المؤتمرات الإنسانية.. عن التأثير الذي نحتاجه؟

Photo of author

By العربية الآن



المؤتمرات الإنسانية.. عن التأثير الذي نحتاجه؟

مؤثرون من أجل الإنسانية
جانب من ختام مؤتمر “مؤثرون من أجل الإنسانية” (مواقع التواصل)
لقي مقالي السابق “حتى لا تنحرف البوصلة.. عتاب للعاملين في المنظمات الإنسانية”، الذي يتحدث عن واقع العمل الإنساني السوري، الكثير من الاهتمام والتفاعل، وإن كان قد أثار حفيظة بعضٍ ممن اعتبروا الكلام موجهًا لهم، إلا أن جمهور المتفاعلين أشاروا إلى ضرورة طرح نقاشات شفافة حول هذه القضايا الشائكة.

واليوم أعود لأدخل حقل الألغام نفسه، وأثير المزيد من الأسئلة بهدف الوصول إلى حالة تقييم موضوعي عادل، لا ينسف الجهود الواضحة، ولا يستميت في الدفاع عنها دون ضوابط، وسأناقش فكرة مؤتمر “مؤثرون لأجل الإنسانية” من زاوية أخرى، وهو الحدث الذي أثار استقطابًا عميقًا بين مؤيد مثنٍ ومعارض رافض؛ فالجهد المقدم في هذا المجال كان لافتًا من الناحية التسويقية ومن ناحية التنظيم والإبهار، لكنْ كان في المشهد مساحة مظلمة لم تستطع إقناع كثيرين بجدوى الفكرة وصوابيتها.

تراجع تفاعل “المؤثرين” مع القضايا التي جمعت شعبية وإجماعًا واسعًا كالقضية الفلسطينية، بمجرد أن بدأ التضييق على المحتوى، وملاحقة مروجيه، فلم يكن هؤلاء “المؤثرون” مستعدين للتضحية بجمهورهم ومشاهداتهم من الإعلانات لأجل موقف سياسي

دوامة “التأثير”.. و”المؤثرون”

تركزت معظم النقاشات والانقسامات حول مفهوم التأثير والمؤثرين، والحاجة لهم في ظل حياتنا المغرقة في العولمة، ووجود أجيال جديدة سرقتها السوشيال ميديا، وأعادت صياغة أفكارها وقيمها وهويتها، وضرورة استخدام الأدوات المتاحة للوصول إليها عبر أولئك المؤثرين الشباب، أصحاب المواهب المختلفة.

لا خلاف حول هذا الطرح، وضرورة إعادة تقديم السردية السورية التي شابها الكثير من اللغط والخطأ، ومع هذا فهناك مجموعة من الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا السياق.. لماذا نحتاج إلى وكلاء غير متخصصين ليقدموا سرديتنا التي لم يتقنوها ولم يؤمنوا بها حقيقة؟ وهل يكفي مثل هذا المؤتمر لإقناع هؤلاء المؤثرين من شتى الأطياف والخلفيات بتبني موقف أخلاقي له عبء سياسي، وهم الذين كان همهم التركيز على جمهورهم بمحتوي يهدف للتسلية، والابتعاد عن القضايا الجدلية التي لم تتمكن أن تتحول إلى “ترند” وتجذب أنظار الملايين؟

لقد تراجع تفاعل “المؤثرين” مع القضايا التي جمعت شعبية وإجماعًا واسعًا كالقضية الفلسطينية، بمجرد أن بدأ التضييق على المحتوى، وملاحقة مروجيه، فلم يكن هؤلاء “المؤثرون” مستعدين للتضحية بجمهورهم ومشاهداتهم ووارداتهم من الإعلانات لأجل موقف سياسي، قد يقذف بهم خارج منصات السوشيال ميديا كلها، ولن يكون معظمهم شجاعًا بالقدر الكافي للدخول في قضايا أخرى ذات بعد أخلاقي، قد تكون لها انعكاسات سلبية عليهم، حتى لو هزوا رؤوسهم وأظهروا التأثر البالغ وتعللوا بعدم المعرفة والاطلاع، وأعلنوا مجاملةً رغبتهم في زيارة ودعم المنظمات الإنسانية.

إن المحرك الأساسي لمؤثري السوشيال ميديا هو الـ”ترند” وأعداد المشاهدات وآراء المتابعين واهتماماتهم والعائدات المالية من ورائهم، ولهذا فإن ادعاء إمكانية تحريكهم لأجل القضايا الإنسانية لفترة طويلة يحتاج إلى الكثير من الدلائل والبراهين، لأن الواقع يظهر عكس هذا، هذا مع وجود عدد من هؤلاء “المؤثرين” يروّجون لمن يدفع أكثر في الكواليس، ولربما يأتي لاحقًا من يغريهم بعروض أعلى ليسوّقوا سردية مغايرة لما نأمل أن يتبنوه.

يُنتظر من هذه المنظمات أن تحدد بوصلتُها أولويةَ مجتمعاتها لا أولوية داعميها، وأن تُظهر جهدًا حقيقيًّا ملموسًا بتنمية هذه المجتمعات والتأثير فيها بوجود داعم أو بدونه، وأن تتبنى بثبات مطالب الناس وأولوياتهم

الاستجداء العصري أداة وكلاء القضايا الإنسانية

ومن زاوية أخرى، لا يمكن تجاهل أن الهدف الأساسي من هذا المؤتمر كان جمع التبرعات والانفتاح على شرائح جديدة، وكانت الأداة لتحقيق هذا الهدف حدثًا إعلاميًّا ضخمًا، براقًا جاذبًا، يجمع أسماء لامعة بعضها لا يستجيب ما لم يكن هناك حافز مالي مغرٍ، مع مسرح كبير وإضاءة احترافية، تنتصب في خلفيته شاشة جمع التبرعات، وتشير إلى التفاعل الجماهيري مع الطرح الإنساني الذي تناقش فيه الحضور، ومن الصعب على العديد من المتابعين تصديق أن هذا التفاعل الآني يمكن أن يحصل من تلقاء ذاته، إذ المتعارف عليه في مثل هذه الفعاليات وجود تبرعات متفق عليها سلفًا، تقدم في مثل هذه المحافل حتى لا يترك الأمر للصدفة.

ولكن السؤال الأهم هنا: لماذا تركز منظماتنا الإنسانية السورية على موضوع جمع التبرعات، حتى نكاد لا نلاحظ لها نشاطًا علنيًّا واسعًا سواها؟ لماذا لم تبذل هذه المنظمات ربع الجهد المعلن في جمع التبرعات في سبيل تعميق الشرعية الشعبية لها وزيادة تأثيرها في المجتمع؟ ولا أتحدث هنا عن الفعاليات والمشاريع الدورية والأنشطة التي تستهدف المستضعفين، وإنما أناقش مسؤوليتها المجتمعية في إعادة بناء البنية التحتية للمجتمعات التي دمرتها الصراعات.

وليس المقصود هنا تعبيد الطرقات ومد قنوات الصرف الصحي، ولا إنشاء القرى السكنية، والتي تعدت بعض المنظمات عليها وهي خارج دائرة اختصاصها، وإنما المقصود إعادة بناء المجتمعات، ومعالجة آثار الصراع، وتحقيق تمكين حقيقي للمجتمع وشراكة فعلية معه، خارج إطار التقارير الاستعراضية التي تقدَّم للداعمين حول الأثر المحقَّق، الذي يصعب تمييزه على الأرض.

لقد تواردت تعليقات عديدة، تشير إلى أن هذه الأنشطة ما هي إلا “نوع مودرن من الشحاذة والتسول” لمساعدة المحتاجين، واستنكر بعضهم الصورة الذهنية التي ترسخها، والتي اختصرت كل القضية السورية بالحاجة إلى المال والدعم، ولو بشكل غير مقصود.

فيما تتصدر قضايا ذات أولوية الاهتمام العام، كدعم ملف التعليم وتحسين مخرجاته، وضمان عدم تسرب المعلمين أو الطلاب، ومواجهة المخدرات والعنف، وتمكين ذوي الاحتياجات الخاصة، وتنظيم التوسع العمراني، وإنشاء حالة من الرقابة الشعبية التي تضبط العمل المجتمعي، والأهم من ذلك كيفية ضمان استقرار هذه الحشود، وإعادة تعزيز القيم الصحيحة عندها.

هذه القضايا تحتاج شراكات مجتمعية، ونقاشات عميقة تكون المنظمات طرفًا فعالًا فيها، يسمع فيها الجميع من الجميع، ويشارك فيها مختلف الأطياف، تسعى فيها هذه المنظمات لتعزيز شرعيتها من خلال بناء علاقة حقيقية مع المجتمع، لا السخرية من أطروحاته وانتقاداته، وإيصال صوته لصانع القرار والمحاربة من أجل حقوقه.

يُنتظر من هذه المنظمات أن تحدد بوصلتُها أولويةَ مجتمعاتها لا أولوية داعميها، وأن تُظهر جهدًا حقيقيًّا ملموسًا بتنمية هذه المجتمعات والتأثير فيها بوجود داعم أو بدونه، وأن تتبنى بثبات مطالب الناس وأولوياتهم، لا أن تدور حولها وتُقنع أنفسها ومحيطها بأن جلّ المطلوب تقديم سلة هنا ودعم حالة هنا، وبناء خيمة أو منزل هناك.. إن أولوية هؤلاء المستضعفين حل مشكلاتهم لا استدامتها، والمطلوب منك أيتها المنظمات المبدعة إخماد مسببات الحريق لا شراء عبوات الإطفاء.

لقد اتجهتم إلى “المؤثرين” الذين لا يملكون سوى التعاطي مع تبعات المشكلة بشكل مؤقت وآنيّ، وتجاهلتم مفاتيح التأثير الحقيقية وأنتم قادرون عليها إن استطعتم الخروج من منطق العمل الاستجدائي، وتحرّرتم من السعي وراء التبرعات، لممارسة أدوار تنموية حقيقية، منبعها احتياج المجتمع وتمكينه بشكل فعّال وبشراكة محققة، تعطي أثرًا واضحًا يمكن قياسه وتلمسه بشكل واضح.

أيها القائمون على المنظمات الإنسانية الرائدة والمبدعة، لا تتبرموا من النقد ولا تسخروا من أصحابه حتى لو كانوا غاضبين، فالدعم الذي ترجونه سيذهب إلى زوال، وإن ضمانكم الوحيد للاستمرارية والبقاء هو في قدرتكم على إحداث تأثير حقيقي يشعر به المجتمع

قالوا في الأمثال “الشاطرة تغزل ولو على العود”

قبل أن يقاطعني أحدكم قائلًا: “إن هذا هو ما نستطيعه” و”هذه هي دائرة نفوذنا” و”نحن جهات إنسانية تتبنى مواقف محايدة ولسنا قادرين على التأثير في السياسات أكثر مما نقوم به”، اسمحوا لي أن أستحضر معكم تجربة لاجئ سوري في ألمانيا، استطاع منفردًا – كما يدعي- وبإمكانات بسيطة أن يروّج للسردية التي يؤمن بها، ويستهدف بقناته الناطقة بالإنجليزية على اليوتيوب شريحة واسعة من الجمهور المؤثر والسياسيين والإعلاميين، وتمكن منفردًا – مع الأسف – من التشكيك في رواياتكم، ومن اكتساب جمهور عريض.

يتباهى هذا المؤثر بوصول متابعيه إلى 13 مليون متابع من الجمهور الأجنبي، ومن الدول المؤثرة في صناعة القرار، وقد أنتج ما يزيد عن 860 فيديو ناطق باللغة الإنجليزية، تتراوح مدة كل منها بين 10-30 دقيقة، وفاقت عدد مشاهدات قناته 9 ملايين مشاهدة، في زيادة واضحة كل سنة.

لقد استطاع هذا الفرد – ومَن وراءه – إنشاء عمل تراكمي مستدامٍ ومؤثرٍ وإستراتيجي في المكان الصحيح، ومع الجمهور الصحيح، لأنه يدرك أن من يفرض روايته ويقنع بها الجمهور يكسب، بينما صرفتم جهدكم وطاقاتكم وإبداعاتكم في أعمال آنية ومع جمهور متبدل، غير مؤثر إلا من خلال تبرعات صغيرة، لا أقلل من أهميتها، ولكنها تعالج آثار المشكلة ونتائجها لا جذورها.

أيها القائمون على المنظمات الإنسانية الرائدة والمبدعة، لا تتبرموا من النقد ولا تسخروا منه، ولا تستخفوا بكلام الناس حتى لو كانوا غاضبين، فالدعم الذي ترجونه سيذهب إلى زوال، وإن ضمانكم الوحيد للاستمرارية والبقاء هو في قدرتكم على إحداث تأثير حقيقي يشعر به المجتمع، والقرب من أهلكم والعمل معهم لا من أجلهم، وتحقيق الشراكة الحقيقية معهم لا الوصاية عليهم، فاستمرار نهجكم الحالي، القائم على التركيز على الدعم واستهداف الداعمين، يصب في مصلحتكم واستمراريتكم قبل أن يصب في مصلحة الناس الذين تعملون لأجلهم، وهو لا يتعدى سياسة إطفاء الحرائق التي كنتم تنتقدونها.

لقد نجحتم فعلًا في هذا المؤتمر، واستطعتم أن تعيدوا تسليط الضوء على واقع السوريين، وأن تبرزوا إمكاناتهم وقدرتهم على الإبداع والتنظيم، ولكنكم وضعتم أنفسكم أمام تحديَين صعبين: الأول أن تثبتوا صحة ادعاءاتكم حول حقيقة هذا التأثير واستدامته مع الشريحة التي اخترتموها، وتبرروا صحة تأثير هذا الحجم من الإنفاق بإظهار تغيير مستدام في مسار التبرعات الصغيرة من جمهور جديد.

والثاني أن تعيدوا إنتاج هذا النجاح باستهدافكم للجمهور المؤثر الحقيقي، تتجهون فيه إلى المؤثرين الحقيقيين في مراكز صناعة القرار من سياسيين ورؤساء أحزاب وصحفيين أجانب، تقنعونهم فيها بجدوى حل جذور المشكلة لا إطفاء حرائقها فقط، فمن استطاع أن يجمع الشامي والمغربي، والأبيض والأسمر، لن يعجز أن يجمع السياسي والصحفي وصاحب الرأي الأجنبي، ويعيد تصحيح المفاهيم لديه وضبط المواقف.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.