محمد شعبان أيوب
8/5/2024 – | آخر تحديث: 8/5/2024 11:52 ص (بتوقيت مكة المكرمة)
div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>كانت المعركة في ميسلون مفترقًا بين حقبتين ودولتين، دولة الاستقلال الذي حلم به الشعب السوري في فترة الحكم الملكي، ودولة التبعية للإحتلال الفرنسي الذي سيؤدي احتلاله للبلاد إلى فصل جديد سيكون له تأثيرات طويلة الأمد على تاريخ سوريا الحديث منذ مئة عام وحتى يومنا هذا.
وبدأت هذه المأساة مع إطاحة السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1909م، وكانت هذه الإطاحة بداية لسلسلة من الهزائم العسكرية للإمبراطورية العثمانية على العديد من الجبهات في البلقان ومصر وفلسطين وسوريا ثم العراق والجزيرة العربية.
وخلال تسع سنوات من إطاحته، انخرطت الحكومات العثمانية الانتقالية التي تولت السلطة في تنفيذ مغامرات عسكرية كانت بعيدة كل البعد عن الحسابات الدقيقة لعواقبها.
وفي ظل هذه المغامرات، كانت القوى الكبرى المستعمرة مثل البريطانيين والفرنسيين والروس يتفقون على إعادة تشكيل مصائر “الدولة المريضة” وفق مصالحهم الإستراتيجية.
تصوير العسكري التركي المشهور بالقسوة (شترستوك)
مغامرة الاشتراكيين وانتكاسة الشرق
عندما انطلقت الحرب العالميّة الأولى في عام 1914، قام الضباط الاشتراكيين بالتخطيط ضد حكم السلطان عبد الحميد الثاني ومسؤولي الدولة العثمانية الحقيقيين بالانضمام للتحالف مع ألمانيا، مما جعل نطاق الصراع يمتد من أوروبا إلى الشرق الأوسط .
وفي ذلك الوقت، كان الجنرال التركي جمال باشا المعروف بقمعه الشديد وقوته الحاكم العثماني لسوريا؛ حيث كان يعتبر مناهضًا بشدّة للحركة الوطنية العربية الناشئة والتي نادت بالاستقلال عن الدولة العثمانية.
لذلك، بدأ في تصعيد سياسته ابتداءً من عام 1915 حيث قام بالقبض على العديد من الشبان والمثقفين وقام بتنفيذ حكم الإعدام على العديد منهم.
ووفقًا للمؤرخ الأميركي ديفيد فرومكين، أعلن الشريف حسين أمير مكة والحجاز عن بدء الثورة العربية الكبرى بهدف توحيد الجزيرة العربية والعراق والشام تحت خلافة عربية بالتعاون مع البريطانيين بعد توقيع اتفاقه مع السير ماكمهون السفير البريطاني في القاهرة.
VIDEO
ولقد شبت المواجهة بين العرب والعثمانيين في ذلك الوقت في غرب الجزيرة العربية تحت قيادة الكولونيل توماس إدوارد لورنس المعروف كلورانس العرب، الذي كان يعمل بتعاون مع أبناء الشريف الحسين كالأمير فيصل والأمير علي.
وأدت هزيمة العثمانيين والألمان وفشلهم في عبور قناة السويس خلال الحملتين في عام 1915 و1916 إلى تغيير تكتيك الإنجليز نحو الهجوم بقيادة الجنرال إدموند ألنبي بالتزامن مع تقدم القوات العربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين وبمساعدة لورنس من غرب الجزيرة العربية إلى شمالها والعودة إلى شرق الأردن وفلسطين.
وبنجاح الهجوم، تم تحرير القدس في نهاية ديسمبر/كانون الأول 1917 مما أدى إلى طرد العثمانيين من الجزيرة العربية وجنوب الشام، مما فتح الطريق إلى دمشق وغيرها من المناطق السورية وجنوب الأناضول، حسبما ذكر المؤرخ عارف العارف في كتابه “تاريخ غزة”.
إدموند ألنبي في مدينة القدس في ديسمبر/كانون الأول 1917 (رويترز)
سوريا مملكة عربية بتأييد الحلفاء
في الوقت نفسه، جرى اتفاق سايكس بيكو عام 1916م بين الإنجليز والفرنسيين لإعادة تقسيم الدولة العثمانية في الشرق الأوسط، حيث تم تخصيص السواحل الشامية وقليقية جنوب الأناضول وسوريا للفرنسيين. على الرغم من ذلك، حاول البريطانيون تأخير تسليم سوريا للفرنسيين ودعم استقلالها تحت قيادة الشريف حسين وأبنائه خوفًا من تداعيات احتلال فرنسا في دمشق.
وقد أدى دخول ممثل فرنسا إلى سوريا بتعاون مع الجنرال البريطاني ألنبي وتمسكه بتوقيع اتفاقية سايكسبيكو أعلن في نهاية اللقاء على الأمير فيصل بهذه المعلومات:
ستُصبح فرنسا الدولة المكلفة بالحماية في سوريا.
فيصل سيدير إدارة سوريا نيابة عن والده الملك حسين، باستثناء فلسطين تحت الحكم البريطاني ولبنان تحت الحكم الفرنسي.
يجب أن يكون لديه ضابط اتصال فرنسي يتواصل مع لورانس البريطاني.
الغضب الذي شعر به الأمير فيصل جاء من عدم معرفته بتفاصيل الاتفاقية بين البريطانيين والفرنسيين، وعدم إطلاعه على ذلك من قبل لورانس، ولكن تحت التهديد المنصوص عليه والقوة العسكرية القوية التي كانت موجودة على الأرض، اضطر إلى الموافقة على هذه الشروط.
لم يمض وقت طويل حتى وصل جورج بيكو المفوض الفرنسي ورئيس الاتفاقية الشهيرة مع الإنجليز في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1918م إلى السواحل اللبنانية ليبدأ عمله كممثل مدني وسياسي لفرنسا في المنطقة، تحت إشراف الجنرال البريطاني ألنبي كقائد عسكري على الأرض.
VIDEO
وتم تقسيم بلاد الشام بالفعل بين البريطانيين والفرنسيين:
تحت حكم عربي شبه مستقل بقيادة فيصل بن الحسين، كانت المناطق الداخلية (سوريا الحالية) تابعة للإدارة الفرنسية من 1918 إلى 1920.
تحت الاحتلال الفرنسي المباشر سقطت منطقة لبنان وسواحل الشام غربا.
امتدت السيطرة البريطانية مباشرة إلى المنطقة الجنوبية في فلسطين وشرق الأردن (الأردن الحالي)، ترجمة عملية لاتفاقية سايكس بيكو بين البريطانيين والفرنسيين.
ظلت سوريا تحت حكم الأمير فيصل، وأعلن المؤتمر السوري (البرلمان) في دمشق في مارس/آذار 1920م إلى الأمير فيصل ملكا على سوريا.
أثار الإعلان هذا غضب فرنسا ضد حليفتها بريطانيا، حيث كانت القوات البريطانية لا تزال حاضرة في معظم الأراضي السورية، واعتبرت إعلان فيصل ملكية بريطانية، ما أدى إلى انتقاد اتفاقية سايكس بيكو.
في استجابة للاعتراض الفرنسي، انسحبت القوات البريطانية من سوريا بالكامل ومن منطقة قليقلية في جنوب شرق الأناضول، وذلك كما وُثق في كتاب “سورية والانتداب الفرنسي” للمؤرخ يوسف الحكيم.
مجلس حلفاء مؤتمر سان ريمو 1920م أصدر قرارا بإسناد مهمة الانتداب على سوريا ولبنان إلى فرنسا (مواقع التواصل)
معركة ميسلون والاحتلال الفرنسي
وفقًا لكتاب “تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي” للكاتب “ستيفن هامسلي لونغريغ”، تم عقد مؤتمر في سان ريمو بعد شهر واحد من هذه الأحداث في أبريل/نيسان 1920م، وأصدر مجلس الحلفاء بشكل رسمي قرارًا بتكليف فرنسا بالانتداب على سوريا ولبنان.
في 14 يوليو/تموز 1920م، أرسل الممثل الفرنسي في لبنان وخليفة جورج بيكو، الجنرال هنري غورو، إنذارًا رسميًا إلى حكومة الملك فيصل في دمشق وإلى المؤتمر السوري، طالبًا بما يلي:
إلغاء التجنيد الإجباري وتسريح 10 آلاف من الجيش.
الموافقة على الانتداب الفرنسي.
اعتماد استخدام النقد السوري الفرنسي الجديد.
تسليم السكك الحديدية وغيرها للفرنسيين.
وفي مواجهة هذه الشروط التي كانت تعني بشكل واضح الاستسلام للاحتلال الفرنسي، وافق فيصل ووزراءه على الخضوع لهذه المطالب، وأمروا بسحب القوات العربية من الحدود اللبنانية إلى الداخل وتسريح الجيش، مما أثار غضب الجماهير ونظرهم إلى ذلك كخيانة وضعف في الدفاع عن الوطن.
الأمير فيصل بن الحسين (مواقع التواصل)
هذه الانتفاضة العارمة، أعلن فيصل تراجعه عن الانسحاب، ومن ثم تحول الأمر إلى مواجهة والدفاع عن سوريا ضد الفرنسيين. تم تكليف وزير الحربية العقيد يوسف العظمة بهذه المهمة. تولى العظمة هذا المنصب بين شهري مايو ويوليو عام 1920. كانت مهمته إعادة تجميع القوات وقيادة المتطوعين.
كان العمر الذي كان يُعرف بشجاعته ومعرفته الواسعة وقتها 36 عامًا. كان ملمًا باللغة العربية والتركية والفرنسية والألمانية. تخرج في المدرسة الحربية العثمانية في إسطنبول عام 1903. عند نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، عاد إلى دمشق واختاره الأمير فيصل مرافقًا ومستشارًا ثم رئيس أركان الجيش السوري.
كان العظمة من أوائل الذين تصدوا لقرار الملك فيصل بالانصياع للاحتلال الفرنسي وتفكيك الجيش. سيطرتهم على دمشق وسوريا بأكملها. كانت عقيدته العسكرية قائمة على تحقيق أفعال قادة عسكريين كبار في التاريخ الإسلامي الذين واجهوا الغزاة والمحتلين.
كان متأثرًا بالمدرسة العسكرية الألمانية التي تعلم فيها العديد من المبادئ العسكرية. كانت عقيدته تشجع على المواجهة والحرب بغض النظر عن النتائج. ذكر العديد من الأمثلة المعاصرة مثل بلجيكا التي تحدت القوات الألمانية على الرغم من معرفتها بأنها ستهزم. من أجل عدم تاريخنايتها بتسليم البلاد بدون صراع.
بناء على ذلك، قرر الملك فيصل بن الحسين تسليم قيادة المعركة للعقيد يوسف العظمة. نجح بالكاد في إعادة تجميع قوات الجيش التي تم فك تشكيلها مسبقًا إلى جانب قوات المتطوعين. وصلت قوة الجيش إلى ما بين 3 إلى 4 آلاف جندي مسلحين ببنادق قديمة من العثمانية والإنجليزية والإيطالية، مع عدد قليل من المدافع والألغام.
من جانبهم، كان الفرنسيون يعتمدون على قوات سينغالية وغيرهم بعدد يصل إلى 9 آلاف جندي، مدربين ومنظمين بشكل جيد. كانوا يمتلكون أحدث التكنولوجيا العسكرية مثل البنادق والدبابات والمدافع والطائرات. التقت الجانبين في 24 يوليو عام 1920 في منطقة ميسلون غربي دمشق على طريق بيروت ودمشق.
اندلعت معركة ميسلون في وسط حر الصيف اللاهب واستمرت لمدة 6 ساعات. أظهر المقاتلون السوريون والعرب ثباتًا كبيرًا خلالها. لم يكن وزير الحربية يوسف العظمة يراقب المعركة من بعيد، بل كان يقف بجانب أحد المدافع بين الجنود.
كان الفارق الواضح في التكتيكات العسكرية الفرنسية والتنظيم المعتمد والتقدم التكنولوجي مقارنة بالقوات السورية والعربية التي كانت غير مجهزة بشكل جيد من الناحية التكنولوجية.
بسبب هذه الأسباب، تشتتت قوات الجيش السوري وسقط 400 جندي سوري وعربي شهداء. بينما قتل 400 فرنسي وسينغالي وجرح 1600 آخرون بالإضافة إلى 40 ضابطًا. كان من بين الشهداء وزير الحربية يوسف العظمة.
بعد الهزيمة، دخل الفرنسيون بقيادة الجنرال غورو إلى دمشق. أمَر غورو الحاكم فيصل ومحاذين له بمغادرة سوريا. قد أعلنوا سقوط حكومته وأقاموا حكومة جديدة تباع لهم. بدأت فترة الانتداب الفرنسي على سوريا بعد ذلك، واستمرت لمدة ربع قرن حتى عام 1946، وأدت إلى زيادة الانقلابات العسكرية فيما بعد.
أول قرار اتخذته الفرنسيون بعد سيطرتهم على سوريا ولبنان كان إعلان لبنان الكبير واستقلاله عن دمشق كما كان قد حدث في زمن الدولة العثمانية.
في سبتمبر 1920، تلقت حكومة دمشق برقية من المفوض الفرنسي غورو أعلن فيها إنشاء لبنان الكبير الذي يمتد من النهر الكبير شمالًا حتى فلسطين جنوبًا، مع تحديد حدوده الشرقية بجبال لبنان الشرقية، وعاصمته بيروت، ويضم البقاع وثغور طرابلس وصيدا وصور.
مرافق الجنرال هنري غورو في مدينة حلب بعد هزيمة معركة ميسلون ودخول الفرنجة سوريا عام 1920 (منصات التواصل)
ولم يكتف الفرنسيون بهذا الاقتطاع بل اتخذوا قرارا بتقسيم الجمهورية العربية السورية على أسس طائفية وإقليمية، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، أعلن الفرنسيون تقسيم سوريا إلى ٤ مقاطعات، حلب في الشمال، ودمشق في الجنوب، ومنطقة العلويين على الساحل، وجبل الدروز في الجنوب، “حيث لكل مقاطعة حكومة مديرية مستقلة تتبع مباشرة ضمنية عليا، وتخضع قراراتها الهامة لتصديق هذه السلطة”، حسب قول القاضي والمؤرخ يوسف الحكيم الشاهد على تلك الحقبة.
وحاول الفرنسيون بشتى السبل تأكيد هذا النوع من التقسيم الطائفي، لتشتيت وتفتيت سوريا، وضمان استمرار سيطرتهم الكاملة على البلاد، رغم تصدي قوي من جانب السنة والدروز، بالإضافة إلى جهودهم في تطهير سواحل البحر المتوسط من الأقلية السنية وإنشاء جماعات تابعة لهم.
هذا ما أكده كمال ديب في كتابه “تاريخ سورية المعاصر من الانتداب حتى عام 2011” مشيراً إلى أن “مشروع فرنسا في إنشاء مقاطعات طائفية شرق البحر المتوسط استلزم ابعاد نفوذ السنة عن السواحل”.
حسني الزعيم الذي قاد أول انقلاب عسكري في سوريا عام 1949 (منصات التواصل)
لعب التركيز على القضايا الطائفية والأقليات والإقليمية خلال 26 عاما من حُكم الاحتلال “الانتداب” الفرنسي دوراً في تعزيز مشاعر التباين وأدى إلى عدم التوافق السياسي والفكري بين السكان السوريين، مما سمح للطبقة العسكرية بالارتفاع وتولي السلطة.
وكانت سوريا من بين أوائل الدول العربية التي شهدت انقلاباً عسكرياً في عام 1949 بقيادة حسني الزعيم، مع استمرار سلسلة الانقلابات العسكرية وصعود حزب البعث في عام 1963 ثم تولي حافظ الأسد الحكم الشامل في عام 1970.
وكانت الكارثة السورية المعاصرة والمستمرة تعتبر جزءاً من نتائج معركة ميسلون التي طبعت فترة الاحتلال الفرنسي، وما تبع ذلك من تداعيات.
المصدر : الجزيرة + منصات إلكترونية