الوطن السجن!
12/1/2025
لا شكّ أن العقل والعاطفة والأخلاق ترفض قبول ما حدث في سجون نظام الأسد المخلوع. نشعر أن السجناء المحررين هم أشخاص لا يشبهوننا، رغم أنهم ليسوا من كوكب آخر. حالتهم وذهولهم تكفي لمعرفة أنهم عاشوا في عالم آخر مليء بالبؤس والعذاب. وهناك من خرجوا وقد فقدوا عقولهم، وقد جُرد هؤلاء من كرامتهم وإنسانيتهم.
أجد أن هناك ظاهرة مؤلمة تخص بعض الأشخاص الذين يربّون الحيوانات المفترسة، حيث يعتنون بها ويقدمون لها الطعام الجيد، من أجل الحصول على صور أو مقاطع فيديو تظهر لحظات من المداعبة، بينما في الوقت ذاته يعذبون أبناء جلدتهم.
كيف يمكن للإنسان أن يحمل في داخله هذا التناقض؟ الإنسان بحكم فطرته يميل لحب عائلته وأصدقائه، لكنّه في ذات الوقت قد يصبح سجانًا يضر بأقرانه.
حتى من نجح في الهروب من الوطن لم يتحرر من سجن الوطن، بل حمل أعباءه معه. فإما وافته المنية غريقًا أو برصاص الحدود، أو تحمل الرقم الثقيل عنوة لكن بمبدأ ساذج.
سوريا سجن كبير
الحقيقة التي يتجاهلها كثيرون هي أن سوريا أصبحت سجنًا كبيرًا، حيث يعاني الشعب بأكمله فيه. تشبه ظروفه سجن صيدنايا في بعض الجوانب، لكن تختلف في حجم المساحة وظروف المعيشة. التمييز بينهم يكمن في قسوة الحياة وانعدام الكرامة.
عشنا عقودًا لا نعرف كيف نعيش بكرامة. كانت كرامتنا في أفكارنا فقط، نتمنى رؤيتها في مجتمعات أخرى، فنستغرب ونتمنى لو كنا مثلهم، لكن من لم يشعر بقيمة الكرامة لا يمكنه فهمها.
سجن المنفى
حتى من استطاع مغادرة الوطن، لم يخلو من آثار سجنه. كثير منهم ماتوا أثناء محاولة الهروب، أو تجلى عليهم المنفى كحلم غير مكتمل، متظاهرين بأنهم أحرار، بينما الوطن السجن يسكن في عقولهم. فإنهم تركوا أحبّتهم وراءهم، وآلامهم تعيش بداخلهم.
أحلامهم بالحرية والحياة الجيدة لكن ظلت مشدودة بذكريات الماضي، وأصوات أحبائهم خلف جدران الوطن. هذه الأصوات تعيق مسيرتهم نحو مستقبل أفضل.
هكذا يصبح المنفى جزءًا من هذا الوطن السجن، إذ تبقى الحياة الكريمة محرّمة على من لم ينجح بالتحرر. الألم في الوطن يظلّ موجودًا حتى في المنفى، ولا تعوض تفاصيل الحياة الجديدة شيء من كرامتهم المسلوبة.
ما لم تصدقه العيون والعقول عند سقوط نظام الأسد هو حجم الفرح الذي انتشر؛ فرح الانعتاق من الماضي الأسود، وهو لا يضاهيه سوى فرح التحرر من احتلال غاشم.
الحلم المسجون
قصة الحرية والكرامة
تسعى للتميز، تدرس وتحقق شهادة عليا، تعمل بجد لتحصل على وظيفة مرموقة، وتقيم في منزل أجمل من ذلك الذي في وطنك. تظهر على وسائل الإعلام كسياسي معارض بارع، تنتمي إلى حزب يرفع شعار الحرية، أو تتبع جماعة عسكرية تدعو لإسقاط الظلم. لكن في أعماقك، تشعر بأنك لم تعرف الحرية بعد، وكأن الكرامة منسية. فالكرامة لا تتحقق إلا في وطنك، والذي يمنحك أيضًا حرّيتك.
الذين بقوا في الوطن
أما أولئك الذين بقوا في ما يسمى الوطن، فقد حالت الظروف دون مغادرتهم. ربما لم يكن لديهم المال كما أخوتهم، أو كانوا خائفين على وطنهم من مغادرة الشرفاء، أو واجهوا ظروفًا معقدة تحيط بأفكارهم وقراراتهم. أو فقدوا كرامتهم في الداخل والخارج، مما جعلهم يفضلون البقاء، للحفاظ على ما تبقى من أسرهم وأصدقائهم، والبحث عن حلمهم الضائع. لكن، ما الذي بقي من هذا الحلم؟ فمن يسعى للجلال والكرامة لا يتطلع إلا للقليل من الخبز أو الماء أو الهواء.
الوطن سجن
سجون صيدنايا وتدمُر وفرع الأمن والمقابر الجماعية لم تضم عددًا محددًا من الأحياء والأموات، بل أصبح الوطن بأسره سجنًا يقيّد أبناءه، ويذيقهم العذاب والذل. صار الوطن بمثابة مقبرة جماعية لطموحاتهم وآمالهم المدفونة منذ زمن، حتى قبل أن تولد. فالعيش في زمن الأسد يقتضي نسيان طعم الكرامة ورائحة الحرية ولون الأحلام الجميلة.
عرس الحرية
عندما سقط نظام الأسد، لم تصدق العيون والعقول حجم الفرح، الفرح الحقيقي النابع من القلوب المتعبة؛ فرحة الانعتاق من الماضي المظلم. هذا الفرح لا يُقارن بمشاعر التحرر من احتلال غاشم. إن هذا الفرح يشير إلى ولادة جديدة تحمل معها الأمل، وتحرر النفوس من سجن عميق. ها هم الآن يخرجون نحو النور، متمسكين بشعاعه، يشدون أجسادهم ليعبروا عن صوت واحد: عاشت سوريا حرّة كريمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.