الفائزون والخاسرون كضحايا.. رواية “خلية النحل” وثيقة توثيقية لحروب إسبانيا الأهلية | ثقافة

Photo of author

By العربية الآن

في سنة 1989، نال الكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا جائزة نوبل في الأدب، بعدما فاز الكاتب المصري نجيب محفوظ بنفس الجائزة في السنة السابقة.

حينها، كان هذا الحدث ملفتا للنظر لأن العالم الذي كانت تدور فيه روايات “محفوظ”، كان يرتبط بتفاصيل الحياة في القاهرة، بينما تتناول رواية “خلية النحل”، التي حصلت ثيلا على الجائزة من خلالها، تفاصيل الحياة في مدينة مدريد الإسبانية. رغم وجود فارق بارز وهو أن روايات “محفوظ” تأخذ مكانا في الزمان التاريخي للقاهرة، بينما تجسد روايات ثيلا في مدريد.

في رواية “خلية النحل”، عمل خوسيه ثيلا على رسم صورة للبيئة الاجتماعية التي كانت تعاني من اضطرابات متتالية، حيث استطاع من خلال عناصر القصة تقديم الحوادث والشخصيات بوضوح، ليبرز العلاقات بينها وبين المواقع المختلفة كالفنادق والمقاهي والبيوت والشوارع التي لا تعطي الفرصة للمارة لتجاوز “الخلية” أو مدينة الإقامة. إنها المدينة الضيقة التي يمكن لسكانها سماع كل الأحداث ومعرفة كل القصص التي جرت، وليس هناك قصد لمدينة “مدريد” فقط، بل لإسبانيا كلها بكل مدنها وسكانها.

spanish novelist and poet camilo josé cela, madrid, spain, 21st may 1991. (photo by leonardo cendamo/getty images)
المكان في رواية “خلية النحل” للكاتب الإسباني خوسيه ثيلا ظل قادرًا على تقديم قصص (غيتي)

تتألف رواية “خلية النحل” التي نشرت في إسبانيا خلال القرن العشرين، والتي تعد واحدة من أفضل مائة رواية، من ستة أجزاء، وتنتهي بختام مستقل، حيث لا تتساوى أطوال الأقسام التي تتوزع عليها من حيث عدد الكلمات. وبفضل هذه الرواية، حصل خوسيه ثيلا على مكانة مرموقة في الأدب الإسباني، ليصبح واحدًا من أبرز كتاب القرن العشرين بعد ميغيل دي سيرفانتس، مؤلف “دون كيشوت”.

سجل توثيقي

تعد رواية “خلية النحل” سجل توثيقي لإحدى المراحل الحرجة التي شهدتها تاريخ إسبانيا خلال فترة تميزت بأن الأدب الإسباني كان ينتج عنها، وتميزت هذه الرواية بتمثيل إسبانيا بشكل خاص، حيث أظهرت العمالقة في الأدب الروائي المعاصر. فهي ببساطة رواية تروي أحداث مدريد في عام 1942، في عهد “فرانكو”، بعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب الأهلية، حيث تتناول بشكل سردي “الفائزين” و “الخاسرون” كضحايا يشتركون في مشاعر اليأس.

أحداث “خلية النحل” تجري في أيام قليلة في مدريد عام 1943، بعد انتهاء الحرب، التي فتحت الباب أمام نظام فرانكو لممارسة القمع والاستبداد على المجتمع.

تتبع هذه الرواية تقنية سردية غير تقليدية في الأدب الإسباني في تلك الفترة، حيث يبدو النص كمجموعة من الشرائح المتفرقة، يتم تنظيمها بشكل جيد، وتتخللها مقاطع حوارية تظهر من صخب الحياة اليومية بشكل طبيعي، دون خطة واضحة. وبالتالي، يكون دور الكاتب هو جمع هذه المقاطع العفوية معًا.

يمكن القول إن “خلية النحل” هي تجميع لعدة حكايات متفرقة، تنقسم على فصول الرواية، لتعكس دورة الأحداث الزمنية، وتعكس تلك الحكايات المتباينة، وعندما يقرأ الشخص يدرك سريعًا أنها عبارة عن لقطات منفصلة، تتجاور في النهاية كلها لتشكل جملة متكاملة، تضفي عمقًا وتعمقًا على الشخصيات والأماكن،وتباينات للألوان والإنارة التي تحيط بها.

هذه الاسلوب الذي نُسج من قبل خوسيه ثيلا في رواية “خلية النحل” هو ما أدى إلى تواجد كثير من الشخصيات في تلك الرواية، حيث يكتشف القارئ بسهولة أنه لا توجد ترابط بينها، فالشخصيّات تتجاوز الثلاثمئة، وتتوزع في الوقت ذاته على جميع الطبقات، من الرجل الغني الذي يبحث فقط عن لحظات استمتاعٍ عابرة، إلى الشخص الفقير المشرد الذي لا مأوى له، وحتى في الحوارات المكثفة في الرواية، يظهر خوسيه ثيلا بأسلوب لا يكشف لنا عن تفاصيل زائفة عن خلفيّة تلك الشخصيات التي كانت تتحدث.

سرد مدهش متقلب المزاج

وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الرواية تظل عملًا سرديًّا مذهلًا، سجل خوسيه ثيلا فيه إنجازه البارز من خلال الاستعانة بالقدرة التي أتاحت له التحرر من القيود اللغوية الإنشائية، والابتعاد عن الأسلوب التقليدي في السرد القصصي، وهو ما استثمره بفعالية من خلال تبني أسلوب ضمير الراوي في السرد، الذي يعرف بتفكيره وأحلامه ومشاعره، والذي يملك معرفة شاملة بتاريخ تلك الشخصيات ومستقبلها أيضًا، وهو ما يتضح بوضوح في دقة المعلومات التي يصحبها الراوي مع كل شخصية.

هذا ما جعل رواية “خلية النحل” تتميز بتقنية فريدة كانت الأعمق والأقدر على الحفاظ على تسلسل بنية الرواية، بالإضافة إلى تجسيداته التي اهتمت بديكور الأماكن، والتي ساهمت في توسيع نطاقها وإثراءها بالحياة. فقد قدم ثيلا شخوصه على أنها مجرد “انطباعات” أو آراء عن الحياة، وقام بعرضها بأسلوب إخباري مباشر، بنفس الأسلوب الذي يستخدمه مصور الكاميرا في الوثائقيات.

كان الكاتب الروائي يجلس في مقهى “دونيا روزا” بينما يواصل نقل ما يحدث للمستمع، الحركة التي يقوم بها مالك المقهى بين الزبائن، وانتقالاتها المستمرة من طاولة إلى أخرى، يشير إلى أنه على كل طاولة زبون يجلس، ومن كل طاولة تنبثق حكاية عن تلك الزبائن الذين نجوا من أحكام الحرب الأهلية الإسبانية، ولكن كانت قبضة حكم فرانكو الحديدية تتربص بهم.

الراوي الأدبي

وما يثير الاستغراب حقًا هو أن كاميلو خوسيه ثيلا، كاتب رواية “خلية النحل”، كان يعمل في الرقابة على وسائل الإعلام بدوره، وكان أيضًا زميلًا لأندرس لوكاس، الراقب الذي كتب تقريرًا خاصًا عن ثيلا كان هو السبب وراء عدم الموافقة على نشر روايته “خلية النحل” في إسبانيا. فكان ثيلا من أنصار الانقلاب الفرنكو، وعلى الرغم من أعلانه عدم لياقته بسبب مرضه بالسل، فإنه انضم إلى الجيش الوطني الفرانكو-اسباني.

وقد تم تعيينه لمراقبة المطبوعات الأدبية والصحفية أثناء سنوات الحرب، وظل بعد انتهائها زميلًا لممثلي هذه الجهة الرقابية، لكن حين قدم روايته “خلية النحل” للحصول على موافقة النشر، تم رفضها بسبب “الهجوم على العقيدة والأخلاق”، الأمر الذي دفعه لنشرها في الأرجنتين بين عامي 1945 و1946، لكنها عادت لتنشر في إسبانيا عام 1951.

عالم السرد

وبالإضافة إلى ذلك، تم نشر وثيقة قديمة تؤكد التعامل مع جهاز القمع الفاشي من قبل بعض أنصار فرانكو وثيلا، مما أدى إلى تهمته بخيانة مبادئه، وأثرت هذه الحادثة سلبًا على حياته لفترة طويلة، وأكد البعض أنه عندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية في عام 1936، كان كاميلو خوسيه في سن العشرين وكان في مرضه، وكانت مواقفه السياسية محافظة، ومع ذلك هرب إلى منطقة التمرد ثم تطوّع كجندي، لكن تعرض للجرح ونُقل إلى المستشفى، وقاتل فعلًا إلى جانب فرانكو خلال الحرب الأهلية الإسبانية، لكن في وقت لاحق أصبح واحدًا من منتقديه.

وعندما صدرت روايته الأولى “عائلة باسكوال دوارتي” كان في السادسة والعشرين من عمره. هذه الرواية التي أصبحت مرجعًا لفن روائي جديد، بل لتيار أدبي سُمي في إسبانيا ما بعد الحرب الأهلية، والذي تميز بجوانب مأساوية ومرعبةتبع الاتجاه الواقعي الذي ساد في فترة ما قبل الحرب.

وبسبب تنوع كتاباته، يصعب تصنيف عالم الكتابة لثيلا وتصنيفها بناءً على معالمها وأدواتها وتقنياتها. يتراوح عالمه الروائي بين المأساة والسخرية والحكاية والخرافة والمسرح والتظاهر، مع مزيج بين الواقعية والخيال وبين الالتزام والانتقاد وبين الوصف والتعبير.

من بين رواياته الأخرى “طاحونة الهواء” و”سان كاميلو” و”مغامرات لاثاريو دي تورمِس وعثراته الجديدة” و”رحلة إلى القرية” و”السيدة كالدوِل تتحدّث مع ابنها” و”الشقراء” و”مقهى الفنانين”، بالإضافة إلى عدد من كتب الرحلات وقصص قصيرة ومسرحيات ومقالات صحفية.

في عام 1957، استقر في جزيرة مايوركا وأسس مجلة أدبية، وتميزت مؤلفاته بالتجديد اللغوي واعتمد على تشويه الواقع من خلال شخصيات متطرفة وعنيفة، ربطها بالبيئة العائلية والاجتماعية.

الحرب الأهلية

كانت الحرب الأهلية الإسبانية تشكّل همًّا يرافق حياة ثيل، حيث لم يكن يستطيع تجاهلها. تجسد روايته “سان كاميلو 1936” عام 1969، عودته إلى جوانب تلك الحرب المعقدة. من خلال روايته، قاد ثيلا تبديد الأيديولوجيات التي كانت تتصارع خلال الحرب، التي أودت بحياة “مليون شخص”، عندما اندلعت في 18 يوليو 1936 في عيد القديس كاميلو، حيث كان ثيلا في عمر العشرين.

يرى الناقد الفرنسي كلود كوفون أن ثيلا نجح في بناء عوالمه الروائية من خلال استعراض أفكاره وهواجسه بشكل حاد مع السخرية السوداء، وقد تمكن من إنشاء عوالم روائية تتسم بقسوتها وسحر صانعها، ومن خلال ذلك، كشف عن أوهام التاريخ والأسطورة والقيود التي تعيق البلاد.

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.