ثم انضمت إيطاليا إلى التوجه الاستعماري المتنامي في جنوب الصحراء، واقتنت أحد الموانئ الصومالية في عام 1889، ووقعت معاهدات حماية مع شيوخ الساحل الصومالي مقابل دفع مبالغ مالية، وبعد ذلك، أعلنت الحماية على الصومال الجنوبي عام 1896، فانتقلت الصومال من الصراع القبلي إلى التحت الاحتلال المزدوج من جانب بريطانيا وإيطاليا، وبالإضافة إلى الاحتلال الإثيوبي لجيبوتي التي كانت تشكل جزءًا من الأراضي الصومالية.
في ظل تحت الصومال تحت احتلال ثلاثي متزايد، كان محمد عبد الله حسن -الملقب بـ “الزعيم الحكيم” – يتمركز في وسط جغرافيا مفتتة حدوديا، ومجتمع قبلي داخلي يفتقر إلى التماسك الوطني، وهذه العوامل كانت دافعاً لحياته في مقاومة ومعارضة الاستعمار، واستمر ذلك منذ عام 1899 وحتى وفاته في عام 1920.
في السياق التاريخي، كان للسلطات الصومالية السابقة للحكم الاستعماري تكوين قبلي، ولم تشمل حكمها كل الأراضي الصومالية، ولم تتمكن من بناء سلطة موحدة، لذلك كانت الاحتلالات البريطانية والإيطالية قادرة على التفاوض مع القبائل بسهولة، فمن لم يوافق على التفاوض المالي، كان عرضة للتهديد العسكري، وهكذا جاء عبد الله حسن ليمثل نقطة تحوّلية في تاريخ المقاومة الصومالية، بسبب اقتراحه بحق الشعب الصومالي في دولة ذات سيادة.
ويقدم لنا الفيلم الوثائقي “الزعيم الحكيم.. محمد بن عبد الله الحسن” نظرة على مسيرة الشخص والمحطات النضالية له، من خلال مشاركات أكاديميين بريطانيين ومؤرخين صوماليين وأفراد من تتبع أسرة عبد الله حسن.
رحلة الحج.. تصوف في مكة تصقل ملامح الشخصية
منتج الفيلم ماهر جاموس يشير في حواره مع قناة الجزيرة الوثائقية إلى أن اختيار “الحكيم” كلقب في الفيلم كان مقصودًا، نظراً لوصف الاحتلال البريطاني لعبد الله حسن بأنه مجنون، كما ذكرت الوثائق والصحف الإنجليزية. فكل مستعمر يحاول تشويه صورة المقاومين، ولكن تجربة عبد الله حسن تثبت أنه كان رجلا حكيما، ليس فقط في مسيرته المقاومة، بل في تأسيسه لهذا المفهوم، وتجاوزه لطابع الصراع والتفرق القبلي الذي كان يسيطر على الصومال في تلك الفترة.
حفظ القرآن واكتساب المعارف الدينية، وخلال شبابه شاهد احتلال الإنجليز للصومال وتحولها إلى مستعمرة، وشاهد الحملات التبشيرية المسيحية وهي تنتشر في مناطق مختلفة من الصومال.
وفي عام 1892، توجه عبد الله حسن إلى أداء فريضة الحج مع بعض الأقارب والأصدقاء، حيث سمع عن الحرب في السودان وصعود المقاومة الشعبية ضد البريطانيين بقيادة محمد المهدي. ثم انضم في مكة إلى جلسات الطريقة الصالحية الصوفية، وأصبح من أتباعها، وقبل العودة إلى الصومال، زار عدن التي كانت محتلة من قبل بريطانيا، وقضى فيها بضعة أشهر.
جيش الدراويش.. وحارب القبائل الوطنية يحاصر حصن الغزاة
تظهر تجربة الحكيم العاقل أنه كان ذا وعي أوّلي بحاجة إلى بناء قاعدة تقوم على الاتحاد، لتحقيق مقاومة قوية، ولتكون له القدرة على التواصل المنظم مع محيطه الجغرافي، للاستفادة من الربح الذي يمكن أن يحققه من هذه العملية.
وقد أطلق عبد الله حسن على جيشه اسم “الدراويش”، ووضع لهم بدلة معينة (لفيف وإزار أبيض)، وبدأ بعزل القبائل التابعة للانتداب البريطاني، ومنعهم من دخول منطقة “دولبهانتا”، وصادر أسلحتهم، ثم فرض حصارا اقتصاديا على السلطات البريطانية، بهدف قطع الطريق التجاري، ومنع القوافل من الوصول إلى بربرة، مقر الجيش البريطاني.
ومن ناحية أخرى، حرص على استمالة أكبر عدد ممكن من القبائل الصومالية الموالية للانتداب، وتجميعهم لصالحه، حتى انتهت مرحلة التحضير هذه بإنشاء جيش “الدراويش” في 1899، وكان يضم حوالي 5 آلاف مقاتل.
الحكيم العاقل.. اعتداء الضابط وإنشاء اسم المجنون
نعرف من خلال أحد الصوماليين في فيلم “الحكيم العاقل”، أن سبب تسمية عبد الله حسن بالمجنون كان اعتداؤه على ضابط إنجليزي، وعندما شفع الصوماليون للإفراج عنه، قال أحد الوسطاء الإنجليز أن هذا الشخص مجنون، ليتم الإفراج عنه.
فاستغل الاحتلال هذا الحادث، وأصبح مؤسس المقاومة الشعبية الصومالية معروفا بدوره المجنون في جميع الصحف الإنجليزية، حيث غطت حوادث متعددة، بين التضليل بالفوز والاعتراف بالهزيمة أمام جيش الدراويش.
وتجلى نجاح جيش الدراويش في تجاوز القيود العقلية الصومالية، على الرغم من تطلعها للتحرير في ذلك الوقت، لكنها كانت محصورة في شؤون الصراع القبلي والتفكك المدروس من قبل الاحتلال البريطاني، لذا تبنى عبد الله حسن استراتيجية التواصل مع الدولة العثمانية، وإنشاء نظام استخبارات عسكرية، بالإضافة إلى الاستفادة الكاملة من الجغرافيا والتأمل العميق فيها للنجاح في الحرب.
فهم العدو.. تكتيكات حربية قلبت الموازين ضد الاحتلال
في بحث بعنوان “المقاومة الشعبية ضد الاحتلال البريطاني 1889-1912.. محمد عبد الله حسن نموذجا”، يظهر العقلية العسكرية لجيش الدراويش، من خلال الحملات المتتالية التي شنها الاحتلال البريطاني، ويوضح مدى فهم المقاومة الشعبية لنهج المحتل، وكيفية صده وإجباره على الانسحاب.
ففي معركة أفيكيل في أبريل/ نيسان 1901، والمعروفة تاريخيا باسم “حوض الدم”، اعتمد قائد القوات البريطانية “سواين” على تقوية جزء من جيش الاحتلال، بتجنيد بعضتجمعت قبائل الصومال في مناطق بربرة، زيلع، وبلها، حيث اتبعت الاستراتيجية العسكرية البريطانية بالتمركز قرب جيش الدراويش، مرتقبة تفريغ المقاومة لذخيرتها الباهتة، ثم الهجوم عليهم بواسطة المدافع.
في الوقت نفسه، شن جيش الدراويش هجومًا وشن حصارًا على البريطانيين، مع الاعتماد على الاشتباكات القريبة واستخدام سلاح الأبيض بميزته في القتال، مما أسفر عن مقتل 70 جنديًا بريطانيًا. حاولت وسائل الإعلام البريطانية تزوير نتائج المعركة عن طريق تضخيم أعداد القتلى من جيش الدراويش.
بداية الهجوم.. ضربة غير متوقعة تخرّب الخطط كل مرة
أصر القائد الإنجليزي على شن حملة ثانية على جيش الدراويش، رغم تعليماته بالتوقف عن العمليات العسكرية، حيث اعتمد عبد الله حسن على تغيير مواقع المقاومة وانتقل موقتًا إلى الجانب الصومالي الجنوبي، مُتبوعًا بالجيش البريطاني ومسافة قليلة تفصل بينهما.
استخدم جيش الدراويش استراتيجية مختلفة عن اعتقادات الجنود البريطانيين، حيث قاموا بحملات تجسس لمعرفة تحركات جيش الاحتلال واستعداداته، ثم نفّذوا هجومًا مُباغتًا، أسفر عن مقتل 25 ضابطًا بريطانيًا واستيلاء على عدد قليل من البنادق، ولكن ارتقى به 100 من جيش الدراويش.
خلال فترة تزيد عن عامين بعد الحملة البريطانية الثانية، عزز عبد الله حسن قدرات جيشه وزوّده بأكثر من ألف جندي، وزاد من مساعي التواصل مع القبائل الصومالية وتطوير التسليح. تظهر تلك الاستعدادات – كما تُظهر الوثائق السينمائية – في المراسلات بين القنصل البريطاني والإدارة الاحتلالية وطلبات الدعم في عدن واقتراح تسليح القبائل الوفية للإنجليز بأسلحة نارية وزيادة الجواسيس المحليين وتعزيز العلاقات العسكرية مع الحبشة.
في معركة “بيرطق”، عاد جيش الدراويش لتكرار الاستراتيجية نفسها، بالهجوم على جيش الاحتلال وهو يُعد لخطة للسقوط في فخه، حيث حاول الإنجليز قطع مصادر المياه عن معسكر الدراويش، لكنهم تفاجؤوا بهجوم قاده عبد الله حسن، أسفر عن مقتل أكثر من ألف جندي بريطاني.
هجوم غادر للمعسكر.. خطة لتدمير الاحتلال واستيلاء على أسلحته
انتشرت شائعات عن الملا في صحف إنجليزية وحظيت بشهرة عالمية، حيث قُدم في الفيلم أكثر من 50 خبرا تحت عناوين تحذير من الملا “المجنون” الذي يهدد بربرة، مما يظهر عدم استعداد الاحتلال البريطاني لمواجهة تلك القوة المتصاعدة على أساس الحقوق السيادية والضرورة الوطنية.
وبدءًا من هنا، بدأت الاحتلالية بالتفكير في مقاومة جيش الدراويش والقضاء على عبد الله حسن ليس فقط مسألة تخصهم وحدهم، كما أشار أحد الصوماليين في الفيلم بقوله “لن تُقطَع بفأسك، ما لم تكن جزءًا منك”.
استندت الحملات البريطانية في بداية القرن العشرين على تنويع الجبهات، حيث جمعت جيوش ضد الدراويش من الجانب الإيطالي والبريطاني والإثيوبي، ولكن في أبريل/نيسان 1904، هاجم جيش الدراويش مركز الاحتلال بشكل مُفاجئ، اقتحم المعسكر واستولى على أسلحتهم، مسببًا مجزرة بحجم الجيش البريطاني، حيث نجا 40 جنديًا فقط.
مدينة تلح.. معقل مستقل يضم جيش الدراويش
مع تأزم العلاقة بين الدراويش والقبائل المتحالفة مع الإنجليز، انتقل عبد الله حسن – باتفاق مزدوج مع الاحتلاليين البريطاني والإيطالي – إلى منطقة آمنة جنوب الصومال، حيث أنشأ حصنًا قويًا ومركزًا عسكريًا.