام النفس الزكية سلطة لإدارة شؤون الدولة، ولاحظنا أن اثنين من المعينين فيها كانا من تلامذته الذين تلقوا دروسه قبل الثورة؛ وقدم الإمام الطبري لنا أسماء من يحتلون المناصب الحكومية في هذه السلطة (وزارات العدل والداخلية والمالية والدفاع)، حيث قال إنه “عندما احتل محمد المدينة، استخدم فيها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وفي قضاءها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي، وفي الشُّرَط (= الشرطة) أبو القلمس عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وفي ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مَخْرَمَة…، [وكذلك] استخدم… عبد العزيز ابن الدَّرَاوَرْدي على السلاح”.

كما عين النفس الزكية ولاةً على أهم الأقاليم التي أسرّتها، ويشير الطبري إلى بعضها قائلاً: “استخدم محمد الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر في مكة…، [ثم] استخدم القاسم بن إسحق في اليمن، وموسى بن عبد الله في الشام…، وقتل [النفس الزكية] قبل وصولهما”. كما ذكر البلاذري أيضًا أن “خرج عثمان بن إبراهيم التيمي إلى اليمامة ليستولي عليها لصالح محمد ولم يصلها حتى قتل محمد”.

وصلت أخبار سيطرة النفس الزكية على المدينة -خلال تسعة أيام- إلى الحكومة العباسية في العراق، ويوضح ابن الطقطقي تأثيرات هذا الحدث الكبير قائلاً: “المنصور قام وانتظر، وتبادلوا الرسائل، وكتب كل منهما إلى رئيسه كتابًا نادرًا من الكتب النبيلة، حيث قدم فيها حججه وجوابه لكل ادّعاء. وفي النهاية، استدعى [المنصور] ابن أخيه عيسى بن موسى لمواجهةه (= النفس الزكية)، فانطلق عيسى بن موسى بجيش كبير، والتقوا في موقع قريب من المدينة، وفاز جيش المنصور، فقُتل محمد بن عبد الله وأحضر رأسه إلى المنصور، وكان ذلك في [منتصف شهر رمضان] من سنة خمس وأربعين ومئة”.

وبهذا تم إنهاء فصل الثورة في الحجاز بسرعة، لتليها عملية تصفية جناحها في البصرة ومحيطها جنوب العراق عندما “تم اعتقال أتباع إبراهيم وعماله وقتلهم في الباديات والمناطق النائية”، وفقًا للبلاذري.

المصدر : الجزيرة - ميدجورني التاريخ الإسلامي - تراث - ثورة النفس الزكية
(المصدر: ميدجيرني)

انقلاب سريع
من الممكن أن يكون خطأ تفسير ما حدث في ثورة النفس الزكية ناتجًا عن عدم جاهزيتهم العسكرية، أو عدم فهمهم لطبيعة الميدان الذي واجهوه في معركتهم وهو مدينة المدينة المنورة، فقد كانت لديه خبرة في العمل العسكري كونه كان جزءًا من جيش الإمام زيد، ولكن الروح الثورية الفضلى التي كانت سائدة عند النفس الزكية وأتباعه هي التي أدت إلى اتخاذه لقرارات غير ملائمة، حيث كان يتعرض لضغط من أتباعه الذين يعتمدون على تصوُّرهم “المهدوي” بشكل غير مناسب، مثل افتراضهم أنه سيحقق النصر بغض النظر عن الظروف!

وكانت النفس الزكية تدرك كل هذا؛ فعندما اختار البقاء في المدينة بدلاً من الانتقال إلى مناطق أخرى كانت واعية للتفاصيل الاستراتيجية، إذ يخبرنا البلاذري أن النفس الزكية خطب أتباعه في المدينة في صباح اليوم الذي سيسيطر فيه، قائلًا: “يا أهل المدينة! إني والله لم أأتِ إليكم لأجدد عهد الولاء بكم، فهناك من هم أفضل منكم، وأنتم لستم أهل قوة، ولكنكم أهلي وأصدقاء أجدادي فأحببتكم بقلبي، وبالله لا يوجد مكان يُعبد الله فيه إلا وقد طلبت من سكانه أن يعتمدوا أهليتي”.

ولم يكن النفس الزكية وحده من يقدر تلك الاستحقاقات وإنما يبدو أن هذه النظرة كانت نتيجة لمناقشات هامة مع مستشاريه الكبار، حتى مع العلماء الذين كان من المتوقع أن يكونوا في النقيض من هذه المعايير الاستراتيجية في تخطيط الحروب وإدارتها. فالطبري يروي لنا أن الإمام المحدَّث عبد الحميد بن جعفر الأنصاري “قال: إنا لَعِنْدَ محمد ليلة… عندما قال محمد: أخبروني برأيكم حول الخروج

في نفس الموقف، ذكر أحدهم: “فلنتخاصم، وأنا سأكون في المقدمة” فسألته: “هل تعلم أنك أضعف من النفس الزكية في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك القوة والمواد الغذائية والأسلحة وحتى الرجولة؟” أجاب: “نعم”، فقلت: “هل تدرك أنك ستحارب أقوى الأعداء في الله وأغناهم وأعتى منهم بالمال والسلاح؟” أجاب: “نعم”، ثم قلت: “الحكم الأفضل هو أن نسافر مع من يدعمونك حتى نصل إلى مصر، فوالله لن يعودك أحد، وسوف تحارب الرجل (= المنصور) بنفس قوته وجيشه وفرسانه وماله”!!

وبحسب التقديرات التي قدمها مستشارو المنصور؛ بعضهم اعتقد أنه من الأفضل للنفس الزكية أن تبقى في المدينة، حيث قيل إنها بلد لا تحتوي على حقول زراعية أو موارد جيدة للتجارة؛ كما ذُكر في كتاب ‘مسالك الأبصار‘ للعمري. وأشار الكتاب إلى أن بعض الانحيازات كانت تشير إلى دعم الثورة من البصرة، حيث عندما سأل المنصور أحد كبار مستشاريه عن رأيه قال:

“هل كان لديك فكرة مسبقة؟” أجاب: “كلا، لكن عندما أشير إليك خروج رجل ولا يتخلف عنه أحد، ثم أذكر البلد التي خرج منها (= المدينة) ولا تستطيع تحمل الجيوش، عرفت أنه سيرغب في البحث عن بديل، ففكرت في مصر ووجدتها محبوكة، وكذلك في الشام والكوفة وجدتهما كذلك، ولكن في البصرة وجدتها فارغة فقلقت عليها؛ فأجابه المنصور: “أحسنت”!!

مثير للدهشة أن البصرة كانت بالفعل عاصمة الثورة الثانية بقيادة إبراهيم بن عبد الله أخ النفس الزكية. ولا يمكن أن يكون مثل هذا التقدير إلا بناءً على فهم مسبق لقوة العدو العسكرية، مما ينفي عن جيش الثورة السذاجة العسكرية بحسب شهادة خصومهم في مجلس حرب المعسكر العباسي.

كان من المنطق أن يتجنب النفس الزكية المواجهة المباشرة حتى تتوفر القاعدة العسكرية والسياسية المناسبة، وفي حال قرر المواجهة فإنه كان عليه أن يلتزم بإستراتيجية الحروب الغير تقليدية -أو “حروب العصابات”- مثلما فعلت تنظيمات الخوارج السابقة وهذا يمكن أن يتيح له وجود دولة مركزية داعمة مثل مصر أو الشام أو بلاد اليمن، المنازل المحتملة التي كانت تميل النفس الزكية لدعمها؛ فقد أخبرنا البلاذري، “أن المنصور أمر القادة بكتابة محمد وإقناعهم بأن ينضموا إليه، لأنه كان مصممًا على الذهاب إلى اليمن، ولكن عندما فعلوا ذلك وجلسوا ولم يتحركوا خارج المدينة”!!

المصدر : الجزيره - ميدجورني التاريخ الإسلامي - تراث - ثورة النفس الزكية
(المصدر: ميدجيرني)

التفكك العسكري
يبدو أن تكوينات جيش النفس الزكية لم تخضع لمبادئ الانضباط العسكري بالكامل، وكانت هناك تقديرات مختلفة بين الذين يتقنون الفن العسكري والذين لا يجيدونه، ويبدو أن الأخيرين كانوا يحيطون بقائد الثورة بالثناء والشعارات التي لا تتعلق بالجانب العسكري اللازم.

وعلى الرغم من أن خطوات النفس الزكية في الثورة كانت تعتبر قرارات سياسية عملية وجوانب حربية، تعتمد على تقديرات المصلحة وظروف الميدان المتغيرة؛ إلا أنها انحازت إلى أصوات المتهورين على حساب الجانب العسكري ربما من خوفها من انشقاق الصفوف، وهذا تأثر على بعض قراراتها الحاسمة في الحرب التي رغبت في تقليد “النموذج المثالي” عوضًا عن الاعتماد على الاجتهاد والتفكير المُدروس.

على سبيل المثال، عندما استشارت النفس الزكية أصحابها حول حفر الخندق خلال عهد رسول الله ﷺ، قال جابر بن أنس رئيس قبيلة سُليم: “يا أمير المؤمنين، نحن أخوتك وجيرانك، لدينا السلاح والخيول، فلا تحفر الخندق، لأن رسول الله ﷺ فعل ذلك لحكمة معلومة، وإذا حفرته لن يكون القتال جيدًا على الأقدام، والخيول لن تستطيع التحرك بين الأزقة، وأولئك الذين تحفر دونهم هم الذين يمنعون تقدم الخندق”؛ كما أفاد ابن الأثير.

من الواضح أن رأي زعيم قبيلة سُليم كان الأصوب عسكريًا، ويبدو أنه كان مصدره من هؤلاء الذين كانوا يثقون بالقائد ويتمسكون به بسبب القرابة والولاء كما ذكر النص، إلا أن هذا الرأي واجه اعتراضًا من قادة آخرين قادهم رجل من بني شُجاع من قبيلة جُهَينة، حيث نصح هذا الرجل النفس الزكية قائلا: “حفر الخندق، فرسول الله ﷺ فعل ذلك، وأنتم تريدون تغيير قرار رسول الله ﷺ برأيكم الخاص! فأجابه: “بالله يا ابن شجاع لا شيء أثقل عليكم من لقاء رسول الله وأصحابه، ولا شيء أحب إلينا من مواجهتهم”!!

تعليق النفس الزكية هذا يظهر أنه يفهم الدوافع وراء تلك المناوشات، وأنها ليست سوى حيلة لتفادي المواجهة بشكل مباشر.

وقد دارت المواجهة، وبالرغم من ذلك أبلغ رجاله قائلاً: “اتبعنا فقط آثار رسول الله ﷺ في الخندق، فلا أحد يمكنه منعني عنه، إذاً لست متردداً في مواصلته! وأمر به بالحفر، وبدأ هو يحفر بنفسه الموقع الذي حفره رسول الله ﷺ للأحزاب” خلال غزوة الخندق في سنة 5هـ/627م.

كان من المعتاد عدم قدرة جميع أقسام هذا التشكيل العسكري غير المنظم على الصمود في لحظة تصاعد المواجهة مع جيش المنصور، بقيادة ابن أخيه المحنك عيسى بن موسى العباسي في سنة 168هـ/784م، ولذلك يقول ابن الأثير إنه عندما حاصرت القتال من حول الروح الزكية بسرعة، “تفرق عنه جميع رفقاؤه وبقي ما يقارب ثلاثمئة رجل، فقال لبعض رفقائه: نحن اليوم كصنف من أهل بدر”!!

وهكذا، استمر الجزء المتبقي من المعركة بروح دفاعية مثالية، لا تحكمها قوانين الاستراتيجية العسكرية التقليدية، بل يقودها الحماس والتضحية، ويبدو أن الروح الزكية كانت ترغب في ترك بصمة كريمة تبقى في ذهن التلاميذ، وكان ذلك التصرف تطبيقا لإحدى توصيات والده عبد الله التي نقلها له مع أخيه إبراهيم؛ فكانت تلك التوصية تقول حسب ابن الأثير: “إذا أبى أبو جعفر -يعني المنصور- أن تعيشا كريمين فلا بد أن تموتا كريمين”!!

يبدو أن هذه التوصيات لم تغادر عقل الروح الزكية في نهاية المعركة؛ حيث قام محمد بجمع الناس وتأكيد العهد، ثم حاصرهم لكي لا يفروا من المدينة، وخطبهم… قائلاً: “عدو الله وعدوكم قد نزل في الموقع الذي بالقرب من المدينة، وهم الأهل لهذه المهمة هم أبناء المهاجرين والأنصار، إننا جمعناكم وأخذنا عليكم العهد، عدوكم كثير والنصر من عند الله، وقد أرى أنني أذنت لكم، فمن يرغب منكم في البقاء فليبق، ومن يرغب في الرحيل فليرحل”!!

أما الروح الزكية فظلت تتصدى أمام ضغط أعدائها المكثف “وظلوا صابرين… حتى وقت العصر، ثم بدأ الناس في التفرق وهو يقول: يا أحفاد الأحرار، إلى أين؟ وقام بقتل اثني عشر رجلاً بيديه” وفقًا للبلاذري، بينما يقول الطبري إنه “قتل في ذلك اليوم سبعين رجلاً بيديه” من جيش المنصور الذي كانت قوته تتجاوز الآلاف، معظمهم من الخراسانيين الملتزمين بولاءهم لقائدهم!!

ذهب نداء قائد الثورة المستنجد سدى بعد تفشي المعركة؛ إذ أن اختيار الهروب الذي أعطى المقاتلين الفرصة للانتقال كان يخفف من العتب عن من لا يستطيعون المشاركة في المعركة، وبناءً على ذلك -كما يقول ابن الأثير- هرب أنصار الثورة من حقل المعركة “وخرج الكثير من الأفراد، وخرج الناس من سكان المدينة إلى النواحي والجبال، وظل محمد في مجموعة صغيرة يتقدمون” حتى قتل وهو يصارع وعدد كبير من الفرسان المميزين من جند الجيش!!

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.