الفيلسوف الإيطالي أندريا زوك: تحديات غزة تكشف عن ضعف الأخلاق وأهمية الإسلام كحصن ضد العنصرية الثقافية
<
div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>أندريا زوك (1967)، واحد من بين أبرز علماء الفلاسفة الإيطاليين في العصر الحالي. قضى سنوات في إيطاليا، النمسا، اليونان، وبريطانيا، ويعمل الآن كأستاذ في فلسفة الأخلاق في جامعة ميلانو. له العديد من الكتب منها “الواجب واللذة – نقد لفلسفة الأخلاق الحديثة” (2021)، “الهوية والإحساس بالوجود” (2018)، “روح المال وتحولات العالم” (2006)، و “نقد العقل الليبرالي – فلسفة التاريخ المعاصر” (2022) الذي تم ترجمته حديثًا إلى الإنجليزية بواسطة (Mimesis international, 2023).
تم التقاءنا مع زوك بعد فترة طويلة من الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، حيث قفز إلى الجانب المعارض لحرب إسرائيل على غزة منذ بدايتها، وذلك من أجل مناقشة آراءه في كتابه الأخير على ضوء الوضع الفلسطيني وتأثيرات الفكر الليبرالي على واقع غزة اليوم:
-
أشرتم إلى أن الصراع في غزة يكشف عن تدهور الأخلاق في الغرب. هل يمكنكم توضيح أسباب هذا الانحدار الأخلاقي؟ وكيف وصل العالم إلى هذه النقطة؟
إن هذا الصراع هو تحديدٌ للمعاناة التي تعيشها الشعوب في كل مكان.
وتدهور الأخلاق في الغرب لم يأتِ من فراغ.العامة، وذلك لمرونتها التنوع الثقافي، إلا أن تصاعد النزاعات السياسية قد أضاعت فترة الازدهار التي كانت تعيشها سابقا وبدأت تخلق انقساما بين البلاد وتحديات اجتماعية داخلية. تعد هذه الحقيقة بمثابة تحذير لجميع الدول من أن الاستقرار السياسي هو الأساس للنجاح الاقتصادي والاجتماعي. لذا، يجب على الحكومات العمل على بناء بيئة سياسية مستقرة لضمان استمرارية التنمية والازدهار.
وفي هذا السياق، يجب على الحكومات العربية العمل على تعزيز التعاون الإقليمي والدولي من خلال تبادل الخبرات والمعرفة ودعم الاستثمار المشترك. كما ينبغي أيضا تحفيز الابتكار وتعزيز التعليم والبحث العلمي لبناء مجتمعات قوية ومستدامة. على الصعيدين المحلي والإقليمي، يجب على الأفراد والمؤسسات العمل معا لتعزيز الاندماج والاحترام المتبادل والتعايش السلمي بين مختلف الثقافات والأديان.
إن الاستقرار السياسي والاقتصادي يعتبران ركيزتين أساسيتين لتحقيق التنمية المستدامة، وهما يتطلبان جهودا مشتركة من جميع الأطراف المعنية. من الضروري أن تكون السياسات والاستراتيجيات المعتمدة شاملة ومتكاملة لضمان تحقيق أهداف التنمية بشكل شامل وفعال.
-
هل تعتقدين أن هناك حاجة ملحة لإعادة تقييم السياسات والاستراتيجيات الحالية في المنطقة لتحقيق التنمية المستدامة؟ وما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لتحقيق ذلك؟
وفي سياق آخر، هناك تيار آخر يساري على الرغم من تفاعله الذي قد يبدو طيبًا مع المسلمين، إلا أنه لا يظهر أي فهم لجوهر الدين… على أي أساس يُمكن أن يجرى هذا الحوار برأيك؟
المشكلات في الغرب موجودة بالفعل على اليمين واليسار. على اليمين قد تبدو المشكلات أكثر وضوحًا، لأن أي حديث عن الإسلام يثير ردود أفعال قومية، بينما يُقترب الإسلام على اليسار ضمن سياق الأقليات التي تحتاج إلى حماية: يعتبر الشخص اليساري دائمًا أن الآخر “هش” وبحاجة للعناية، إذ يقوم ببناء صورة في عقله تُظهر الضعف والهشاشة في هذا الآخر، فينطلق دائمًا بإرشاده نحو الطريق الصحيح! ولكن ماذا لو كان هذا الآخر قويًا ومتينًا ويرتكز على قاعدة صحيحة. نحن هنا أمام انسداد عقلي حقيقي لدى اليساريين. وهذا مرتبط بجذور ثقافية عميقة نشأت في عصر النهضة واستقرت بعد الحرب العالمية الثانية.
المتدينون دائمًا استطاعوا توفيق بين العقل والجوانب الروحانية، حتى المسيحيون منهم، ولكن اليساري الذي يتغنى بالعناية بالآخر لا يرى في الآخر ذي الخلفية الدينية سوى كائنا قاصرًا بفهم محدود وبحاجة إلى اهتمام خاص
المتدينون دائمًا استطاعوا توفيق بين العقل والجوانب الروحانية، حتى المسيحيون منهم، ولكن اليساري الذي يتغنى بالعناية بالآخر لا يرى في الآخر ذي الخلفية الدينية سوى كائنا قاصرًا بفهم محدود وبحاجة إلى اهتمام خاص. إنه يعتبر نفسه ذا مرتبة ثقافية أعلى، وبالتالي يحاول توجيه الآخر وتوجيهه واعتماده على الطريق الصحيح. يقول له بلطف: “سأقوم بشرح كل شيء لك. تعال معي لأعلمك كيف تستخدم عقلك”. وعندما يعلم الآخر بوضوح أنه مرتاح مع ذاته ولا يحتاج لتوجيهاته، يصاب هذا اليساري بالارتباك، ويصبح عاجزًا عن أي تفاعل حقيقي.
وهذا هو سبب التباس وفوضى الثقافية التي يعاني منها الغرب اليوم. إنها مأساة حقيقية لأناس يعفون العقل من البعد الروحي ويعتبرون الدين بشكل عام نوعًا من الجنون يمكن الاحتفاظ به خلال الاجتماعات الخاصة، في الغرف المعزولة: “استرح هنا عن أمورك الداخلية، لا يهم ما تفعله في الداخل، فقط تذكر أن تُغلق الأبواب والنوافذ بإحكام”، هكذا يُخاطب اليساري الآخر عمليًا لضمان عدم وجود أي انتشار جماعي للدين. هذا النموذج المفتقر إلى التناغم الحقيقي مع المجتمع، هو ما يُمثله اليسار في تعامله مع الآخر ذي الخلفية الدينية، ولا يمكن اعتباره نموذجًا بنّاءً بأي حال من الأحوال، بل هو نموذج فاشل ومدمر لنفسه وللآخر. ومع ذلك، لا يعني ذلك أن الغرب قد نبذ في العصر الحديث الفلسفات التي يمكن الاعتماد عليها والتي لا تستند إلى فكرة التعارض بين العقل والدين، وأحد أفضل الأمثلة على ذلك هو هيغل…
-
لكي لا نفقد النقطة التي يظهر فيها التوافق التام بين الفكر الليبرالي والحركات اليسارية في ما يتعلق بالاعتقاد بالتفوق الثقافي. لا يزال البعض يعتقد أن الحركات اليسارية الغربية المعاصرة تعارض الفكر الرأسمالي، بينما كشفتم في كتابك الأخير “نقد العقل الليبرالي” كيف أن اليسار اليوم يمثل تمديدًا لأساليب الرأسمالية المتطرفة وربطتَ ذلك بفلسفة فوكو تحديدًا، مؤكدًا أن اليسار في عصرنا الحالي لا يشكل تهديدًا على السلطة على الإطلاق. هل بإمكانك توضيح هذه الفكرة؟
هذا سؤال رائع يتطلب شرحا مفصلًا، ولكن سأحاول أن أكون ملخصًا قدر المستطاع. شهد اليسار تحولًا جذريًا بكل المقاييس. حتى السبعينيات، كانت الفلسفة الماركسية المصدر المباشر وغير المباشر لجميع تيارات اليسار مع كل تفرعاتها، سواء كانت علمانية بسيطة مثل سارتر أو توافقية مع الديانة المسيحية مثل بلوك. ولكن بعد عام 1968، الذي يعتبر تاريخيًا هزيمة كبيرة لليسار أو ثورة أفشلت، انسحبت المكونات الماركسية بكل أشكالها تمامًا من ساحات المطالب الاجتماعية المعادية للرأسمالية، مما فتح المجال لمكون صغيربالفعل، يُعد هذا المفكر غاية في الانفتاح، إذ ينتمي إلى التوجه الماركسي على الرغم من التركيز الكامل الذي يضعه على قضايا الحقوق والحريات الفردية. ولقد تحوّلت هذه الأفكار إلى مركز اهتمام فلسفي خاص، ضمن ما يشتهر بالفلسفة ما بعد الحداثة التي ازدهرت، بشكل خاص، في البلاد الفرنسية.
الجانب المُثير للاهتمام يكمن في رؤيتهم ذوي مواقف مُعادية للرأسمالية، إذ يُظهرون نضالهم ضد البرجوازية، برغم عدم مناقشتهم لأية مسائل اقتصادية. بل يتبنون ما يعتبرونه “ثورة” من أجل تحصيل الحقوق المدنية، كاعتبارها لذلك أقليات. وبصورةٍ مُضحكة (وحقيقةً لا يوجد شيء مضحك هنا)، لم يُدركوا أن نهجهم يتقاطع تمامًا مع الفكر الليبرالي، مما جعلهم ضمن طيات الفضاءات الليبرالية الشاسعة، خاصة في ميدان النشر، حيث حظوا بتمكين كبير للتعبير عن أفكارهم، نتيجة للتناغم الكامل بين الطرفين في “تسويق الذات”، الذي يُعد محور الفكر الليبرالي: تفرد الفرد هو القلب… ليس هناك مرجعية أُخرى في هذا العالم، سوى أفكارك أنت… أنت وحدك الثورة. وهكذا، تتحول الإرادة الحُرة للفرد إلى إرادة رجل وامرأة في السوق؛ الأحرار في التسوق والتعبير عن تفردهم، كلٌ على طريقته. هذه هي الحرية والتحرر.
من الناحية الفردية، وعلى الصُعيد الاجتماعي، لم يعُد بإمكان هؤلاء أن يتنفسوا حرفًا واحدًا اليوم. فأنت حر في التعبير عن نفسك فقط وفردانِيتك، لكن إذا فكرت في التحرك سياسيًا لتغيير أوزان القوى الاقتصادية مثلًا، ستُلقى بك كعدو في طريق النظام، وستُعزل. وهكذا تمّ بالفعل تُروّض اليساريين وتُحوّلهم إلى أدوات للمنظومة الليبرالية.
هل تعتقد أن الرئيس الليبرالي يتمتع بالقدرة على ضبط كل جوانب الحياة وعلى تسويقها؟ إنه الذي حوّل الفكر الغربي إلى بضاعة قابلة للتكيف بحسب الثقافة المحلية والتي تُباع بها، وهكذا نرى ظُهور فكر نسوي مثل نسوية إسلامية، ونسوية علمانية، ونسوية نباتية، ونسوية متبلة، وفقا لاختيارات الزبائن، أم أن الأمر يعود إلى طبيعة فلسفات ما بعد الحداثة ومطاطيتها المُدهشة التي تُمَكنها من قول كل شيء وعكسه؟
بالتأكيد، يتم تمامًا ذلك… ولكن يا للهول، لا أريد أن أتحول إلى عنصري ثقافي تجاه زملائي الفرنسيين (يضحك بلا فكر). يُرجى ملاحظة أن الأمر يُعود خصوصًا إلى الطبيعة الفلسفية لما بعد الحداثة ذاتها، التي تبدي إمكانية تكيفها مع كل زاوية تُقرأ فيها. إلا أن معظم الفلاسفة الفرنسيين، حتى الأكثر تمكّنًا منهم، ينجذبون إلى قوة اللغة، إذ يتبعون إيقاع الكلمات، ويدرسون صداها وشكلها والصور التي تحملها، يسحرون بها أنفسهم ويُسحر الآخرون معهم، لدرجة تصبح فيها الكلمات قادرة على التكيف مع كل قراءة، ببساطة نظرًا لعدم وجود أي مغزى محدد لديها.
يترك الناتج الفكري لما بعد الحداثة القارئ منبهرًا بتأويلاته الساحرة، لكن حينما ينتهي من بحثه فعليًا، لن يجد مطلقًا أي شيء.
والحقيقة هي أن الناتج الفكري لما بعد الحداثة يترك القارئ منبهرًا بتأويلاته الساحرة، لكن حينما ينتهي من بحثه فعليًا، لن يجد مطلقًا أي شيء. وهنا نُذكر بمقولة الأب البراغماتية، تشارلز برس: “لفهم جُملة ما، اسأل نفسك ما النتيجة التي وصلت إليها بعد قراءتها: إذا لم تصل إلى نتيجة، فهذا يعني إما أن لم تفهم الجُملة، أو أن الجُملة لا تعني شيئًا”. السبب في ذلك يعود إلى ضعف وهشاشة منظومة المفاهيم في فلسفات ما بعد الحداثة، مما يُمكنها في النهاية من التلوين بشكلٍ كبير.
دعنا لا نبتعد كثيرًا عن هذا المفهوم، فبعد أشهر من العدوان على غزة، قدم المفكر الجزائري أحمد دلباني كتابًا يُحمل عنوان “خطيئة الدفاع عن قايين”، حيث رد فيه على بعض الفلاسفة الغربيين الذين حاولوا تبرير جرائم إسرائيل في غزة على غرار هابرماس. وقد تزامن ظهور الكتاب مع موجة انتفاضة من بعض المفكرين العرب على فلسفة الحداثة وما تبعها بعد هذا العدوان الإسرائيلي. ما رأيك في تأخر العالم العربي في الاستيقاظ من هذا السُبات، ليكتشف أن هذه الفلسفات تُعارضه، وأنها ليست قادرة على تقديم دفاع قوي؟
متفقون على أن فلسفات ما بعد الحداثة قادرة على سحر الآخر بأجهزتها التعبيرية المُضللة، لكن في حالة هابرماس ككلاسيكي الفلسفة الليبرالية، لا ينبغي أن يُفزع موقفه من الحرب على غزة أحدًا. إنه فيلسوف ليبرالي كلاسيكي وهو ألماني يتبنى أفكاراً ثابتة مع بعضها. إنه من عصر التنوير الذي يُؤمن بتفوق الحضارة الغربية وسيطرتها، ومن الطبيعي تمامًا أن يُعتبر إسرائيل حائطًا لصد الهجمات.تتسم هذه الحضارة بالديمقراطية. أي هجوم على هذه الحضارة يُعد هجوماً على الديمقراطية. من الناحية الثقافية، يُمكن الرد بسهولة على هابرماس ونفي ادعاءاته، ولكن التحدي هنا يكمن في أنه يُعَدُّ رمزًا حيًا للالتحاق بالسلطة الهيمنة.
تؤكد الحكمة الماركسية على أن الأفكار لا تنشأ بشكل مستقل. كل فكرة تتطلب بنية تدعمها أو تدمرها. هذا ما تُقوم به السلطة تجاه العديد من الفلاسفة، حيث يكون المثقفون مجرد منفذين لتعزيز سلطة معينة.
النماذج الفكرية تُدعم من قِبل السلطة. كما أن الأفكار لا تنشأ بشكل مستقل، وهذا ما تجسده الحكمة الماركسية. يتطلب كل فكر بنية تدعمه أو تدمره، وهذا ما تفعله السلطة تجاه العديد من الفلاسفة. ببساطة، يُعنى تكوين بعض المثقفين بتزييف سمعة السلطة. ومع ذلك، لا تمثل هذه الطريقة الفكرية جميع تيارات الفلسفة الغربية حاليًا. فقد شهدنا محاولات جديدة لفيلسوف مثل هربرت ماركوزه، الذي سبق هابرماس وكان جزءًا من مدرسة فرانكفورت، في انتقاد السلطة. كان ماركوزه صادقًا ذلك، مع أدوات تحليلية متميزة. لكن ما نشهده حاليًا في الفلسفة ما بعد الحداثة هو الاعتماد الكبير على الخداع وانتقادات زائفة للسلطة.
-
صرَّح إيلان بابيه مؤخرًا، في تعليق عن إستراتيجية التفاوض التي تتّبعها أميركا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بأنها “قد جلبت عالم الأعمال إلى المسار الدبلوماسي”. يبدأ التفاوض دائمًا من حالة الحاضر ويتجاهل التاريخ. “بالنسبة للأميركيين، التاريخ غير مهم”. هذا ما صرَّح به بابيه. وبالتالي، يُنكر حق العودة وجميع المسائل التي تنتمي إلى الماضي. في كتابك، تحدثت بتفصيل عن عداء العقل الليبرالي التقدمي للتاريخ والتراث. ما السبب وراء ذلك؟
العداء للماضي يعد عنصراً أساسياً في العقل الليبرالي. يمكن القول إن ولادة التيار الليبرالي كانت عندما تحول النفوذ الاقتصادي إلى سلطة سياسية. والنفوذ الاقتصادي، كما هو معروف، يقوم على المال. والمال يتميز بعدم وجود ماضٍ. يُمارس المال سلطته لأنه متاح في الحاضر ببساطة. على سبيل المثال، إذا كانت لدي حقيبة تحوي مليون يورو، فإن السلطة التي تمنحني هذا المال تعتمد على حيازتي له في تلك اللحظة، دون أن يكون طريقة اكتسابه مهمة، سواء كان ناتجًا عن النصب، أو العمل الجاد طوال حياتي، أو الفوز في اليانصيب، أو الوراثة، أو حتى من خلال أعمال غير شريفة. كل تلك العوامل لا تحمل قيمة. القيمة الوحيدة لهذا المال تكمن في القدرة الفورية على الشراء بغض النظر عن ماضيه.
وهكذا، عند إلقاء نظرة على البيانات الاقتصادية وفقًا للمنطق الديكارتي، ستجد محاورًا فقط: محور يشير إلى الحاضر وآخر يشير إلى المستقبل. يغيب الماضي. يُحاول تفسير السياسة هذا النمط لأول مرة في تاريخ البشرية. في السابق، كان النفوذ السياسي يُمنح بناءً على معايير فردية ترتبط بالتاريخ الشخصي أو العائلي للشخص: سواء لأنه ينتمي لعائلة نبيلة أو أظهر شجاعته في ميادين القتال. وبالتالي، يعتبر الماضي المؤهل الذي يمنح النفوذ. لكن النفوذ اليوم يرتبط بلحظة المال وليس بلحظة التاريخ.
أعطني قنبلة واحدة لم يفجّرها الغرب على رأس أحد في السنوات الأخيرة دون مبرر إنساني.
-
تحذَّر في كتابك من المنظمات غير الحكومية التي تحصل على تمويل غربي لأسباب كثيرة، منها غياب الشفافية بشأن أساليب عملها واعتمادها على استغلال عواطف الجماهير. ومع ذلك، أدرجت كذلك أخطر ما تحذَّر منه، وهو تحويل هذه المنظمات إلى أدوات لتفعيل فلسفة “إرادة القوة” من خلال القوى الكبرى. يوجد قلق كبير حاليا في العالم العربي من تشجيع هجرة الفلسطينيين إلى أوروبا بطرق غير قانونية عبر بناء مرسى يُثير الشكوك ويُقال إنه لأغراض “إنسانية”…
“إنسانية”! يعلق بحزن. أعطني قنبلة واحدة لم يفجَّرها الغرب على رأس أحد في السنوات الأخيرة دون مبرر إنساني…
-
من خلال متابعتك للظروف التي عاشتها إيطاليا في السنوات الأخيرة من تزايد الهجرة غير المشروعة بدعم كبير من المنظمات غير الحكومية، قام العديد من المفكرين الإيطاليين، بما في ذلك الفيلسوف دييغو فوزارو، بمقارنة ظاهرة نقل المهاجرين عبر سفن منظمات غير حكومية بعمليات الاتجار بالبشر في القرن السابع عشر، حيث كان يتم تحميل الأفارقة على السفن التجارية وتحويلهم لعبيد، والفارق الوحيد هو تغليف هذه العمليات بغلاف “إنساني”… هل توافق على هذا التحليل؟ وما هي فوائد النظم النيوليبرالية اليوم من تشجيع هجرة اللاجئين غير الشرعية؟
أساسا، تكون المنظمات غير الحكومية تتبوأ مكانتها باعتبارها مؤسسات ذات دوافع إنسانية أو ذات دوافع أخرى تتبع أجندات محددة.لا شك أن هناك جهات غير حكومية تعمل بأهداف نبيلة تحت قيادة أشخاص محترمين، ومع ذلك، يتعين علينا فقط معرفة كيفية تمويلها وأجندتها. تتكمن معضلة هذه الجهات في كونها هيئات غامضة يمكن أن يتغلل إليها ممولون غير معروفين. وعند تتبعهم، ندرك ببساطة أننا أمام هيئات غير حكومية فقط في الاسم، بينما تكون ممولة من قبل حكومات أو جهات ذات نفوذ متصلة بالحكومات. وفيما يتعلق بموضوع الهجرة، فقد أدى الغرب إلى أزمة تكاثر بسبب النظام الثقافي الذي خلقه، مما يجعله بحاجة إما لتغيير هذا النسق الثقافي الخاص بالعائلة، أو ببساطة “استيراد” البشر، مما يشهد على ذلك الدول النامية أو ذات اليد العاملة الفائضة لسد الثغرات في السوق. النظام الرأسمالي يحتاج بشكل مطرد إلى زيادة معدلات الاستهلاك للحفاظ على توازنه، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق في مجتمع يعاني من ركود ديموغرافي.
تلك الحالة الديموغرافية المتعثرة نابعة من عدم تشجيع تكوين الأسر، إذ تتعرض الأسرة لضغوط الأنظمة الليبرالية بسبب أنها تمثل نظامًا غير ليبرالي وتعبر في نظرها عن بقايا غير حديثة، إذ لا تنسجم مع منطق السوق ولا تتفاعل مع حسابات الفائدة وغيرها
المشكلة تكمن في عدم تشجيع تكوين الأسر، لأنها تعتبر منظومة تاريخية قديمة وبعيدة عن مفاهيم السوق والاقتصاد. وبالتالي، تصبح الهجرة تعويضًا عن هذا الركود الديموغرافي من خلال جلب الشباب المهاجر الجاهز من الدول الأخرى لسد الفجوات في الوظائف “الرخيصة” تحديدًا. وهذا ما يحافظ على ديناميكيات السوق ويضمن استمرار انخفاض الأسعار من ناحية، ويمنح الفرصة للغرب ليلعب دور الحضارة “الإنسانية” في استقبال الآخر وإنقاذه من ويلات الحرب. ويرى أوروبا أن هذا الأمر يحقق انتصارين في وقت واحد، لكن على المدى الطويل سيكون لهذه العملية تأثيرات سلبية على ثقافة الدول الغربية وهويتها، وكذلك على ثقافة المهاجرين وهويتهم، إذ يؤدي تدمير الهوية الاجتماعية لأي مجتمع إلى ضعف سلطة القانون والالتزام بالقوانين…
-
هل سيقودنا هذا إلى المفهوم الذي تناولته في كتابك حول “الإرهاب الإسلامي” في أوروبا، الذي شددت على عدم ارتباطه بالفكر التقليدي للمجتمعات الإسلامية وإنما يُشكل نتاجًا للفلسفة الليبرالية؟
تمامًا، وهذا ينطبق أيضًا على المهاجرين الإيطاليين والأيرلنديين واليهود وغيرهم الذين أسسوا في أميركا عصابات وجماعات إجرامية على أساس القوميات لدعم بعضهم بعيدًا عن سلطة الدولة بعد فشلهم في التأقلم ضمن الإطار القانوني. وفي حالات الأشخاص الذين يُصنَفون ضمن تصنيف “الإرهاب الإسلامي”، فإنهم في الواقع جزء من الفاشلين في الغرب -مثل جماعات الإرهاب الأخرى في الغرب- وليسوا جزءًا من العالم الإسلامي.
نحن اليوم على مفترق نهاية مرحلة تاريخية بدأت قبل 3 قرون تغيّر وجه الأرض، انطلاقًا من الثورة الصناعية وصولاً إلى التطور التكنولوجي الحديث. يعاني الغرب رغم تواجده التكنولوجي من أزمة داخلية، ليست متعلقة بفقدان القوة التكنولوجية أو الاقتصادية، وإنما بأزمة روحية
-
في فصل الختام من مؤلفك، ذكرت أن النظام الليبرالي يتدهور على الرغم من توسّعه، وأشرت إلى أنه قد ينتهي عند ظهور جيل جديد ينتفض ضده. في سياق فلسطين، تجمعت منذ أسابيع جماعة “الشبيبة الفلسطينية في إيطاليا” بشكل غير مسبوق وغير متوقع لتصنيف المنظمات الإيطالية غير الحكومية المتضامنة مع فلسطين بمفهوم الاستشراق، متنكرة تحت راية الإنسانية. هل ترون أن مناورة غير متوقعة وجريئة مثل هذه بخصوص أحد أهم أذرع النيوليبرالية تمثل إحدى علامات الاحتفاض التي أشرتم إليها؟ وما هو تقييمك للاحتجاجات الطلابية بشكل عام؟ والأحداث التي تشهدها فلسطين اليوم؟ هل هي بداية النهاية؟
نحن حقًا على بداية نهاية مرحلة تاريخية تابعنا
قبل مدة 3 قرون، حدث تغيير كبير على وجه الأرض. بدأت هذه التحويلة منذ بزوغ الثورة الصناعية ومضت عبر كل تطور تقني حصل في العالم. الغرب، الذي يمتلك اليوم التكنولوجيا، يعاني من أزمة داخلية هامة، ليست متعلقة بفقدانه للسيطرة التكنولوجية أو الاقتصادية، بل هي أزمة روحية.
تلك الأزمة عميقة وعنيفة ولها تأثير كبير، ومن الممكن أن تؤدي في النهاية إلى انهيار هذا النظام في وقت قريب أو بعيد. المشكلة تكمن في أن التاريخ يظهر لنا أن الإمبراطوريات التي تدخل في مثل هذه الأزمات تصبح خطرة للغاية في أواخر حياتها. الإمبراطورية الرومانية لم تظهر بوحشيتها إلّا وهي على شفا الانهيار وهذا ما يحدث في الغرب اليوم…
-
هل تعتقد أنه يُسلح لمواجهة حرب الإبادة الجارية وللدفاع بشكل عنيف عن جرائم إسرائيل؟
الغرب يتعلق بالسلطة الآن عبر هذا النظام المالي… ومن يمتلك السلطة لا يتخلى عنها بإرادته. لهذا، أخشى أننا نتجه نحو نهاية قد تستمر لعقود، وخلال هذه الفترة ستفرض القيود ويتعمق القمع والرقابة، وكل ما من شأنه أن “يسيطر على الروح”. لذا، يجب علي أن أكون واقعياً: موازنة القوى بين من يحمل السلطة ومن ينتقده في الغرب تصل إلى مستويات مقلقة، لذا لا أظن بأن التغيير سيأتي من الداخل في المستقبل القريب. الضغط الحقيقي سيأتي من الخارج، من خلال نظام عالمي متعدد القطبية: سواء من مجموعة الدول الإسلامية، أو من الصين أو روسيا، لكن بالتأكيد ليس من داخل النظام الليبرالي نفسه.
-
فهل لا ترى تنامي الحراك الطلابي في أميركا اليوم كدليل على تغيير محتمل من الداخل؟
(يرافض برأسه بأسف)، لا. ومع ذلك، لن أفقد الأمل، فكما أقول دائماً: “بإرادة الله، كل شيء ممكن”.