العملية “راؤول”.. لماذا راقبت الاستخبارات الروسية لاعبي الشطرنج؟
حيازة الأبيض للأفضلية ثم فقدانها، كانت السمة الرئيسية للمباراة التي جمعت بين الأستاذين الكبيرين، الأميركي “فابيانو كاروانا” والروسي “إيان نيبومنياتشي”، في الجولة الختامية من بطولة المرشحين التي جرت في مدينة “تورنتو” الكندية في شهر أبريل/نيسان الماضي. حيث امتلك “كاروانا” (الذي لعب باللون الأبيض) أفضلية مؤثرة في 3 مواقف خلال المباراة، لكنه أهدرها واحدة تلو الأخرى لتنتهي المباراة بالتعادل، ويفقد “كاروانا” فرصته الأخيرة في المنافسة على البطولة، مكتفيا بتسجيله 8.5 نقاط وإحراز المركز الثاني، الذي شاركه فيه كل من “نيبومنياتشي” ومواطنه الأميركي “هيكارو ناكامورا”.
اقرأ أيضا
list of 2 items
“خاوة”.. العالم كما يراه يحيى السنوار
نهاية المرأة الحديدية.. كيف أطاحت الاحتجاجات برئيسة وزراء بنغلاديش؟
end of list
من جانبه لم يمتلك “نيبومنياتشي” أية أفضلية مؤثرة طوال المباراة، رغم أنه أيضًا كان في حاجة إلى الفوز على الأميركي من أجل الإبقاء على حظوظه في المنافسة؛ مما منح لقب البطولة في الأخير للأستاذ الهندي الكبير “دومراجو جوكيش”، البالغ من العمر 17 عاما، الذي أصبح أصغر لاعب يحصد بطولة المرشحين بعد تسجيله 9 نقاط، كما ينتظره لقاء مصيري مع بطل العالم الحالي، الأستاذ الصيني الكبير “دينغ ليرن”، لتحديد بطل اللعبة الجديد.
إخفاق “نيبومنياتشي” في التأهل لملاقاة بطل العالم يعدّ حلقة جديدة في سلسلة إخفاق الشطرنج الروسي، الممتدة منذ مطلع القرن الحالي، رغم أن روسيا في تجسيداتها العديدة، في عهدَي الإمبراطورية والاتحاد السوفياتي، أفرزت عددًا من الأساتذة والأبطال أكثر من أي دولة أخرى، إلى أن أصبحت “تقريبا” مرادفة للشطرنج، واحتكر لاعبوها عرش اللعبة منذ أربعينيات القرن الماضي، ولم ينازعهم في ذلك سوى الأستاذ الأميركي الكبير “بوبي فيشر”، الذي انتزع بطولة العالم مرة وحيدة من الأستاذ الروسي “بوريس سباسكي” عام 1972.
ما وراء عرش الشطرنج
تضاؤل مكانة روسيا في اللعبة يقابله صعود مضطرد من جانب الهند، حيث يحتوي التصنيف الحالي على 4 لاعبين هنود ضمن قائمة أعلى 20 لاعبا مصنفا في مقابل وجود روسيَّين فقط. أما النقطة الجديرة أيضا بالملاحظة التي تعطي انطباعا عن مستقبل اللعبة، فهي انخفاض أعمار أبطال الهند، إذ تتراوح أعمارهم بين 17 و20 عاما (ما عدا الأستاذ الكبير “فيسواناثان أناند” الذي يبلغ حاليا 54 عاما)، في حين أن البطلين الروسيَّين في العقد الرابع من عمريهما.
تفوق الهند الحالي في اللعبة نتاج الاهتمام الذي أولته إياها الدولة، لقد نما الشطرنج في الهند على المستوى الشعبي، خاصة بعد حصول “فيسواناثان أناند” على بطولة العالم في مطلع القرن الحالي، كما صارت اللعبة مدرجة في المناهج الدراسية في ولايات عدة، وانتشرت أندية الشطرنج وبطولاته في أرجاء البلاد. ويلعب حاليا قرابة مليون شخص في البطولات المحلية التي تجري في الهند، بما في ذلك سائقو العربات وعمال البناء. إضافة إلى ذلك، فإن ثمة تصورا عاما بين الهنود مفاده أن ممارسة الشطرنج تساعد على التحصيل الدراسي. وفي هذا السياق يقول أحد مديري أندية الشطرنج في “مومباي”: “إننا نتلقى يوميا 50 مكالمة من أولياء أمور مهتمين بتلقين أبنائهم أصول اللعبة”.
يعكس ذلك رغبة دلهي في تصدير صورة الدولة التي تمتلك مقوماتٍ بشرية على مستوى عالٍ من الذكاء، بما يخدمها في الحصول على استثمارات أجنبية لمشاريعها المتنوعة في مجالات الصناعة التقنية والثقيلة، وكذلك الصناعات الدفاعية والبرمجيات وريادة الأعمال وغيرها من الصناعات المرتبطة بالابتكار؛ مما يعني أن أحد جوانب إصرار دلهي على انتشار اللعبة يتعلق بكونها وسيلة دعائية للعقل الهندي، ومن ثم للصناعة الهندية ومنتجاتها.
وكذلك، ارتبط صعود الشطرنج الروسي في القرن العشرين بسياسات الدولة، حيث تكوّنت شعبية اللعبة وقاعدتها الواسعة في روسيا عبر 3 مراحل، اقترن كل منها برؤى سياسية محددة، بدءا من مرحلة “الشطرنج للعسكريين”، حين اعتمدت موسكو اللعبة باعتبارها أحد أشكال التدريب العقلي للمجندين العسكريين وكوادر الحزب الشيوعي في أعقاب الثورة البلشفية، وساد التصور بأن الشطرنج يغذي السمات المطلوبة في الجندي الجيد، مثل الجرأة والقدرة على الابتكار وقوة الإرادة والقدرة الإستراتيجية.
تلت ذلك مرحلة “الشطرنج للعمّال”، وخلالها استثمرت الدولة في اللعبة على نطاق واسع وتمكّنت من دمجها في ثقافة البلاد، حيث اعتُقد أنها قد تمثل فائدة كبيرة في رفع المستوى الثقافي للجماهير.
أشرف على هذه المرحلة “نيقولاي كريلينكو” الذي خدم في مناصب متنوعة في النظام القانوني السوفياتي، بما في ذلك منصب مفوض العدالة، إذ تولى “كريلينكو” مهمة تحويل الشطرنج إلى لعبة وطنية للاتحاد السوفياتي عام 1924. وبوصفه -آنذاك- رئيسا لقسم الشطرنج في المجلس الأعلى للثقافة البدنية، أقنع “كريلينكو” أعضاء الكرملين بتنظيم أول بطولة دولية في موسكو عام 1925، ثم بطولتين أخريين في عامي 1935/1936. وقد كتب في تصدير كتاب البطولة: “في بلدنا حيث المستوى الثقافي منخفض نسبيا، والهواية النموذجية للجماهير هي الشجار والسُّكر، تعتبر الشطرنج وسيلة قوية لرفع المستوى الثقافي العام”.
المرحلة الأخيرة في دعم موسكو للعبة واهتمامها بها هي مرحلة “شطرنج الحرب الباردة”، وكان الغرض منها إثبات تفوق العقل الشيوعي على نظيره الرأسمالي الغربي خلال تلك الحقبة، ومثّل الشطرنج آنذاك وسيلة دعائية مناسبة لترويج تفوق الثقافة السوفياتية وقدرتها على إنتاج مفكرين.
الشطرنج ناسب الأذواق الصارمة لقادة الحزب الشيوعي، نظرا إلى أنه لعبة تخلو من الصدفة وتعتمد على الحسابات العقلية، كما رأى النظام السوفياتي في اللعبة امتدادا للفلسفة المادية الجدلية، التي تعد الأفكار والتجريدات انعكاسا للمادة، وترى في الصراع محرضا على التطور، وهو ما اعتُبر متحققا في الشطرنج نظرا إلى طبيعته الجدلية، وتطوّر مدارسه وأفكاره عبر عدد غير معلوم من المباريات بين الخصوم.
على جانب آخر، كانت اللعبة متنفسا وتعويضا للشعب السوفياتي عن أشياء مفقودة في ظل الحكم الشيوعي، حيث أصبحت وسيلة للتعبير عن الجدارة الفردية من خلال منافسة شريفة، لا تتحدد نتيجتها مسبقا من خلال عضوية الحزب أو المكانة داخله، كما مثّلت مصدرا لكسب العيش لكثيرين، وأتاحت للموهوبين منهم فرصة السفر إلى الخارج لتمثيل بلادهم في المسابقات الدولية، وهي الجائزة التي طالما طمح إليها أولئك المعزولون عن العالم بسبب الستار الحديدي، الذي فرضته روسيا آنذاك على مواطنيها.
سقوط القيصر
تتباين الآراء بشأن أسباب تراجع مكانة الشطرنج الروسي، وثمة رأي قائل بأن توافر المعرفة الذي رافق انتشار شبكة الإنترنت مع مطلع القرن الحالي، أدى إلى إنهاء احتكار المعرفة الروسية وتيسير التدريب ودراسة اللعبة والاطّلاع على الأساليب الحديثة خارج روسيا، ومن ثم ظهور منافسين قادرين على المنافسة بعدما أصبحت الساحة متساوية. في الوقت ذاته، فقدت روسيا الكثير من مواهبها عبر موجات الهجرة التي ازدادت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ مما أدى إلى فقدان موسكو أبرز نقاط قوتها في اللعبة، وهي توارث المعرفة من جيل إلى آخر.
“دانييل جونسون”، الصحفي والكاتب البريطاني، يعلق على ازدهار الشطرنج الروسي وأفوله خلال القرن الماضي، بقوله إن اللعبة كانت بمثابة محاكاة للمواجهة السياسية والعسكرية بين الاتحاد السوفياتي والغرب، ولكنها مثل أفلام التجسس المثيرة التي اكتسبت مكانة مميزة أثناء حقبة الحرب الباردة ثم فقدت الكثير من بريقها بعد ذلك، مما يعني أن زوال أجواء التهديد الخاصة بتلك الحقبة هو ما أدى في النهاية إلى فقدان الاهتمام بها.
التفسيرات تتعدد ومنها ما يربط ذلك بتفكك جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، نظرًا إلى أن أصول الكثيرين من الأبطال الروس تعود إلى تلك البلدان، ومن ثم فإن زوال سيطرة روسيا عليها أفقدها مناجم مواهب الشطرنج. على سبيل المثال، فإن “غاري كاسباروف” من مواليد “باكو” في أذربيجان، و”ميخائيل تال” من لاتفيا، أما أصول “بيدروسيان” فتعود إلى أرمينيا، كما كان “يفيم بغولوبوف” من أوكرانيا و”أكيبا روبنشتاين” من بولندا.
لكن هذا التفسير يبدو متحاملا، كما يطبع على روسيا دور المستعمر، إذ يحكم بأن العبقرية الروسية في اللعبة ولدت في الأساس خارج أراضيها، وأن تلك الجمهوريات كانت مستعمرات أحكمت روسيا عليها السيطرة ونهبت مواردها، بما في ذلك الموارد البشرية، وبذلك يتناسى أن إفراز هؤلاء “الأبطال”، كان نتيجة الاهتمام الموحد الذي أولته الدولة للعبة في تلك الجمهوريات.
أضف إلى ذلك أن روسيا نفسها تمتعت ببنية تحتية هائلة من اللاعبين، بغض النظر عن لاعبي الجمهوريات، كما أن العديد من الأبطال الغربيين تعود أصولهم إلى روسيا، وبفضل هؤلاء تمكن الغرب من المنافسة وانتزاع البطولات أحيانا، كما انتشرت على أيديهم اللعبة هناك وساهموا في نقل الخبرة الروسية وتنشئة جيل جديد.
أبرز هؤلاء بطل العالم “ألكسندر أليخين”، الذي تجنس بالفرنسية عام 1920 ثم حصل على 4 ألقاب عالمية خلال تمثيله فرنسا، وكذلك “فيكتور كورتشنوي”، الذي ترشح لبطولة العالم في 10 مناسبات وتجنس بالسويسرية بعد فراره من الاتحاد السوفياتي عام 1976. أما “أرون نيمزوفيتش”، وهو أحد أبرز منظري الشطرنج، فقد غادر الإمبراطورية الروسية في أعقاب 1917 واستقر في الدانمارك، وكتب هناك مؤلفه الشهير “ممارسة الشطرنج” (Chess Praxis)، الذي عُدّ الكتاب الأهم للاعبي الشطرنج في القرن الماضي. وتكفي الإشارة إلى بطولة العالم في عام 1948، التي تنافس عليها 5 أبطال من بينهم 4 تعود أصولهم إلى روسيا، حيث إن الأستاذ الكبير “سامويل ريشفسكي” الذي مثّل الولايات المتحدة في هذه البطولة، من مواليد بولندا، التي كانت جزءا من الإمبراطورية الروسية إلى عام 1915.
بطريرك الشطرنج الروسي
“ميخائيل بوتفينيك” أول روسي يتوّج بلقب العالم. ورغم أن ظهوره الأول على الساحة العالمية في بطولة “هاستينغز” السنوية عام 1934 كان مخيبا، حيث حلّ في المركز السادس بمجموع 5 نقاط من 9 مباريات، فإنه عمل على نقاط ضعفه بشكل رائع وعندما عاد إلى الساحة الدولية في بطولة “نوتنغهام” بعد عامين، تمكّن من انتزاع المركز الأول متساويا مع “كابابلانكا”، ومتفوقًا على “إيوي” و”أليخين” و”لاسكر”.
“بوتفينيك” تسلطن على عرش اللعبة قرابة 15 عاما، حيث انتزع لقبه الأول من مواطنه “فاسيلي سميسلوف” عام 1948، ثم دافع عنه أمام مواطنه الآخر “ديفيد برونشتاين” عام 1951. ورغم أن “بوتفينيك” خسر اللقب في 1957 أمام “سميسلوف” فإنه استعاده في العام التالي، الأمر الذي تكرر مع مواطنه “ميخائيل تال” في عامي 1960 و1961، قبل أن يخسر اللقب للمرة الثالثة والأخيرة عام 1963 لصالح “ديكران بدروسيان”، ويتقاعد بعدها “بوتفينيك” مكرسا نفسه لتطوير برامج الشطرنج الحاسوبية وتدريب اللاعبين الشباب، ومن أبرز تلاميذه “أناتولي كاربوف” و”غاري كاسباروف” و”فلاديمير كرامنيك”، الذين صاروا أبطالا للعالم فيما بعد.
إستراتيجية “بوتفينيك” في اللعب اعتمدت على قدرته العالية على التمركز ثم محاولة إحداث اختلالات في توازن الخصم، ولم يكن “بوتفينيك” يخشى المجازفة في ذلك. كان يتمتع بفهم عميق لهياكل البيادق ويتمركز بأسلوب معقد وصبور ولم يكن الفوز هو هدفه الفوري، بل تكوين موقف متوتر مُحمّل بالفرص، قبل أن يتحين اللحظة ليباغت خصمه بمناورة تضرب على نقاط الضعف في هيكل بيادقه. وكثيرًا ما استخدم في ذلك التضحيات الموضعية لعزل بيادق الخصم أو لجعلها مزدوجة، ثم يعمل بعد ذلك على استغلال هذه الثغرات بألعاب دقيقة وحازمة.
ذخيرة “بوتفينيك” من الافتتاحيات كانت ضئيلة، وتشير الإحصائيات إلى أن “دفاع نمزو الهندي” كان مفضلا لديه، كما انصب تركيزه على فهم المواقف المعقدة بدلًا من اللجوء إلى الحيل التكتيكية التي لا يمكن استخدامها إلا مرة واحدة. إلى جانب هذا، كان “بوتفينيك” صارما بشأن التدريب ويعيد تحليل ودراسة كافة مبارياته “حتى تلك التي فاز بها”، كما مارس الرياضة بانتظام، وهو الأمر الذي يفعله كبار اللاعبين في الوقت الحالي.
وعُرف عنه محاكاة أجواء البطولة في جلساته الخاصة، على سبيل المثال، حين أتى أداؤه أقل من التوقعات في بطولة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية عام 1940، قرر التدرب في غرفة مليئة بالضوضاء ودخان التبغ استعدادا لبطولته القادمة، لأنه وفق قوله، لم يتمكن من التركيز في هذه البطولة بسبب أجواء الضوضاء والدخان التي ملأت الغرفة.
هيمنة السوفيات على اللعبة تأسست مع تتويج “بوتفينيك” بطلا للعالم، ومع ذلك، يشير “دانييل جونسون” إلى أن نتائج الأستاذ الإستوني “بول كيريس” كانت متساوية تماما مع نتائج “بوتفينيك”، وقد لعب “كيريس” بشكل جيد أمام منافسيه في بطولة 1948، إلا أنه انهار أمام “بوتفينيك” في 4 مباريات؛ مما أظهر الأخير بطلًا للعالم. ويذكر “جونسون” أن “كيريس” تعرض أثناء البطولة لضغوط من الحكومة السوفياتية نتيجة تعاونه السابق مع النازيين أثناء الحرب العالمية!
“جونسون” يشير أيضا إلى أن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي استدعت “بوتفينيك” في منتصف البطولة، بعد خسارته لمباراة أمام البطل الأميركي “سامويل ريشفسكي”، لكن “بوتفينيك” طمأنهم بإمكانية الفوز في المباريات التالية.
الواقعة ذاتها يذكرها لاعب الشطرنج السوفياتي الأميركي “بوريس جولكو” ولكن بأحداث مختلفة، إذ يروي أن “بوتفينيك” استُدعي إلى اجتماع سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي أثناء البطولة، وهناك التقى “أندريه جدانوف”، أحد أقرب معاوني “ستالين”، الذي أبلغه بقلق الحزب من احتمال فوز الأميركي “ريشفسكي”، وسأله: «كيف سيكون شعورك إذا خسر المشاركون السوفيات أمامك في البطولة عن قصد؟». كانت البطولة تضم اثنين آخرين من اللاعبين السوفيات، هما “فاسيلي سميسلوف” و”بول كيريس”.
“جولكو” يذكر أن “بوتفينيك” رفض العرض وأحس بالإهانة، لكن هذا الاضطراب لم يمر دون تأثير، إذ أدى إلى خسارة الروسي أمام “ريشفسكي” في مباراته التالية، وكانت هي المباراة الوحيدة التي خسرها أمامه في هذه البطولة.
الاسم الكودي: “راؤول”
إشراف 25 من أجهزة الأمن الروسية على اللعبة كان جزءا من تشديد السيطرة الذي شهدته مجالات الثقافة السوفياتية عموما خلال القرن الماضي، وكان الشطرنج الروسي، بدءا من حقبة “كيريلينكو”، في طليعة تلك المجالات التي شهدت قمعا بغرض إخضاع ممارسيها ودفعهم إلى تبني أجندة الدولة السياسية. إلى جانب ذلك، كان لدى الروس هاجس متزايد اتجاه فرار أبرز لاعبيهم إلى الغرب. هذا الهاجس ولد منذ نهائي بطولة العالم عام 1929 الذي جمع بين الفرنسي “أليخين” والألماني “بغولوبوف”، اللذين تعود أصولهما إلى الاتحاد السوفياتي الذي اكتفى بمشاهدة دولة أوروبية أخرى تحصد البطولة عبر أحد أبنائه.
المديرية الخامسة في جهاز الاستخبارات الروسي كانت هي المسؤولة عن رصد أنشطة الرياضيين ولاعبي الشطرنج ورفع تقارير عن أفكارهم وتحركاتهم. وتشير إحدى الوثائق المنشورة إلى أن المخابرات السوفياتية ظلت تتجسس على البطل الروسي “بوريس سباسكي” بعد مرور سنوات من اعتزاله اللعب، إثر هزيمته من الأميركي “فيشر” عام 1972. وتشير الوثيقة إلى أن تقرير جهاز الاستخبارات السوفياتي كان يوثق تحركات “سباسكي” في أثناء زيارته سنغافورة عام 1976.
من جانبه يؤكد “جولكو” أن المخابرات الروسية أشرفت باستمرار على لاعبي الشطرنج السوفيات البارزين، وبسبب طبيعة أنشطتها السرية، فإن الروايات عن عملها مع كبار اللاعبين السوفيات كانت قليلة ومتباعدة وتأتي بشكل رئيسي من لاعبين مروا بالتجربة، وبينما آذى جهازُ المخابرات بعضَهم، استفاد آخرون بشكل كبير من التعاون معه. ويشير “جولكو” إلى أن مواطنه “أناتولي كاربوف” كان أبرز المستفيدين من التعاون مع الجهاز الروسي.
يُذكر أن مجلة “أوغنيوك” الروسية، نشرت تحقيقا حول المساعدات التي قدمتها المخابرات الروسية لـ “كاربوف”، ومن ضمن ذلك محاولة صد زحف مواطنه وغريمه “غاري كاسباروف” نحو لقب العالم في ثمانينيات القرن الماضي. ومن بين الأسلحة التي سخرها جهاز المخابرات الروسية لهذا الغرض حقيبةٌ مليئة بالنقود، عُرضت في مقابل الحصول عن معلومات حول مناورات “كاسباروف” الافتتاحية.
العقيد السابق في الاستخبارات السوفياتية “فيكتور ليتفينوف”، أخبر المجلة أن السبب وراء ذلك هو القومية البحتة، نظرا إلى أن “كاربوف” روسي الأصل و”كاسباروف” من أذربيجان، التي كانت في ذلك الوقت إحدى دول الاتحاد السوفياتي لكنها دولة حدودية مكروهة. كما صرّح “ليتفينوف” بأن موسكو لا تثق بالشاب الجنوبي وتعتقد أنه قد ينشق. أحد جنرالات الجهاز الاستخباري أخبر “ليتفينوف” عام 1983، أن بطل العالم هو شخصية سياسية، والدولة تعتبر أن “كاسباروف” لم ينضج بما يكفي ليحمل اللقب.
“ميخائيل بوبوف”، المستشار السابق في مركز العلاقات العامة التابع لجهاز المخابرات الروسي، الذي عمل أيضا في المديرية الخامسة في جهاز الاستخبارات خلال الثمانينيات، يروي أن المخابرات الروسية جندت “كاربوف تحت الاسم الحركي “راؤول”. ويشير “بوبوف” إلى أن رئيس الجهاز لم يكن يثق في المعلومات التي يتلقاها من مرؤوسيه العاملين في المديرية الخامسة، ولذلك كان يعقد اجتماعات منتظمة مع “كاربوف” لكي يبقى على اطّلاع كامل بمشاكله ورغباته. إضافة إلى ذلك، كان “كاربوف” مفضلًا لدى الأمين العام للجنة المركزية، “ليونيد بريجنيف”؛ ولذلك تلقى رئيس المديرية الخامسة، الفريق “فيليب بوبكوف”، تعليمات كان فحواها أن “كاربوف” يجب أن يظل بطلا للعالم في الشطرنج.
“جولكو” يصف “كاربوف” بأنه ذكي بارع ومناور عظيم، ويشير إلى أنه استغل الفرصة التي أتيحت له بالتعاون مع جهاز الاستخبارات استغلالا رائعا، حيث أجبر أهم لاعبي الشطرنج الروس على أن يصبحوا مدربين ومساعدين له. من ضمن هؤلاء الساحر “ميخائيل تال”، بطل العالم الثامن، الذي رفض التعاون مع الجهاز ولم يكن مسيسا؛ مما أدى إلى تلقيه مضايقات كثيرة من الحكومة والحزب. وقد أُبلغ أن عليه أن يصبح مدربا لـ”كاربوف” إذا ما أراد الاستمرار في اللعب. وعموما فقد تطوع العديد من اللاعبين البارزين لتدريب محبوب الحزب المدلل، وفق تعبير “جولكو”، نظرا إلى أنه كان في وضع يسمح له بتحديد من يسافر إلى الخارج للمشاركة في البطولات الدولية.