الصحافة في قبضة التكنولوجيا.. ماذا تعني صفقة ميتا ورويترز لصناعة الإعلام؟
يقول الشاعر أحمد شوقي: “لكل زمان مضى آية، وآية هذا الزمان الصّحف، لسان البلاد، ونبض العباد، وكهف الحقوق، وحرب الجنف”. وقد كان لدوره في التعبير عن الحقيقة ومواجهة الظلم أهمية كبيرة على مر العصور.
لكن الآن، تجد الصحافة نفسها أمام تحديات جديدة جراء التحول الرقمي وظهور شركات التكنولوجيا الكبرى. هناك تساؤلات ملحة حول استقلالية الصحافة وموثوقيتها، لا سيما مع الشراكة الأخيرة بين “ميتا” ووكالة رويترز، التي تعكس صراع المصالح في هذا المجال.
على الرغم من أن هذه الشراكات قد تبدو وكأنها تعزز الإعلام، إلا أن هناك مخاوف حقيقية بشأن تأثيرها على حقوق الصحفيين واستقلالية وسائل الإعلام.
اتفاقية “ميتا” و”رويترز”.. غموض في شراكة الذكاء الاصطناعي
أعلنت “ميتا بلاتفورمز” في 25 أكتوبر/تشرين الأول عن شراكة جديدة مع وكالة رويترز، حيث سيساعد روبوت الدردشة المعتمد على الذكاء الاصطناعي من “ميتا” في تقديم إجابات فورية باستخدام محتوى رويترز حول الأخبار والأحداث الجارية.
ورغم ذلك، لم يتم الإفصاح عن التفاصيل المالية لهذه الصفقة من قبل “ميتا” أو شركة “تومسون رويترز” الأم. وتعتبر هذه الشراكة أول اتفاقية إخبارية تبرمها “ميتا” منذ سنوات.
كما قررت “ميتا” تقليل المحتوى الإخباري على منصاتها بسبب الانتقادات المتعلقة بالتضليل والمشكلات المتعلقة بتقاسم الإيرادات. ويتوفر روبوت “ميتا إيه آي” عبر خدماتها المختلفة، بما في ذلك “فيسبوك” و”واتساب” و”إنستغرام”.
وللتعليق، قال المتحدث باسم “ميتا” إن روبوت “ميتا إيه آي” يقدم ملخصات وروابط لمحتوى رويترز، بينما لم توضح رويترز إذا ما كانت الشراكة تتضمن ترخيصاً لاستخدام محتواها في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.
ومن المتوقع أن تحصل رويترز على تعويض مالي للوصول إلى محتواها بموجب اتفاقية تمتد لعدة سنوات.
يجدر بالذكر أن “ميتا” قد أبرمت في السابق صفقات بمئات الملايين من الدولارات لمحتوى الأخبار، ثم أدت إلى تقليلها بشكل كبير بعد الانتخابات الرئاسية عام 2020.
بينما كان من الغامض حتى الآن مدى رغبة “ميتا” في التعاون مع الشركات الإعلامية، كانت رويترز شريكا في التحقق من الحقائق لدى “ميتا” منذ عام 2020.
وفقاً لتقرير نُشر في “فوربس”، تعتمد نتائج هذه العقود على تفاصيل كل اتفاقية، حيث يتم استخدام محتوى الناشرين كمراجع لاستفسارات المستخدمين في أدوات الذكاء الاصطناعي.
**دخول الذكاء الاصطناعي في الإعلام**
تشهد وسائل الإعلام الإخبارية استغلال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لتطوير منتجاتها بشكل متزايد. وفي نفس السياق، يتزايد الزخم في صفقات هذا النوع من التكنولوجيا خلال عام 2024، حيث تشير التقارير، ومنها تقرير “ذي إنفورمايشن”، إلى أن قيمة هذه الصفقات التي تشمل “أوبن إيه آي” تتراوح بين مليون إلى 5 ملايين دولار. يعتمد حجم الصفقة النهائي على المفاوضات بين الطرفين حول القيمة المتصورة للمحتوى الإخباري الموثوق والعالي الجودة.
![مجموعة “ميتا” الشركة الأمّ لفيسبوك وانستغرام، تنوي تسريح آلاف الموظّفين اعتبارًا من هذا الأسبوع](https://www.alarabiyanow.com/wp-content/uploads/2024/12/الصحافة-والتكنولوجيا-هل-تؤثر-صفقة-ميتا-ورويترز-على-الإعلام؟.jpg)
**انقسامات داخل القطاع الإعلامي**
ترفض بعض وسائل الإعلام الانضمام إلى هذه المفاوضات، مما يؤدي إلى تعميق الانقسام داخل القطاع. وتظهر الساحة مجموعة من المواقف المتضاربة، حيث صار هناك ما يُعرف بـ “رفاق الذكاء الاصطناعي” و”أعداؤه”، أو كما وصفتهم صحيفة “بريس غازيت” بالموقعين والمدعين. بينما يواصل البعض تقديم الصفقات، يواصل آخرون النضال من أجل حماية حقوقهم ضد هيمنة التقنية.
تضم قائمة صانعي الصفقات مؤسسات كبيرة مثل “فايننشال تايمز” و”كوندي ناست” و”تايم” و”فوكس”، بالإضافة إلى “نيوز كورب” و”فورتشن”. وعلى الجانب الآخر، تبرز أسماء مثل “نيويورك تايمز” التي رفعت دعوى قضائية ضد “أوبن إيه آي” و”مايكروسوفت”، وهي من أبرز القضايا المتعلقة بحقوق الناشرين.
**دعوى نيويورك تايمز**
أعلنت “نيويورك تايمز” في بداية هذا العام أنها تسعى لتعويضات واسترداد والتكاليف المتعلقة باستخدام محتواها من قبل الذكاء الاصطناعي. وبعد أشهر من المفاوضات مع “أوبن إيه آي”، قررت “نيويورك تايمز” رفع صوتها بشأن مخاوفها حيال استخدام ملكيتها الفكرية. حسبما ذكرت تقارير، سيكون نجاح القضية مرتبطًا بكيفية تفسير المحكمة الأميركية لمفهوم الاستخدام العادل في قانون حقوق النشر.
أشارت “نيويورك تايمز” أن الشركات المذكورة حققت أرباحًا باستخدام محتواها دون دفع أي رسوم مقابل الترخيص. في ردها، أوضحت “أوبن إيه آي” أن منتجاتها لا تُستخدم كبديل للاشتراك في الصحيفة وأنه لا يمكن استخدامها بشكل منفصل لعرض مقالات معينة.
**شكاوى من صناعة الإعلام**
تتزايد الشكاوى في قطاع الإعلام، حيث يعبر العديد من صانعي الأخبار عن مخاوفهم تجاه هذه الصفقات. وبحسب تقرير “فوربس”، هناك ثلاث نقاط رئيسية تم الانتقاد فيها لمطوري الذكاء الاصطناعي. أولاً، يهدد هؤلاء النموذج الحالي لصناعة الأخبار من خلال استخدام محتوى مسروق. وثانيًا، هناك حالات تمثيل غير صحيح للمحتوى. وثالثًا، تتآكل حقوق الصحفيين، حيث لا يستفيدون مباشرة من الإتاوات المدفوعة لشركات الإعلام.
هذا الاتجاه يثير مخاوف صحفية كبيرة حول تقويض قيمة مساهماتهم وتضاؤل الفرص المتاحة لهم في المستقبل.### الفجوة بين دور الإعلام: اقتصاديات نماذج العمل
وفقًا لتقرير نشره موقع “فوربس”، فإن الفجوة الموجودة بين أدوار الإعلام تتشكل بعمق من خلال الاقتصاديات التي تحكم نماذج أعمالها. حيث أن المؤسسات الإخبارية الرائدة التي تنوعت مصادر إيراداتها بعيدًا عن الإعلانات، غالبًا من خلال التوسع في تراخيص المحتوى، والاشتراكات الرقمية والمطبوعة، والفعاليات، وتمويل المنح، والخدمات التجارية، تمتلك ميزة واضحة في المفاوضات.
### استراتيجيات هجينة تحمي من خسائر الذكاء الاصطناعي
تعمل هذه الإستراتيجية الهجينة كحاجز يحمي هذه المؤسسات من أي خسارة محتملة في حركة المرور الناتجة عن المنتجات المدفوعة بالذكاء الاصطناعي. وفي الوقت نفسه، هناك عدد قليل من شركات الإعلام التي تعتمد بشكل أساسي على تقديم وصول مباشر إلى المحتوى، مثل صحيفة “نيويورك تايمز” و”وول ستريت جورنال”.
على سبيل المثال، أفاد بيان صحفي حديث أن أكثر من 68% من إيرادات “نيويورك تايمز” في عام 2023 جاءت من الاشتراكات، بينما شكلت الإعلانات حوالي 20% فقط. وبالمثل، أفادت “أكسيوس” أن حوالي 80% من إيرادات “داو جونز”، الشركة الأم لـ”وول ستريت جورنال” في عام 2024، تأتي من اشتراكات المستهلكين والشركات.
### قيمة الأرشيفات الضخمة في عالم الذكاء الاصطناعي
من جهة أخرى، فإن غرف الأخبار التي تمتلك أرشيفات كبيرة، خاصة المحتوى المرئي، تعتبر موردًا قيمًا لشركات الذكاء الاصطناعي، إذ أن هذا المحتوى أقل قابلية للوصول من قبل برامج جمع البيانات. ومن المعروف أن سحب المحتوى المرئي يواجه تحديات تتطلب مواجهة بيانات غير منظمة، وإدارة متطلبات حسابية أعلى، بجانب التغلب على حماية الترخيص.
![السيرفرات الحديثة](https://www.alarabiyanow.com/wp-content/uploads/2024/12/1733286268_120_الصحافة-والتكنولوجيا-هل-تؤثر-صفقة-ميتا-ورويترز-على-الإعلام؟.jpg)
*تحتوي السيرفرات الحديثة على طاقة استعيابية أعلى للشرائح مما يزيد من قدرة معالجة البيانات وعمليات التدريب في الذكاء الاصطناعي (ميتا)*
### تغييرات إيجابية من شراكات الذكاء الاصطناعي
في سياق آخر، تشير الدكتورة ماتيلد بافيس، المستشارة الخبيرة لدى اليونسكو في تأثيرات الذكاء الاصطناعي، خلال بودكاست “الصوت البشري الأخير”، بحذر إلى بعض التحولات الإيجابية الناتجة عن الشراكات في مجال الذكاء الاصطناعي. ومن بين هذه التحولات، نجد التدريب بموافقة، ومتطلبات النسبة، وإمكانية تتبع مصدر البيانات، مما يعتبر انتصارًا للمستخدمين إذ يتيح لهم تتبع المعلومات إلى مصدرها الأصلي.
### تحول نماذج الأعمال ومشاركة الإيرادات
تشهد نماذج الأعمال تحولًا جديدًا يتمثل في مشاركة الإيرادات، حيث تقوم شركات مثل “فايننشال تايمز”، و”أكسل سبرينغر”، و”ذا أتلانتيك”، و”فورتشن”، بترخيص المحتوى لشركات ناشئة مثل “بروتاتا إيه آي”. وهذه الشركة تدعي أنها تستطيع نسب حصص الإيرادات بدقة من اشتراكات روبوتات الدردشة، ثم توزيع الإيرادات على أصحاب المحتوى.
### مستقبل الإعلام في ظل الابتكارات
لقد رسم عام 2024 بالفعل ملامح الصراع في صناعة الإعلام. ما يعلمه العام الماضي هو أن ما كان غير متوقع أصبح الآن القاعدة الجديدة. ومع استمرار تضارب المصالح بين عمالقة التكنولوجيا والمؤسسات الإعلامية، تثار تساؤلات عميقة حول الثمن الذي قد تدفعه هذه المؤسسات على مستوى مصداقيتها أو استقلاليتها.
إذا كانت هذه الصفقات تشبه ما يسمى “فوستيان”، كما أشار مارك هاورد، مدير العمليات في مجلة “تايم”، حيث يتم تقديم تنازلات مغرية مقابل مكاسب سريعة، فإنه يتبقى لنا أن نتساءل: ما هو الثمن الحقيقي الذي قد تفرضه على مستقبل الصحافة؟ وهل تستطيع وسائل الإعلام الصمود أمام التكنولوجيا أم تظل رهينة لمصالح القوى العظمى؟