هذا نص تاريخي قيّم قدمه لنا المؤرخ البريطاني البارز توماس أرنولد (ت 1348هـ/1930م) في كتابه ‘الدعوة إلى الإسلام‘، نسبه للسلطان المغولي المسلم محمد أوزبك خان (ت 742هـ/1341م) الذي كان يحكم موسكو وكييف، وضمّنه مرسوما ألصق به مطران الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في كييف.
ربما تعتبر كلمات هذا المعاهد السلطاني الإسلامي - الذي من خلاله استفادت المسيحية الأرثوذكسية الروسية من الحرية الدينية بأعلى مستوياتها وأتمها - هي أفضل ما يُفتتح به هذا التمعن في العلاقات بين الروس والمسلمين على خشبة المسرح التاريخي، مع اللحظات الحِرجة والمحطات الصعبة التي شهدها المرحلة.
وإن عدم تدخل المغول المسلمين حينها في شؤون كاتدرائية روسيا الكبرى - كما فعل العثمانيون لاحقًا مع كنيسة "آيا صوفيا" البيزنطية - كان لحظة موشى في تاريخ روسيا القومي والديني؛ إذ حمت مسيحيتها من التعرّض لمصير مثيل لما حدث للمسيحية البيزنطية التي تمتعت أيضًا بحرية وحماية من السلطنة العثمانية. وإذا كان هناك شيء مهم تركه الروس خلال فترات استعمارهم من قبل الحكم الإسلامي؛ فإنه يجب ألا ننسى هذه المواقف الحضارية العظيمة بكل مظاهرها.
والواقع أن هذه الموقف المغولي الإسلامي تجاه كنيسة روسيا كان لحظة تنيرية هامة تمثل امتدادًا لتلك التي كانت موجودة في فترة الخلافة الإسلامية الأولى عندما واجه الإسلام المنطقة القوقازية، وهي مختلفة عن سياق الصراع الكبير الذي حدث في تاريخ علاقة الروس بالعالم الإسلامي، وظل - بشكل عام - خطًا ساخنًا يرتبط منذ عهد الصحابة وحتى فترة الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين الذي يسعى لإرجاع فترة العظمة لإمبراطورية روسيا.
كانت هناك قواعد ثابتة تمييز علاقة الروس بالعالم الإسلامي لأغلب الجزء، حيث كان من أهم هذه القواعد الشعور الروسي بالهوية الثقافية والعرقية في إطار التحدي الموجود في منطقة القوقاز، حيث المناطق التي تقطنها أغلبية مسلمة وشهدت تاريخيا خطوة الحكم الإسلامي، حيث يسعى الروس للبقاء في سيطرتهم بالقوة أو بترويضها، مثل الذي يحدث الآن في التحالف بين موسكو والنظام الشيشاني بقيادة رمضان قديروف في جمهورية الشيشان، حيث أعلن عن نوايا بأن بنادقهم ستجتمع مع بنادق الجيش الروسي في الغزو الحالي لأوكرانيا.
من القواعد أيضا اكتشاف الثقافات بين البلدين، حيث قام المسلمون بكتابة عدد كبير من التقارير والدراسات التي تتناول الشخصية الروسية، وقد بينت الدراسات العديد من الخصائص وأساليب الحياة الاجتماعية لهم، وعرفت انتماءهم الديني (سواء وثنيًا أو مسيحيًا)، وصفت سلوكهم السياسي والعسكري.
كانت هذه الدراسات غنية وشاملة حتى أثرت العقل الروسي المعاصر وتأثره، واعتبرها المؤرخون الروس أحد أهم المعلومات التاريخية الموثقة حول حياة شعبهم. ولا نقول بأن الروس كانوا أقل اهتمامًا من المسلمين بمثل تلك الدراسات، إلا أن إنجازاتهم جاءت - ضمن سياق التعصب الغربي - بتأخير يصل إلى حوالي ألف عام عما فعله المسلمون.
ومن تلك القواعد أيضا حركة المغامرات العسكرية التي شهدتها ولازالت تشهدها في ساحة الجغرافيا السياسية الممتدة من الشرق الأوسط الدافئ إلى أقصى الشرق الروسي في المناطق السيبيرية، حيث حرص الروس في التاريخ على تعزيز وجودهم بالقوة الصلبة، أو بإقامة تحالفات سياسية مع بعض الحكام المسلمين لإنشاء قواعد لهم في المنطقة، ولقد حاولوا اختراق جبهة الأسرة في مصر العثمانية أكثر من مرة، بالإضافة إلى دعمهم للقوى الأوروبية في حروب الصليبية، ومحاولتهم المتكررة لمواجهة الدولة العثمانية بطريقة مستمرة وطويلة.
النقط الساخنة والتصادمات بين الجانبين هي تلك التي نشأت بين المكوّن التركي الإسلامي والمكوّن المسيحي السلافي الروسي، لاسيما أن هناك تقاربات بينهما فيما يتعلق بالبيئة الجغرافية وبعض الصفات الشخصية المشتركة كالجرأة والبطولة، والميل نحو دمج القومية بالعقيدة الدينية، وظهور الإمبراطوريتين التركية والروسية.عندما سرت العلاقات بين الروس ودول جارة كما حلفاء متآزرين، كانت المرتبطة بشكل أساسي بالتحالف الحديث مع الغرب، وقد سهمت في تشكيل تحالفات تعزز قوة تركيا ضد الاتحاد السوفياتي.
عرفت المنطقة تحولًا كبيرًا يعرف بـ "اسلام الترك" و "تنصُر الروس" وهو حدث تاريخي هام للغاية في ما مضى، حاضرها، ومستقبلها. وينير هذا المقال الذي صدر بمناسبة احتفالنا بذكرى 1100 عام على صدور أول دراسة عربية عن تاريخ الروس، ويسلط الضوء على سياقات تشكلها وتطورها، ويناقش العلاقات السلمية والعسكرية، ويتتبع تأثيراتها على مصائر الدول والشعوب في المنطقة على مدى عشرة قرون.
فتوح جريئة
لفهم المشهد الغريب وغير المألوف الذي نشهده اليوم في تاريخ الروس وجيرانهم الإسلاميين، يتعين علينا العودة إلى صفحات التاريخ التي كشفت قصة تضارب بين الروس والشيشان (تسمى أيضًا بـ: ججان/ججن = تششن) والمسلمين في منطقة القوقاز عمومًا. وقد فتحت الفتوحات الإسلامية طريقها -منذ فترة حكم عمر بن الخطاب- بعد فتح العراق وأجزاء من شمال إيران.
قادة الفتوح الإسلامية قرروا التوجه شمالًا حوالي عام 20هـ/641م، بدؤوا بفتح أذربيجان التي كانت تابعة للدولة الفارسية الساسانية، واستمرت هذه المحاولة لمدة عامين تقريبًا، حيث غزا المغيرة بن شعبة أذربيجان من الكوفة في عامي 22هـ/644م وفتحها بالقوة. ووضعوا عليها الخراج كما ورد في كتاب "فتوح البلدان" للمؤرخ البلاذري.
ثم استمر المسلمون في إرسال جيوشهم إلى جنوب القوقاز، حيث شارك الصحابة الأجلاء مثل: حذيفة بن اليمان، وسُراقة بن عمرو، وعبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، والمغيرة بن شعبة، والأشعث بن قيس، والوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص.
استهدفت الاستراتيجية الإسلامية في جنوب القوقاز المناطق الأرمنية التي تشمل شرق تركيا وأرمينيا وجورجيا. وسكان هذه المناطق كانوا بشكل رئيسي من الأرمن والرومان، والجورجيين التي كانت تابعة للإمبراطورية البيزنطية.
على الرغم من تحصن مملكة الخزر اليهودية وقدرتها الجغرافية، نجح المسلمون في اختراقها حوالي عام 22هـ/642م. وذكر ابن جرير الطبري في تاريخه معاهدة الصلح التي أبرمها قائد الجيش الإسلامي مع أهل أرمينيا.
محاولات متكررة
بعد استكمال فتوحات أذربيجان وأرمينيا والأبواب في المناطق الجنوبية والشرقية للقوقاز، توجهت الأعين نحو الشمال حيث تم التوصل إلى صلح مع أهل طفليس أو تفليس (عاصمة جورجيا اليوم) دون قتال. ونصت معاهدة الصلح على منح الأمان لأهل طفليس على أنفسهم وممتلكاتهم وكنائسهم وانخراطهم مع التبعية والجزية.
وواصلت القوات الإسلامية تقدمها نحو مناطق جنوب روسيا الحالية لتأسيس نقاط انتشار فيها في الجانب.
في عصر العباسيين وتحديدًا في فترة خلافة هارون الرشيد (ت 193هـ/809م)؛ حدث في عام 183هـ/799م هجوم كبير من أهل القوقاز الشمالي المقيمين في مملكة الخزر اليهودية على القوقاز الجنوبي (أرمينيا وأذربيجان) "انتهكوا شيئًا عظيمًا لم يسمع في الإسلام مثيل له"؛ وفقًا لكتب الطبري الذي أرسل الرشيد قائدين اثنين من جيوشه "إلى أرمينيا.. وشُغّل الفجوة". يبدو أن هذه الفجوة كانت ثغرة جبلية بين شمال القوقاز وجنوبها دخل منها الخزر وشنوا هجومهم على المسلمين.
دقة غالبة
في العديد من المسائل، أولها الإدراك الجغرافي للمسلمين لأرض "الصقالبة"، سكان شرق ووسط أوروبا، الذين يُشكلون شعوبًا في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وشرق أوروبا وبعض دول البلقان. تحديد "أقصى صقلبة" يشير إلى موطن الروس الأصلي في شمال أوكرانيا وشرق أوروبا.
عملهم في تجارة الجلود والسيوف كان مؤكدًا من قبل العديد من المؤرخين بعد ابن خـُرْداذَبَهْ، خاصة بعد قول أحدهم: "يُدَّعى أنهم نصارى"، مما أثار شكوك المسلمين في ديانتهم. فقد اعتنَق الروس المسيحية في نهاية القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، بعد وفاة ابن خرداذبه بقرن على الأقل.
علَقات منوعة
عبر اختلاطهم بالروس -تجارًا وجالية- تعرف المؤرخون والجغرافيون المسلمون على الروس وبلادهم، حيث عرفوا بلفظ "روسيا" وتحدثوا عن أصلها اللغوي. ووقد تحدث المسعودي عن "أجناس الروس"، مشيرًا إلى أن "الروم تسميهم «روسيا» ومعناه: الحُمْر"!
وسجل بنيامين التُطَيلى حدود "أراضي روسية (= روسيا)"، ووصفها بأنها "واسعة تمتد من ناحية براغ إلى كييف المدينة الكبرى". وكييف كانت تُعرَف لدى المسلمين بمدينة "كويابة"، كانت المدينة "أقرب للمسلمين من مدن الروس، وبها نِعَم ومستقر الملك"، وفقًا لكتاب ‘حدود العالم من المشرق الى المغرب‘.
بفضل العلاقات الإسلامية المتشعبة مع بلاد الروس من الصقالبة وغيرهم، أُرسل ملك الصقالبة إلى الخليفة العباسي ببغداد وفدًا يطلب العون والإرشاد في الدين، وبناء مسجد وحصن للملك. وكانت السفارة العباسية تضم شخصًا روسيًّا يُدعى "سوسن الرُّسّي"، وكان إحدى المشاركين فيها أحمد بن فضلان.
ابن فضلان كان ينتمي لوفد السفارة العباسية إلى ملك الصقالبة والروس، وشارك فيها شخصيات مثل عبد الله بن باشتو الخزري وسوسن الرُّسّي وتكين التركي وبارس الصقلابي.
وتحدث الروس عن حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية آنذاك، حيث كانوا ملتزمين بالوثنية، وهذه المعطيات تعد أولى المصادر التاريخية الموثقة حول تاريخ شعبهم، ورغم أن الوضع قد تغير، إلا أنها تعتبر المعرفة الأولى عن تاريخهم.
في ذكرى مرور 1100 سنة على نشر تلك البيانات.
وقد وُصف الروس -في عدد من الكتب التي كتبها المسلمون قبل وبعد عصر ابن فضلان- بالصلابة والصبر والجبروت في ساحات المعارك والانتصار على الأعداء، لدرجة أنه يقال عنهم بمثل "وليس للروس مزارع ولا معيشة إلا بأسلحتهم"!! وقد عزا مؤرخ الحضارات الأمريكي ويل ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في كتابه "قصة الحضارة"- تصرفات الروس في تلك الفترة المبكرة من تاريخهم إلى "الفقر والظلم، وربما كانت التحديات وقسوة الحياة المستمرة هي التي جعلتهم يتمتعون بالصبر وتقويهم".
يبدو أن هذه الصفات أثرت على تعاملاتهم مع جيرانهم حتى البعيدين، بما في ذلك المسلمين؛ حيث وردت قصص في كتاب "صلة تاريخ الطبري" للمؤرخ عريب بن سعد القرطبي (ت 369هـ/980م) عن بعض هجماتهم التي استهدفت القوقاز الجنوبي مثل أذربيجان، مثلا حين "غزت في هذا العام قوات الروس أذربيجان، واحتلوا بَرْذَعَها (وسط أذربيجان اليوم) وأسروا سكانها".
انفجار الصدام
ويرد لدى الجغرافي الأندلسي ابن عبد المنعم الحِمْيري (ت 900هـ/1506م) تقارير عن تلك الهجمات الدموية؛ حيث يذكر في كتاب "الروض المعطار" تفصيلًا عن إحدى الغارات الروسية على المناطق الإسلامية جنوب القوقاز في النصف الأول من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، مشيرًا إلى أن "الروس.. كانوا أمة عظيمة لا تخضع لعهد أو شريعة" حسب تعبيره.
في تلك الغارة العنيفة، "سالت الدماء بكثرة، واعتُدت النساء والأطفال، ونهبت الأموال، ونُفذت الهجمات وأُحرقت، وعمّ الفوضى حول هذا البحر (=بحر قزوين) بين الأمم؛ نظرًا إلى عدم تعاملهم في السابق مع عدو يهاجمهم بهذه الطريقة، بل كانت معارك التجارة والصيد السائدة".
واستمرت الهجمات الروسية الوحشية في بحر قزوين بدعم من الخزر والشركس، لكن المسلمين في مملكة الخزر اليهودية بالقوقاز الشمالي -حيث كانوا يشكلون نسبة كبيرة من سكان هذه المملكة وكانت لهم مكانتهم- قرروا مواجهة خطر الروس وهجومهم على إخوانهم المسلمين جنوب القوقاز، حيث شاركوا معهم -على حد وصف الحميري- في معركة مصيرية حيث تم هزيمة الروس "وقُتل منهم نحو ثلاثين ألفًا على أعلى رصيف نهر الخزر، ولم يكن للروس فرصة للعودة" إلى مناطق المسلمين!!
وفي نفس الوقت، شارك الروس -بصفتهم جنودًا مرتزقة مثل حال شركة "فاغنر" الروسية الغير الرسمية اليوم- في الكثير من المعارك التي خاضها البيزنطيون ضد المسلمين منذ النصف الأول من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، حيث أشار المسعودي إلى أن "كثيرًا من الروس دخلوا -في ذلك الوقت- ضمن صفوف الروم، مثل الأرمن والبلغار والبجناك من الأتراك، حيث شاركوا بشدة في الدفاع عن حصونهم الحدودية".
وكانت وجود الروس في "الثغور الشامية" للإمبراطورية البيزنطية -وهو ما لم يكن متكررًا تاريخيًا قبل دخول روسيا الحديثة إلى سوريا لدعم نظام بشار الأسد سنة 1436هـ/2015م- تم توثيقه واحتفظ به الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي (ت 354هـ/965م) في قصائده "السيفية"، التي كان يسجل فيها معارك الأمير سيف الدولة الحمداني (ت 356هـ/967م) ضد البيزنطيين، وهكذا كان قوله في "قلعة الحَدَث" أثناء معركتها التي جرت سنة 343هـ/954م:
وكيف يأمل الروم والروس تدميرها ** والطعن بكلمة وأساسها وأركانها؟!!
وكانت أحداث الصراع الإسلامي البيزنطي في ذلك الزمان تشهد أيضًا حادثة أخرى، حيث أورد المؤرخ الشامي حمزة بن القلانسي (ت 555هـ/1160م) -في "تاريخ دمشق"- أن جيش الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني (ت 415هـ/1025م) توجه سنة 381هـ/992م إلى بلاد الشام لمواجهة الفاطميين الذين كانوا يهددون بتوسيع سيطرتهم في المنطقة.
ويقول ابن القلانسي أنه عندما علم ملك البيزنطيين بتهديد الفاطميين انطلق نحو حلب وكانت المسافة بينهما نحو 1500 كم، واجتازوها في مدة 16 يومًا بقوة تصل إلى 3000 فارس وجندي من الروم والروس وغيرهم من المرتزقة.
إن مواجهة مسافة هذا الحجم خلال 16 يومًا تكشف عن حماسة "ملك الروم" وتصميمه على غزو حلب ومنطقتها!!
منحى تاريخي
وفي نهاية ذلك القرن، حدث تحولفي زمن قديم في تاريخ الشعب الروسي عندما قبلوا الديانة الأرثوذكسية، نتيجةً لجهود التنصير الكبيرة التي قامت بها الإمبراطورية البيزنطية في أراضيهم. وبحسب ما ورد في كتاب 'الدولة البيزنطية' للمؤرخ السيد الباز العَرِيني (ت 1406هـ/1995م)، كانت هناك محاولات في عهد باسيل [الثاني] لنشر المسيحية بين الشعوب الوثنية، ويتوقع أن تمت هذه المحاولات خلال فترة حكمه بهدف تحويل الروس للمسيحية.
وفي عهد أمير إمارة كييف الروسية، فلاديمير سفياتوفيتش الملقب بـ"الكبير" (ت 405هـ/1015م)، تبنت الروس المسيحية الأرثوذكسية في عام 378هـ/989م، وأصبحت ديانتهم الوطنية اعتبارا من ذلك التاريخ، وهناك العديد من الآراء حول الأسباب التي دفعت الروس لاعتناق الأرثوذكسية، من بينها عدم تقديم الكنيسة الأرثوذكسية تحريما على شرب الخمور، على عكس الديانات الأخرى.
ويرجع السبب الرئيسي لهذا التحول إلى وجود البيزنطيين في أوروبا الشرقية، وجهودهم المستمرة في دعوة الروس للمسيحية وتعزيز العلاقات السياسية معهم. وبناء على ذلك، اعتنق الروس المسيحية الأرثوذكسية وأصبحوا من أشد المدافعين عنها.
وفي كتاب 'تاريخ روسيا الديني من الوثنية إلى المسيحية'، يشير المؤلفان إيناس سعدي عبد الله وأسامة عدنان يحيى إلى أن الأمير فلاديمير الكبير قام بإرسال أتباعه لدراسة تعاليم الأديان السماوية الثلاثة، وقد قرر اعتناق الروس للمسيحية نتيجة عدم قبولهم بتحريمات الإسلام مثل الختان وتحريم الخمر. كما فشل اليهود في إقناعه بديانتهم.
تحول الروس للمسيحية الأرثوذكسية كان له تأثير كبير على تاريخهم للقرون اللاحقة، حيث أصبحوا من أبرز المدافعين عن هذه الديانة. وظهرت الروس كأمة معتزة بديانتها، مما جعلهم يتصدون للصراعات المستمرة مع الممالك المجاورة، خصوصا الإسلامية."شهدت معركة كبيرة حيث تقدم الروس بعشرة آلاف من الجيش الرومي. قاتلوا بشراسة ومنح الله المسلمين النصر على الروم".
ثم جاء دور الروس في عصر الصليبيين الذي بدأ بعد تلك الأحداث بثلاثة عقود. فسمحوا بمرور بعض القوات الصليبية عبر أراضيهم، حسب الباحث الروسي أ. ف. نازارنكو الذي أشار في دراسته 'روسيا والأرض المقدسة في عصر الحملات الصليبية' إلى مرور "قوات الملك الدانماركي إريك الأول (ت 496 هـ/1103 م) عبر روسيا في طريقها إلى القدس".
وأكد نازارنكو أن "المعلومات الاستطرادية التي نقلها بعض المصادر الفرنسية في القرن الثالث عشر عن مشاركة المقاتلين الروس في الحملة الصليبية الأولى تُعتبر صحيحة بكل تأكيد". وكان ملوك مملكة بيت المقدس الصليبيين يسعون لدعمهم بالإمارات الروسية، على الرغم من الاختلاف الديني بين النصارى المحتلين والأرثوذكس الروس.
نقل فتحي
وبتعزيز الوجود السلجوقي في القوقاز والأناضول، تيقن الإسلام حضوره في تلك المناطق بشكل قوي، مما جعله أكثر انتشارًا مما كان عليه في القرون السابقة. انطلق الإسلام في عصر ذهبي نحو أعماق القوقاز الشمالية (الشيشان وأنغوشيا وأبخازيا)، وصولاً إلى جنوب روسيا. بدأ هذا العصر الذهبي مع وصول الإسلام إلى جبال القوقاز الشمالية وقد جلبته معه إحدى أهم قبائل المغول، وهي "القبيلة الذهبية" التي استقرت منذ عام 620 هـ/1223 م في المناطق شمال بحر قزوين وجنوبي روسيا والقوقاز، وامتدت حتى شمال البحر الأسود في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا وأوروبا الشرقية.
يقدم لنا ابن الأثير معلومات قيّمة حول الشعوب والأديان التي استوطنت القوقاز خلال الهجوم المغولي الأول في عام 617 هـ/1221 م، حيث يشير إلى أنه خلال تلك الحروب، تجول التتار وأطلقوا العنان لعنفهم على الشعوب كالداغستان والترك، ورغم كون هؤلاء المهاجمين مسلمين، فإنهم قاموا بالنهب والقتل.
يُضيف أن المغول تمكنوا من جذب الأتراك المتواجدين في القوقاز منذ فترة طويلة بحجة الانتماء العرقي والنسب: "أرسل التتار إلى قفجاق أنتم جميعا من نفس النسل"، إلا أن المغول بعد تحقيقهم السيطرة على المنطقة خانوا الأتراك.
ويسرد لنا ياقوت الحموي في 'معجم البلدان' حول "اللكز" أو شعوب داغستان وبعض مناطق الشيشان المجاورة، مؤكدًا أن معظمهم مسلمون موحدون ولهم لغة مشتركة، ويمتلكون قوة ومرونة، وبعضهم مسيحيون. وهذا يشير إلى أن بعض المناطق الشمالية من القوقاز تبنت الإسلام بحلول القرن الثالث عشر.
لكن غزو المغول لم ينتهِ عند حدود القوقاز، بل استمروا في توسيع نطاق سيطرتهم إلى بلاد الروس، حيث اجتاحوا منطقتها ودمروا مدنها الكبرى، خاصة مدينة كييف، وجعلواها تحت سيطرتهم تباعًا. ثم انتقلوا غربًا إلى بولندا، ومن هناك إلى المجر، وفقًا لما ورد في كتاب 'المغول' للمؤرخ الباز العَرِيني.
تتنوع الروايات التاريخية حول أسباب اعتناق بركة خان الزعيم للإسلام في "القبيلة الذهبية" التي حكمت جنوب روسيا وشرق أوروبا. والراي الأكثر شيوعًا أنه أسلم بيد الشيخ الصوفي سيف الدين الباخرزي، أتباع الطريقة الروحية للشيخ نجم الدين كبرا، وفقًا للمقريزي في كتابه "السلوك".
تعزيز وتثبيت
وقد استخدم الأمير المملوكي الظاهر ركن الدين بيبرس (ت 676هـ/1275م) دين بَرْكَة خان والغزوة الذهبية من بعدهم، فأسهم في التقارب معهم سياسيًا ليكونوا عوناً له وحلفاء ضد أبناء عشيرتهم من الغزات اليلخانية الحاكمة في بلاد الرافدين وبلاد فارس.
وقام سلاطين المماليك في مصر والشام بتعزيز هذا التقارب من الناحية الدينية؛ إذ كانوا يرسلون العلماء إلى الغزوة الذهبية لتعليمهم شرائع الإسلام، وبذلك "كانت بركة يميل نحو المسلمين بشكل زائد، ويحترم أهل العلم ويصادق الصالحين ويحترمهم...، وبنيت المساجد وأقيمت الجمعة في بلاده"؛ وفقًا للمؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدي (ت 874هـ/1480م) في ‘النجوم الزاهرة‘.
ورغم اعتناق الغزوة الذهبية للإسلام، ونفوذهم الممتد إلى الأمارات الروسية المسيحية في كييف وموسكو ومنطقة القوقاز الشمالية؛ إلا أن ذلك "لم يُسفر عن تغيير جذري في الأوضاع الموجودة آنذاك...، [بل] نجد أن الغزاة استمروا في سياسة الحفاظ على الدول الوطنية والأمارات لوحدها دون التدخل في شؤونها الداخلية"؛ كما يشير المؤرخ الألماني برتولد شبولر (ت 1411هـ/1990م) في كتابه ‘العالم الإسلامي في العصر المغولي‘.
ويضيف شبولر أن "الخانات في سراي (= عاصمة الغزوة الذهبية شمال بحر قزوين على نهر الفولجا) لم يتدخلوا في شؤون الحياة الدينية لأتباعهم ورعاياهم، وهذا ما جعل الطائفة الأرثوذكسية تثبت أقدامها، وهذه الطائفة كانت سببًا من الأسباب لتعزيز الروس المعاصرين [للغزاة آنذاك]، مع ما كانوا عليه من حالة الانقسام إلى عدة دويلات، وأصبح أسقف كييف المتوج رمزًا يحمل شعار الوحدة الروسية".
وليست شهادة هذا المؤرخ الغربي المعاصر سوى تأكيد لما عُرف عن سلاطين الغزوة الذهبية المسلمين من تسامح ديني كبير تجاه المواطنين المسيحيين الذين كانوا يسددون لهم الجزية. والواقع أنه كان يشير إلى المرسوم الذي أصدره –في سنة 713هـ/1313م- الأمير محمد أوزبك خان الغزوي (ت 742هـ/1341م) لبطرس (ت بعد 713هـ/1313م) أسقف الروس في كييف، والذي جاء فيه:
"من أوزبك إلى حكامنا كبارهم وصغارهم وغيرهم: إن كنيسة بطرس مقدّسة، فلا يحق لأحد أن يعتدى عليها أو على أحد من خدمها أو كهنتها بإساءة، ولا أن يقتنص شيئًا من ممتلكاتها أو متاعها أو أفرادها، ولا أن يتدخل في شؤونها، لأنها مقدّسة كلها، ومن خالف أمرنا هذا بالاعتداء عليها، فهو جان، لامنا لنا القتل"؛ حسبما ينقله المؤرخ الشهير توماس أرنولد (ت 1348هـ/1930م) في كتابه ‘الدعوة إلى الإسلام‘.
ومن الملفت هنا أن ما منحه الحكام المسلمون للروس المسيحيين من حرية في تنظيم شؤونهم الدينية لم يجده حتى عند إخوتهم في الإيمان من ملوك البيزنطيين. فطبقا لما أورده المؤرخ الباز العاريني في كتابه ‘الدولة البيزنطية‘؛ فإن الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني "حَثَّ الروس على قبول التنصير، وأن يُعترِفوا برئيس الأساقفة الذي عينه لهم (= أسنده لهم): أغناطيوس"، ولم يمنحهم حق الاختيار في رأس مؤسستهم الدينية كما فعل المسلمون!!
وإذا تأملنا هذه الحرية الدينية الواسعة والمحصّنة التي تمتع بها الروس في ظل الحكام الغزوة الذهبية المسلمين على مدى القرون، وعدم تدخل الاغتصاب في كاتدرائيتهم الكبيرة كما فعل العُثمانيون –بعد ذلك بقرن- مع الكنيسة "آيا صوفيا" البيزنطية؛ لكان علينا أن نستنتج بأن الإمبراطورية الروسية -التي نشأت لاحقًا على حساب هؤلاء المسلمين- إنما تدين لهم بالحفاظ على دينها ومقدساتها، ولولا تلك الحرية الدينية لتغيرت معالم تاريخ إمارات موسكو وكييف ومماثليها الروسية، وربما تغيرت معها تاريخ روسيا الديني إلى الأبد.
انقياد مطلق
على مدى نحو قرنين ونصف (649-874هـ/1251-1480م) تمتد السيطرة القبيلة الذهبية على مناطق واسعة، تضمنت جنوب روسيا وغربها وأوكرانيا والقرم وبولندا وشمال القوقاز؛ وأصبح الروس تحت سيطرة خانات الغزوة الذهبية المسلمة التي حكمت موسكو ذاتها. وكما يقول شبولر؛ فإن نفوذ المغول المسلمين وضع "حدًا للتوسع الروسي جنوبًا أو نحو الجنوب الشرقي، تلك الهيمنة التي كانت تطمح إليها روسيا منذ القرنين الحادي عشر والثاني عشر"، أي خلال القرون الخامس والسادس الهجريين.
وفي عهد الأمير محمد أوزبك خان "أسْلم كافة أتباعه، وانضم كل الناس إلى الإسلام، وبات كل مواطنيه من أتباع الدين المحمدي.بفضل صاحب هذه الدولة بنية الإسلام، ثم قيل لمملكة جوجي (= القبيلة الذهبية): مملكة أوزبك"؛ ووفقًا للأديب والمؤرخ المغولي محمد خان الخوارزمي (ت بعد 1074هـ/1663م) في كتابه ‘شجرة التُّرك‘.
كان للحظ السعيد أن الرحّالة ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) زار خانية القبيلة الذهبية في حدود عام 735هـ/1335م، حيث رأى استقرار الحكم المغولي في القوقاز والقِرَم شمالي البحر الأسود، وسجّل حضورًا مكينًا للصوفية وكبار الفقهاء والقضاة في هذه المنطقة.
ففي كتاب رحلته يشير: "وقد التقيت بهذه المدينة قاضيها الأعظم شمس الدين السايليّ (ت بعد 735هـ/1335م) قاضي الحنفية، وكذلك قاضي الشافعية وهو يُدعى بخضر، والفقيه المدرّس علاء الدين الأصيّ (ت بعد 735هـ/1335م)، وخطيب الشافعية أبا بكر وهو الذي يلقن بالمسجد الجامع بهذه المدينة".
وقد أوضح المؤرخ ابن فضل الله العُمَري (ت 749هـ/1348م) ما أكده معاصره ابن بطوطة من مكانة عالية للعلماء لدى هذا السلطان الأوزبكي، مشيداً برعايته لشعائر الإسلام ورعايته لرعايا دولته بحسب ما كان جده البركة خان عليهما السلام؛ فوصفه -في ‘مسالك الأبصار‘- بأنه "مُعظِّمٌ لجانب العلم وأهله...، وهو مسلم حسن الإسلام، متظاهر بالديانة ومُلتزم بالشريعة، حافظ على أداء الصلاة وصيامه، كما كان قريبًا من الرعايا والزوار".
وبعدما وضح ابن بطوطة الحدود الشاسعة لحكم مغول القبيلة الذهبية؛ وصف هيبة سلطانهم محمد أوزبك خان -الذي تولى الحكم خلال 713-741هـ/1313-1340م)- قائلًا بأنه "قاهرٌ لأعداء الله أهل قسطنطينية العظمى (= البيزنطيين)، ناجح في جهادهم...، كان واحدًا من الملوك السبعة الذين يُعتبرون كبراء ملوك العالم وعظماؤه"!!
يظهر من المشاهد التي شهدها ابن بطوطة في عاصمة مغول القبيلة الذهبية أن سلطانهم -بالإضافة إلى من في مملكته من الأمراء والأميرات (الخواتين)- كانوا يُحترمون أهل العلم مثل "المشايخ والقضاة والفقهاء والأشراف والفقراء (= الصوفية)". ويذكر أن هؤلاء المغول -الذين يُسمونهم "الأتراك"- كانوا يتبعون المذهب الحنفي في الفقه، ويسمحون بشرب النبيذ ويطلقون عليه اسم "البوزة (= البوظة)".
منافس شرس
في أواخر القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي؛ ظهرت –على أنقاض الإمبراطورية المغولية السابقة- دولةُ تيمورية في وسط آسيا بتوجيه من القائد الأوزبكي تيمورلنك (ت 807هـ/1405م)، الذي تمكن من توسيع نفوذه وسيطرته على مغول القبيلة الذهبية، ونجح في تفريقهم وجعلهم تابعين له في عاصمة مملكته سمرقند.
ثم نجح في السيطرة على مناطق القوقاز الجنوبية؛ حيث في سنة 802هـ/1399م استولى على "قراباغ (تقع اليوم بأذربيجان) وحمّل معه ركّابه وأفراسه، وسيطر على ممالك أذربيجان...، وأخذ مدينة تفليس (= عاصمة جورجيا اليوم)، وتوجه نحو بلاد الكُرْج (= جورجيا)، وهدم ما احتله من حصن وبرج"؛ وفقًا لمؤرخ سيرته ابن عربشاه (ت 854هـ/1457م) في ‘عجائب المقدور في نوائب تيمور‘.
في هذه الحقبة التيمورية المغولية، ولافتًا في النصف الأول من القرن التاسع الهجري/الـ15م؛ أصبح الإسلام الدين السائد لسكان وسط داغستان (شعوب اللكز/اللاك)، وجعل "اللاك" منهم مدينة "غازي-قمق" عاصمتهم ومركزًا دينيًا رئيسيًا في قلب القوقاز. ومن هذا الوسط ظهر الدعاة الأولى لنشر الإسلام، وتوسعوا في المناطق التي لم تصلها قبلهم الدعوة الإسلامية.
وتُذكر أن تيمورلنك شنّ ضربة قوية لأكبر قوة مسيحية في وسط وشمالي القوقاز، وهي مملكة شعب "اللان" الذين يعتبرون أجداد شعب الأوستين الذين يعيشون حاليًا في أوسيتيا الجنوبية والشمالية. وفي نهاية القرن التاسع الهجري/الـ15م؛ شهدنا تحولًا كبيرًا للشعوب شمالي القوقاز وشمال غربيها إلى الإسلام، كالأبخاز وشراكسة الغرب (الأوديغيون) وشراكسة الشرق (القبارطيون والأباظة).
شكّلت الحملات العسكرية -التي شنّها تيمورلنك في بداية ذلك القرن والتي اخترق بها مملكة القبيلة الذهبية (أو خانية القفجاق) بما فيها بلاد القوقاز- تقسيم هذه الخانية؛ مما أدى إلى ظهور عدة خانيات أو إمارات صغيرة كانت تتنافس على إرث مملكة "القبيلة الذهبية". وكما كانت نشأة مملكتهم تُحيط بإمكانية التوسع للإمارات الروسية؛ فإن انهيار سلطانهم كان بوابة لهذا التوسع مرة أخرى.
وجدت الإمارة الروسية في موسكو -التي كانت تدفع الجزية لمغول القبيلة الذهبية المسلمين بمعنى تبعيتها لهم- فرصة للاستفادة من هذا التفكك، وهكذا بدأ الروس في تكثيف جهودهم لطرد المسلمين من المناطق الجنوبية لحوض نهر الفولغا ومن شمال بحر قزوين والقوقاز.
وبدأت الروستلك المساعي التوسعية من قبل الأمير إيفان الثالث (رحمه الله) في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري/الـ15م، ساهمت في فتح مسار تاريخي طويل استمر ستة قرون، حيث تحولت روسيا -خلال هذه الفترة- من حالة الضعف التابعة لحكام المسلمين (المغول والعثمانيين) إلى مستوى الإمبراطورية الواسعة ذات التأثير العالمي.
التوسع العثماني
لقد كرّس العثمانيون -بعد فتح القسطنطينية في سنة 857هـ/1453م- اهتماما خاصا بسواحل البحر الأسود، حيث استطاعوا -في زمن السلطان محمد الفاتح (رحمه الله) وجده السلطان سليم شاه الأول (رحمه الله)- توسيع نفوذهم وعملياتهم العسكرية نحو مناطق القوقاز الجنوبية والغربية التي تمتد على سواحل البحر الأسود، مثل جورجيا وأبخازيا.
وعندما بدأت دولة القرم -التي تضم جزيرة القرم وأراضي جنوب أوكرانيا وشمال القوقاز- تشعر بتهديد الروس المتزايد في تلك الحقبة، قامت في سنة 880هـ/1475م بالإعلان عن انضمامها للدولة العثمانية بهدف تحقيق الوحدة العرقية والدينية، وفقا لما ذكره المؤرخ التركي رضا قراغوز في دراسته "سياسة الدولة العثمانية تجاه القوقاز"، باستناده إلى وثائق الأرشيف العثماني والمراسلات بين الطرفين. وهكذا أصبحت مناطق مهمة في القوقاز تابعة للإمبراطورية العثمانية.
وعلى الجانب الروسي من الصراع الحضاري في المنطقة؛ أدى سقوط القسطنطينية إلى تولي روسيا زمام الأمور للكنيسة الأرثوذكسية من تلك اللحظة حتى اليوم، حيث أعلنت نفسها -بعد سقوط العاصمة البيزنطية- رمزا للحماية للأرثوذكسية في جميع أنحاء العالم، ورفعت كنيسة موسكو شعارًا يقول: "روما الثالثة".
ومع توليهم الزعامة الدينية للأرثوذكسية؛ رأى الروس أنهم الخلف الشرعي للدولة البيزنطية جغرافيًا، وهو الأمر الذي تعزز بالتقدم العثماني نحو القوقاز الذي أثار هلعًا كبيرًا في روسيا. ونظرًا لثبات أهداف الروس في التوسع نحو الشرق والجنوب؛ فإنهم لم يترددوا في استغلال نقاط ضعف العثمانيين وتحفظهم في معاركهم على الجبهة الأوروبية، حيث بقي الروس يحاولون بإصرار التقدم نحو القوقاز وشرق أوروبا.
لاحظ المؤرخ التركي خليل إينالجيك (رحمه الله) أن خطر الروس كان واضحًا في منتصف القرن العاشر الهجري/الـ16م، وفي سنة 954هـ/1547م، أعلن إيفان الرابع الملقب بـ "الرهيب" (رحمه الله) نفسه قيصرًا على روسيا، وسعى بعد ذلك لخضوع خانيات الفولغا التتارية المسلمة على سواحل حوض الفولغا.
بدأ إيفان الرهيب بالسيطرة على خانية قازان في سنة 959هـ/1552م، ثم توجه نحو خانية أستراخان في سنة 963هـ/1556م. وقد توغل في القوقاز الشمالي حتى وصلت قواته نهر "تيرك"، لترسيخ بذلك أسس الإمبراطورية الروسية، حيث وجد القيصر الروسي في هذه المنطقة حلفاء من بين قبائل الشراكسة والنوغاي المسيحيين.
تصاعد خطر الروس على مناطق خانية القرم وشمال القوقاز في هذه الفترة، ولهذا السبب بدأ العثمانيون مشروع المقاومة بالتحالف مع خانية القرم، حيث عبّر المسلمون في القوقاز -من داغستان والشيشان- عن مقاومة شرسة ضد كل هجمات التقدم الروسي نحو أراضيهم، وخاصة في حملة سنة 1002هـ/1594م التي تصدى فيها العثمانيون والتتار والشيشانيون والداغستانيون للهجمات الروسية وتمكنوا من هزيمتهم بعد معركة عنيفة، على الرغم من عودتهم مرة أخرى في سنة 1013هـ/1604م بقوة عسكرية أقوى وتمكنوا من هزيمة خانية القرم.
وفي إطار المواجهة الحضارية العثمانية/القوقازية مع الروس؛ اتخذ العثمانيون والتتار وشعوب القوقاز المسلمون استراتيجية موازية تتمثل في تكثيف الجهود لنشر الإسلام في المنطقة بدءًا من القرن الـ11هـ/الـ17م، لمواجهة محاولات نشر الأرثوذكسية التي كانت تعتمدها قياصرة الروس في القوقاز الشمالي.
طموحات روسية
تمكنت روسيا في سنة 1106هـ/1695م من الاستيلاء على قلعة "آزاق" -أو "آزوف"- الموجودة على سواحل البحر الأسود في شمال غرب القوقاز، مما جعلهم تهديدًا دائمًا على الوجود الإسلامي في تلك المنطقة، حيث عملوا على تحريض العرقيتين "قبرطاي" و"اللان" في أوسيتيا، بالإضافة إلى إرسال المنصرين إلى مدن تلك المنطقة وإقامة الكنائس فيها.
من جانبهم؛ قام العثمانيون والتتار وشعوب القوقاز المنتمين للإسلام بجهود كبيرة لنشر الدين الإسلامي بقوة بين قبائل الشراكسة، حيث كان والي القوقاز العثماني علي فرح باشا (رحمه الله) يقوم بجلب العلماء من إسطنبول إلى تلك البلاد، وبناء المساجد بكثافة، وجعل من عاصمته "أنابا" الموجودة على ساحلالمحيط الأسود، ومن ثم انتشر الإسلام إلى باقي الشيشان حيث لم يكونوا مسلمين حتى ذلك الحين، وفقًا للباحث محمود عبد الرحمن في كتابه "سيرة القوقاز".
شهدت الدولة العثمانية حروبًا طويلة ضد الروس في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وخلال فترة حكم القيصر بطرس الملقب بـ "الأكبر"، عرفت روسيا نهضتها العسكرية. تمكن القيصر بطرس من بلوغ قواته عمق القوقاز الجنوبي والمياه الدافئة في المحيط الأسود، وقد دخل باكو عاصمة أذربيجان الحالية. تخلى العثمانيون قسرًا عن المناطق الساحلية الغربية لبحر قزوين نتيجة هجمات القيصر بطرس.
بعد وفاة القيصر بطرس الأكبر، ترأست ابنته الإمبراطورة آنا إيفانوفنا عرش روسيا. واستغلت روسيا انشغال العثمانيين في حروبهم في وسط أوروبا، ونجحت في تحقيق انتصارات عديدة على العثمانيين في المعارك. تم الاتفاق بين الطرفين على إنشاء منطقة عازلة في شمالي القوقاز عند قلعة "آزوف"، وفقًا للمؤرخ التركي إسماعيل أوزون شا
يرى التاريخ الإسلامي - تراث - روسيا الوجود الإسلامي بالقوقاز:
فترة مهمة
بعد تولي الإمبراطورة كاترينا الثانية عرش روسيا، بدأت في تنفيذ "المشروع اليوناني" الذي يهدف إلى محاصرة الدولة العثمانية من الشرق والغرب. قامت بالاحتلال "خانية القِرَم" في البحر الأسود، ثم استمرت بالتوغل في القوقاز من خلال بناء العديد من القلاع التي ساعدت في الهجوم الذي بدأته روسيا بقيادة الجنرال الألماني توتلبن.
تحالف الجنرال توتلبن مع أهم القوى المسيحية جنوب القوقاز في مملكة جورجيا، مما قاد الشيشان والداغستان وغيرهما إلى التحصن من كلا الجهتين. رغم ذلك، نجح الشيشانيون في المقاومة بفضل الإمدادات العسكرية من العثمانيين، وتمكنوا بعد فترة طويلة من المقاومة من صدهم تحت قيادة الجنرال توتلبن إلى منطقة حوض نهر الدون.
وفقًا للمؤرخ التركي آقدس قورات، كان الهجوم الروسي على القوقاز جزءًا من الحرب العثمانية-الروسية، والتي استدعت العثمانيين لمواجهة الروس عندما انطلقوا نحو القوقاز من جهة، وتدخلوا في أزمة العرش البولندية بعد وفاة الملك فريدريك أغسطس، وهي مسألة كانت تهدد نفوذ العثمانيين في الأوكرانيا وبلغاريا ورومانيا.
سعت روسيا لاستغلال اضطرابات الإدارة العثمانية، وحثت على تحريض النعرات الدينية لدى أرثوذكس البلقان، والصرب، واليونان، ورومانيا، وبلغاريا، والجبل الأسود، وهو الأمر الذي زاد من مشاكل العثمانيين في الشرق الأوسط والبلاد المحررة وفلسطين وسوريا وبغداد وأرمينيا وطرابلس.
على الرغم من ذلك، لفت انتباه الهجوم العنيف الذي قادته الإمبراطورة كاترينا ضد العثمانيين، حيث امتد التوغل الروسي ليشمل القوقاز وأوروبا الشرقية والبلقان. نجحت روسيا في التحالف مع الأمراء المحليين في الأقطار العربية، مثل الأمير العربي ظاهر العمر الزيداني في فلسطين، وشيخ البلد "قائمقام الباشا العثماني".
علي بك العظيم (ت 1187هـ/1773م) كان من مصر، هذا الرجل الذي استغل ضعف الدولة العثمانية وانشغالهم في هذه المعركة فأعلن تحقيق الاستقلال لمصر عن الإمبراتورية العثمانية.
قد حققت روسيا النصر على الأسطول العثماني وهزمته في معركة جشمة البحرية سنة 1184هـ/1770م واستولت على جزيرة ساقز (باروس) في بحر إيجة بالقرب من اليونان لتستخدمها كقاعدة، وكان زعيم الأسطول الروسي آنذاك الكونت أليكسي أورلوف (ALEXIS ORLOW ت 1223هـ1808م) قد تواصل مع أمير مصر علي بك العظيم للتحالف معه ضد العثمانيين؛ كما ذكر رأفت غنيمي الشيخ في كتاب 'نشأة الجمهورية المصرية‘.
غنيمي الشيخ أشار إلى أن الاتفاق بين الطرفين كان تقديم المساعدة لجيش علي بك العظيم بالسلاح والمدربين العسكريين، واستخدام الأسطول الروسي لحماية السواحل المصرية من أي هجوم عسكري من الدولة العثمانية عبر البحر المتوسط.
وأظهر الأمير المملوكي -كجزء من الاتفاق- التزامه بالانفصال عن الدولة العثمانية، وإرسال قواته لاحتلال الشام وفصلها عن العثمانيين، بالإضافة إلى منح تسهيلات كبيرة لروسيا وتقديم المواد لجيوشها، وإعطاء أفضلية لترميم السفن الروسية التجارية والعسكرية في أنقرة والشام، وهذا التحالف المشؤوم يعكس أفعاله الخيانة التي تطارد رؤساء المسلمين.
انسحاب مفاجئ
تعطلت تلك الطموحات بسرعة بسبب خيانة قائد الجيش المصري محمد بك أبو الذهب (ت 1189هـ/1775م) لسيده علي بك الواسع خلال معركة العثمانيين/الروس. رغم ذلك، استمر اهتمام الروس بمصر وموانئها البحرية -خصوصاً الإسكندرية- لتعزيز تواجدهم في المياه الدافئة بالبحر المتوسط.
في عام 1197هـ/1783م؛ قاد الحكام الفعليان لمصر حينها الأمراء المملوكيين مراد بك (ت 1216هـ/1801م) وإبراهيم بك (ت 1232هـ/1817م) وفدًا إلى الإمبراطورة الروسية كاترينا لعرض اتفاق تحالف بين البلدين، وكان الهدف الفعلي هو المساهمة في مواجهة العثمانيين.
أقترح مُراد بك على الروس منحهم الترخيص بإقامة قواعد في الإسكندرية وروشيد ودمياط مقابل الاعتراف باستقلال مصر. في العام التالي؛ وصل مبعوثين من روسيا لتفقد هذه المناطق تمهيدًا لنشر القواعد الروسية هناك، واستقبل مراد بك قنصل روسيا بالإسكندرية.
وفي سنة 1202هـ/1788م، خلال هزيمة مراد وإبراهيم أمام الأمير إسماعيل بك العظيم (ت 1205هـ/1791م) الموالي للإمبراطورية؛ وصل القنصل الروسي إلى ميناء دمياط على متن فرقاطة مسلحة بأربعين مدفعًا، وكان معه سفينتان تحملان مستلزمات عسكرية وهدايا، فقام إسماعيل بك بدعوته للقاهرة حيث أُسدل عليه القبض في سجن القلعة؛ كما يرويه المؤرخ الدكتور أحمد عزت عبد الكريم (ت 1401هـ/1980م) في كتابه 'نظرة تاريخية عن النهضة العربية الحديثة‘.
هذا التحالف الروسي مع بعض الأمراء المتمردين في المنطقة العربية ضد الدولة العثمانية، أو الذين يسعون للاستقلال عنها؛ يظهر أن الصراع الروسي/العثماني لم ينحصر في منطقة القوقاز فقط، بل توسع إلى أوكرانيا والبلقان وأوروبا الشرقية وبحر إيجة، وحتى جنوب البحر المتوسط في أهم مدنه مثل مصر والشام.
ومن هنا تجدر أطماع روسيا في المنطقة العربية تحت إمبراطورية العثمانيين قبل احتلالها الفرنسي الذي حدث بعد ذلك في حملة نابليون بونابرت (ت 1236هـ/1821م) على مصر وسواحل الشام سنة 1213هـ/1798م، تلاها الاحتلال البريطاني لمصر -بعد ذلك بقرن من الزمان- سنة 1299هـ/1882م.
صمود محلي
نجحت الجبهة الشرقية العثمانية في القوقاز في هزيمة الروس بفضل مقاومة الشيشان والداغستان الشجاعة، ولكن ذلك أدى إلى هزيمة الجبهة الغربية في القرم وبولندا ورومانيا، وأجبرت الدولة العثمانية على توقيع "اتفاقية قينارجه" سنة 1188هـ/1774م، ووفقًا لذلك الاتفاق، قامت الدولة العثمانية بتنازلها عن خانية القرم مع إعلان استقلالها في جنوب أوكرانيا وشمال البحر الأسود، بعد أن كانت تحت الحكم الفعلي الروسي.
كما منحت الاتفاقية الروس حق حماية السكان الأرثوذكس في كل أنحاء الدولة العثمانية، وكان هذا الأمر أساسًا لتدخل الروس لاحقًا في شؤون العثمانيين، كما منحت الروس حرية التصرف في البحر الأسود والمضايق العثمانية دون مُعَين؛ كما اشار المؤرخ محمد فريد بك في كتاب 'تاريخ الدولة العلية العثمانية‘.
وبتنازل الدولة العثمانية عن خانية القرم في جنوب أوكرانياالشركس
وضمن الجبال الشمالية، وما معها من ضعف لجبروت الدولة العثمانية؛ تم فتح المجال للقوات الروسية للتوجه نحو الجبال القوقازية والمحيط الأسود بعد تسهيل الطرق أمام جيوشهم، مسعى نحو شمال ووسط وجنوب القوقاز عام 1197هـ/1783م.
وتمثلت المقاومة الشيشانية ضد التمدد الروسي المتسلل في تلك السنة بقوة، وكانت القيادة لهذه المبادرة بأيدي العلماء والصوفيين الذين أدرك المسلمون في تلك المناطق أهمية حضورهم في تلك اللحظات العصيبة، استكمالًا للفراغ الديني القائم الناتج عن انسحاب العثمانيين من الساحة القوقازية.
وبالتبعية لجورجيا وأرمينيا في الجنوب لإمبراطورية روسيا؛ بادر الغزاة الروس للاستيلاء على باقي أراضي الشركس المسلمين في مناطق شعوب الأديغا والشيشان والأبخاز والداغستان والقبارطين والكوبان وما إلى ذلك، وتميزت المنطقة بتطبيق القانون الغاية في الصلابة والذي كان معتمدًا بالدرجة الأولى على القوة وحدها.
واعترف أحد قادتهم مرة وقال: "فقط الرهبة من سلاحنا الروسي يمكنها أن تجعل الجباليين (= الشركس) مطيعين... نحن بحاجة إلى أراضي الشركس، ولكننا لسنا بحاجة إلى الشركس أنفسهم"؛ وفقًا لما ورد من قبل باحث السيرة قادر إسحق ناتخ في كتابه ‘الحضارة الشركسية‘.
ووفقًا لما تحدث به الدكتور شوكت المفتي - في مؤلفه ‘أبطال وحكام في تاريخ القوقاز‘- عن المقاومة التي قامت بها الشعوب المسلمة في القوقاز ضد الغزو الروسي لأراضيهم؛ فقد أعلنت شيشانيون وداغستان اختيارهم للإمام منصور الداغستاني (ت 1208هـ/1794م) في تاريخ 1197هـ/1783م قائدًا للمقاومة القوقازية.
وكان منصور عالمًا فقيهًا وصوفيًا يحظى بجماهيرية كبيرة في داغستان والشيشان، وتواصلت العمليات المقاومة في القوقاز - تحت قيادته حتى تم اعتقاله سنة 1205هـ/1791م- لثماني سنوات، واعتمد الشيشانيون في هذه الفترة على استراتيجية الهجمات الصغيرة لتعمل بالكثافة داخل غابات تلك المناطق.
تهجير كامل
يضيف شوكت المفتي أنه خلال تلك المعارك دعم الإمام منصور الداغستاني بحشده الطواعية والمجاهدين من شتى القبائل في داغستان والشيشان والكوبان والقبرطاي والنوغاي، وتمكن من تجميع جيش كبير منهم وتحقيق انتصار ساحق على الجيش الروسي الذي أُرسله القيصرة، حيث تمكنت قوات الإمام منصور من القضاء على الكولونيل "بيري" فضلاً عن مقتل ست مئة جندي آخرين مجهزين بأفضل التجهيزات والسلاح أحدثها في ذلك الوقت.
كما ألحق الإمام منصور خسائر فادحة بالروس من خلال قتله ثلاثة آلاف جندي منهم، وذلك في عام 1201هـ/1787م أثناء هجومهم على قلعة "أنابا" الموجودة على سواحل البحر الأسود، وتوجّب هذا الهجوم ثلاث سنوات وانتهى بأسر الإمام منصور ونقله إلى موسكو حيث استشهد في سجنه.
وعندما رأت القوات الروسية شدة المقاومة المسلمة في القوقاز ضد توسّعهم؛ توجهوا نحو وضع خطط جديدة اعتمدت استراتيجية التبشير بين الشركس في القوقاز الشمالي، وعند فشل محاولات التبشير انتقلوا إلى سياسة الاحتراق والإبادة الكاملة لاحتلال منطقة "قبرطاي" التي تعد نقطة الانطلاق للقوقاز الشمالية.
وفي عام 1219هـ/1804م؛ شنت القوات القيصرية الروسية هجومًا تامًا على ممتلكات سكان تلك البلاد سواء كانت مواشي أو غنم، وقتلوا سكانها وفرقوا من بقي منهم بعيدًا عن بلدانهم، حيث دمرت هذه القوات ما يقرب من 200 قرية، وأحرقت 9085 منزلا و110 مسجدًا، وتفشى مرض الطاعون بين الشركس الذين هربوا إلى الغابات والجبال. ونتيجة لذلك فقد انخفض عدد سكان الشركس بشكل كبير حتى في المراحل الأولى للحرب؛ وفقًا لباحث السيرة قادر إسحق ناتخ في ‘الحضارة الشركسية‘.
وأمام وحشية الغزو الروسي لمناطقهم في القوقاز، بما في ذلك شيشانيا وداغستان؛ اعتبر الشركس ضرورة تسليم القيادة لرجل معروف بالعلوم والاخلاق وهو الإمام محمد الكمراوي (ت 1245هـ/1832م) الملقب "غازي"، الذي أعلن في عام 1239هـ/1824م الثورة المسلحة ضد الروس، وهذه الثورة التي أطلق عليها فيما بعد اسم "ثورة المريدين" نظرًا لنسبتها إلى الطريقة الصوفية النقشبندية التي اتبعها مقاتلوها.
شهدت خطب الإمام غازي اندفاعًا كبيرًا من الجماهير حيث انتشر صيته عبر جبال القوقاز ومدنها، وظهر أيضًا لأول مرة اسم الإمام شامل الداغستاني (ت 1287هـ/1870م) الذي عبّر عن تأييده للثورة وقبوله بقيادة الإمام غازي لهذه المقاومة، كما أظهر استعداده للتعاون والدعم.
تواصلت هجمات الإمام غازي حتى تمتد إلى نهر "تيرك" في أقصى شمال القوقاز، وتمكن من استعادة العديد من المراكز والبلدات التي احتلتها القوات الروسية، كما أسر نحو 200 جندي روسي، وفي ربيع عام 1247هـ/1832م هاجم الإمام غازي مدينة "فلادي قوقاز" (العاصمة التي كانت وقتها لجورجيا الشمالية) ونفذ حصارًا لها لبضعة أشهر، كان هدفه تحفيز قبرطاي على الانضمام إلى "ثورة المريدين"، وتم اسرها بنجاح.قد أحبط الروس هذا الهجوم.
وقامت قوات الروس في الخريف من عام 1247هـ/1832م بغزوٍ على عاصمة الثورة "غيمري" في داغستان. كان الروس مُسلَّحين بأحدث التقنيات العسكرية التي لم يكن للشراكسة مثيل لها، وقد تم ذلك وفقاً للمؤرخ محمود عبد الرحمن الذي ذكر ذلك في كتابه "تاريخ القوقاز".
لقطة بارزة
وبعد وفاة الإمام غازي، تولى الإمام شامل الداغستاني (ت 1288هـ/1871م) زمام المقاومة الشيشانية والقوقازية. كان الإمام شامل فقيهًا وقاضيًا وشيخًا صوفيًا، وقاد الثورة تحت قيادته لمدة تزيد على ثلاثين عامًا متواصلة (1247 -1275هـ/1832-1859م).
رأى الإمام شامل أن شعب الشيشان هو الأكثر صلابة وقوة بين الفرسان والشعوب القوقازية في مواجهة الاحتلال الروسي. ولذلك، اتجه من داغستان -بلده الأصلي- إلى أرض الشيشان مرفوعاً شعار "النصر أو الاستشهاد".
على الرغم من مواجهته لهزائم في بداية قيادته للمقاومة، إلا أنه سرعان ما تعلم منها دروسًا في تحسين جيشه وضرورة توحيد القبائل الشركسية. تولى الإمام شامل قيادة المقاومة لفترة طويلة مما جعله قائدًا سياسيًا بارعًا قادرًا على التفاوض مع الروس في عدة مناسبات.
في الخريف من عام 1254هـ/1838م، شنت الروس حملة عسكرية ضخمة على عاصمة المقاومة الشيشانية "أخولفو" بهدف تدميرها. بعد مرور 70 يومًا من الحصار، تمكن الشيخ شامل من النجاة بحياته رغم إصابته.
بعد ذلك، نجح الإمام شامل في إعادة تنظيم جيشه وتدريبه من جديد، وباستخدام الشيشان كقاعدة، تمكنت قوات المقاومة من استعادة داغستان من قبضة الاحتلال الروسي. خلال الفترة التالية، نجحت القوات الشيشانية والداغستانية -تحت قيادة الإمام شامل- في هزيمة أربع جيوش روسية.
وفي كتاب "مذكرات الإمام شامل"، الذي كُتب بواسطة مساعد من أتباع الإمام يُدعى محمد طاهر القراخاني، يتضح أن الإمام شامل والمقاومة الشيشانية والقوقازية باتباعه اعتمدوا استراتيجية الهجمات المباغتة على القوات الروسية في الغابات والمناطق الجبلية الصعبة، وهي استراتيجية قديمة تم تطويرها وتحديثها بشكل كبير.
انتهاء عنصري
في السنوات 1265-1267هـ/1849-1851م، تعرضت الروس لهزيمة كبيرة في ذلك الموقع بعد حرب استمرت لأربعة أشهر. مع بداية "حرب القرم" في الخريف 1269هـ/1853م، أعلن العثمانيون -بالتعاون مع الإنجليز والفرنسيين- دعمهم للإمام شامل في جهاده ضد الروس.
أرسل الإمام شامل خطته العسكرية إلى السلطان العثماني عبد المجيد الأول، داعيًا إلى هجوم على تفليس عاصمة جورجيا المحتلة لإشغال الروس. إلا أن عجز العثمانيين عن تقديم الدعم المطلوب بسبب صعوبات اقتصادية وعسكرية، حيث عنزلوا عن إرسال المساعدات اللازمة للقوات الشيشانية. وعلى الرغم من ذلك، أصر الإمام شامل على تنفيذ خطته بالتركيز على المناطق الجنوبية من القوقاز.
بشكل تدريجي، بعد انتهاء حرب القرم في ربيع 1272هـ/1856م، بدأت روسيا استعدادها لقمع المقاومة الشيشانية والقوقازية. قامت بقطع الطريق على الدولة العثمانية من الجبهة الإيرانية والجنوبية، واستفادت من الاضطرابات الداخلية في البغدان (مولدوفا) والأفلاق (رومانيا)، ومن انقسام العثمانيين.
في النهاية، نجحت روسيا بجهودها المكثفة في احتلال الشيشان بعد ثلاث سنوات من القتال، وأضطرت الشيخ شامل وأتباعه إلى التوقيع على اتفاقية استسلام تسلموا فيها السيادة لروسيا على المناطق الداخلية في داغستان والشيشان بدون التجنيد الفوري.