تحاول الاستفادة من فتاوى الصحابة وتنقيح مروياتهم ونقد الأشعار ومواجهة خليفتين راشدين.. السيدة عائشة أم المؤمنين والمثقفة الموسوعية
بعد بعثة النبي الكريم محمد ﷺ، يدين البشرية بفضل كبير لامرأتين ساهمتا في حفظ الرسالة النبوية بالطريقة التي تمت بها؛ حيث كانت إحداهما تعنى برعاية النبي الكريم وتهيئة الظروف التي تمكنه على توصيل رسالته، وكانت الأخرى تفخر بحفظ هذه الرسالة ونقلها لأجيال الأمة التالية، حتى وصفها الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748 هجري/1347 ميلادي) في كتابه “سير أعلام النبلاء” بأنه “لم أعرف في أمة محمد ﷺ -وحتى في نساء العالم- امرأة أعظم منها”!!
وفيما بين هاتين الشخصيتين البارزتين، تحركت عجلة الإسلام وتقدمت في مختلف مناحي الحياة؛ حيث كانت خديجة بنت خُوَيْلد (ت 3 قبل الهجرة/619 ميلادي) -رضي الله عنها- الدعم الذي يلجأ إليه النبي ﷺ وبقيت تثبّته وتسانده، ولم ينسَ جميلها على مر السنين بل كان يُحصي فضائلها عليه، مؤكداً: “آمنتْ بي عندما توبّكني الناس، وصدقتني عندما يكذبني الناس، ودعمتني بمالها عندما يمنعني الناس”؛ (رواه
أحمد في المدرسة).
بالنسبة لعائشة (ت 58هـ/679م) -رحمها الله- كانت مراقبة يوميات رسول الله ﷺ وكانت مستمعة متفردة للعلم النبوي، وبذلك أصبحت التلميذة البارعة الأولى في مدرسة النبوة، وكانت مجهزة بشكل طبيعي لسرعة الحفظ والفهم الجيد وجودة التعبير عن نفسها؛ مما جعلها مؤهلة لتحظى بحياة نشطة في المجال العلمي والعمل من أجل خدمة الدين والأمة، وقد تركت لأبناء المسلمين إرثاً ثرياً من مناهج الاستنباط من مصادر التشريع وصياغة الفتوى والتعامل الموزون مع النصوص.
تهدف هذه المقالة إلى استعراض جوانب من الإسهام العلمي للسيدة عائشة، حيث تناولت سمات شخصيتها العلمية وقدرتها على البحث في نصوص الشريعة، والأساليب الفقهية التي تميزت بها في إصدار الفتاوى، حيث خالفت كبار الصحابة وقامت بالتصحيح في عدد من القضايا الشرعية، وكيف كانت تدرك تسلسل الأدلة في قوتها واستقرارها، كما تناولت الدراسة بيان ثراءها الثقافي والأدبي، وما امتازت به من استقامة إنسانية سمحت لها بإدارة مشاعرها وعواطفها تجاه الآخرين، ومعرفة أين يجب أن تتوقف المشاعر ومتى يجب أن يهيمن العقل الناقد.
نشأة فريدة
بعد وفاة خديجة -رحمها الله- أُجبر النبي الكريم على النظر في الزواج مرة أخرى؛ حيث تركت له أطفالاً يحتاجون رعاية، فاختار ابنة زَمْعة سودة بنت (ت 54هـ/675م) -رحمها الله- وكانت امرأة ذكية في إدارة المنزل ورعاية الأبناء، وكانت في الوقت نفسه امرأة طيبة العقل “تفزعه (أي النبي ﷺ) أحيانًا بالدعابة”؛ كما يقول الإمام الذهبي في ‘سِير أعلام النبلاء’. وبقي النبي ﷺ معها لثلاث سنوات مستثمرًا في دعوته وترتيب للهجرة استعدادًا لبداية جديدة في رحلة رسالته.
عندما استقر النبي عليه السلام في المدينة؛ وجد شخصية عبقرية بجانبه ذات خصائص فريدة تمكنها من حفظ تعاليم النبوة، وكانت جاهزة تمام الاستعداد لاستيعاب العلم ونقله بعد وفاته ﷺ؛ ولم تكن هذه الشخصية سوى الفتاة الموهوبة في بيت صاحبه وصاحب الهجرة أبو بكر الصديق (ت 13هـ/635م)؛ إنها ابنته عائشة التي كان يعتبرها التابعي الشَّعبي تلميذته (ت 103هـ/722م) عندما يُدرك دقة فهمها وعمق معرفتها، ثم يقول: “ما رأيكم بأدب النبوة”؟!
كانت عائشة -رحمها الله- نشأت في بيت خالٍ من الجهل، مليء بالمحبة والرحمة والحماس نحو الدين الجديد؛ فقد تزوج أبوها أبو بكر التيمي القرشي والدتها أم رومان الكنانية (ت 6هـ/628م) التي قدمت إلى مكة من أرضها في السراة (= منطقة جنوب مكة) مع زوجها عبد الله بن الحارث، الذي تزوجها أبو بكر ثم توفى عنها؛ فعرض صديقه من قريش النبيل الزواج من هذه السيدة الغريبة التي لم يكن لها دافع في مكة، وتصرف معها بمروءة ورفق فأسلمت وتخطت بنجاح عملية إسلامها، وكانت عائشة نتاج هذه الأسرة الطيبة.
كانت “عائشة من مواليد الإسلام” كما يذكرنا الذهبي في ‘سِير أعلام النبلاء’، وقد تربت في بيت يؤمن برسالة ورفقته ﷺ منذ لحظة نزولها،
في هذا السياق قالت: “لم أر أبويّ يُخالفان في الدين أبدًا”؛ (رواه البخاري في صحيحه). وأعربت يومًا ما عن فخرها بوالديها وتفوقهما قائلة: “لم يتزوج النبي ﷺ بكرا غيري ولا امرأة أبواها مهاجران غيري”؛ (رواه الطبراني في ‘المعجم الأوسط‘). وكانت شهرة والدها أبو بكر الصديق -رحمه الله- وعمله في خدمة الإسلام شبيهة بشهرة الإسلام نفسه،، أما والدتها أم رومان الكنانية فودعها النبي ﷺ في يوم دفنها بيديه الشريفتين -سنة 6هـ/628م- مؤكدًا: “اللهم إنك تعلم أني لم ألقِ سيء عند لقاء أم رومان بك وبرسولك”؛ بحسب ما ذكره ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘الإصابة في تمييز الصحابة‘.
تكوين أدبي
أتبع والدها نظامًا تعليميًا؛ حيث لم يكن مُشغولًا بما كانت تشغل به أبناء العائلات الكبيرة في قريش مثل بني هاشم وبني أمية وبني مخزوم، فبذل جهده لتجارته وإصلاح أسرته. فاحتضن العائشة معارف عن قومها في اللغة والشعر، ومعرفة بأيام العرب، ومعرفة بأصول السلالات، وكان أبو بكر “أحد إخوة قريش لقريش”؛وفقا لقول العلامة ابن هشام الحميري (ت 218هـ/833م) في “السيرة النبوية”.
تجاوزت في جميع تلك الفنون الهدف؛ فحكت عائشة -رضي الله عنها- قائلة: “كان رسول الله يتكرر في سؤالي: يا عائشة! ماذا حققتي من قصائدك؟ فأجابت: وأيّ قصائدي تريد يا رسول الله، فكانت لديها الكثير”؛ (رواه الطبراني في “المعجم الصغير”).
وحكى ابن القيم (ت 751هـ/1350م) -في “زاد المعاد”- أن الإمام أبو الزناد المدني (ت 130هـ/749م) قال: “لم أرَ شاعرا مثل عروة (ابن الزبير المتوفى 94هـ/714م)؛ فسئلتم (= عروة): كيف وصلتم [في الشعر] يا أبا عبد الله! فأجاب: مهما وصلت في شعري لم تزل لدي شعر عائشة [وكانت عمته]؟! فكانت تردد فيه كلما شعر آخر”!!
وكفاية لإظهار مهارتها في مجالات الشعر والنقد أنها كانت حكماً للشعراء الشبان من أنصار النبي في مشاعرهم؛ إذ ذكر الشيخ المفسر والمؤرخ الطبري (ت 310هـ/922م) -في “تهذيب الآثار”- أن عروة بن الزبير (ت 74هـ/694م) ومروان بن الحكم (ت 65هـ/685م) تبادلا الأشعار في منزلها مرة، وكانت تستمع إليهما من وراء حجاب، وفي نهاية منافستهما قضت لمروان بموهبته الشعرية على ابن عمها عروة الذي خاطبته قائلة: “ليس لديك ميراث في الشعر كما لدي مروان”!!
وكان عروة بن الزبير نتاجًا من نتاجات عمته عائشة ومن تلاميذها المبدعين، ووصل من معرفته إلى درجة أن الصحابة الكبار كانوا يستشيرنه في أمور دينهم، وهو القائل: “عائشة لم تمت حتى تركتنا قبل ذلك بثلاث سنوات”؛ حسب الإمام جمال الدين المزي (ت 742هـ/1341م) في “تهذيب الكمال”. ويروي الذهبي -في السير- عن هشام بن عروة (ت 145هـ/763م) هذا قوله: “لم أر أحدًا من الناس أكثر علمًا بالقرآن ولا بالفريضة، ولا بالحلال ولا الحرام، ولا بالشعر ولا بحديث العرب ولا النسب؛ من عائشة”..
مميزات توحيدية
حازت عائشة على مهارتين طبيعيتين جعلتها وعاءً للمعرفة النبوية، والأولى هي مهارة طبيعية في سرعة الحفظ وحسن الفهم وجودة التعبير عن ذاتها؛ فلقد كانت تمتلك ذاكرة جيدة تحتفظ بكل شيء، ولذلك كانت تحفظ الحديث بسرعة كما حدث في سردها لمعركة الجمل سنة 36هـ/657م، وروايتها للأشعار التي اقتبسها بنو ضبة الذين يحمون خيمتها والموت يحوم حولها!
وكانت قدرتها على سرعة فهم الرسول ﷺ ووضوح تعبيرها مظهراً من مظاهرها؛ حيث نقل البخاري (ت 256هـ/870م) عنها: “أنَّ امرأة سألت النبي ﷺ عن غسلها من الحيض، فأوصاها بكيفية الاغتسال، فقال: خذي قطعة من مسك، فتطهري بها فسألت: كيف أتطهر؟ فقال: تطهري بها، فسألت: كيف؟ فقال: سبحان الله! تطهري، فأمسكتها إليه وقالت: تتبَّعي بها أثر الدم”. كانت تفهم رسالته وتفصلها بقدرة عالية.
وكان تلميذها الأول عروة يعجب بوصفها بالفاعلية، ويعجب بتعمقها في علوم متنوعة وخاصة الطب؛ فنقل الإمام أحمد (ت 241هـ/855م) -في “المسند”- أن عروة قال لها مرة: “يا أمي! لا يثير دهشتي [أنتي] فقط لأني أفكر: زوجة النبي ﷺ وابنة أبي بكر، ولكن دهشتي تنحصر في معرفتك بالطب كيف ومن أين؟ فضاجعت كتفها وقالت: يا عروية إن رسول الله ﷺ كان يصاب بالمرض في شبابه أو في نهاية حياته، فكانت تستقبل أعراب الجهات له فتصف له الأدوية وأنا كنت أهتم بها له، وبالتالي” تعلمت وأصبحت ملمة بالطب.
وعبارتها “بالتالي” تظهر المستوى الذي وصلت إليه في هذا المجال؛ إذ كانت تقول بأن الفارق الوحيد بيني وبين الإتقان هو تجربتها مرة واحدة. ويدعم هذا القول رواية أخرى نشرها الذهبي في “تاريخ الإسلام”: “عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لم أر أحدا أعلم بالطب من عائشة رضي الله عنها، فقلت: يا خالتي، ممن تعلمت الطب؟ فقالت: كنت استمع إلى الناس يصفون بعضهم لبعض فأحفظه”.
أما الاستعداد الثاني فكان في قدرتها على توجيه وتشكيل شخصيتها بعيدًا عن الغيرة والوحدانية والجرأة من أجل مهمتها. إذ كانت عائشة من النساء الأكثر غيرة، وهذا مفهوم بسبب كونها الابنة الوحيدة لأمها المدللة، حيث لم تشارك امرأة أخرى في أسرتها وجلست بين صبيين. وعندما أصبحتعند رسول الله ﷺ كانت هي الأولى دائمًا. فكان لديها مفهوم المنافسة الذي لم تتعامل معه منذ البداية، ولذا كانت تظهر غيرتها بقوة.
وكانت تلك الغيرة تدفعها إلى تقديم اعترافات سوداء على وجه سودة التي كانت عائشة تحترمها وتتمنى أن تصبح مثلها. لقد صرحت مرة بالقول: “لم أكن أرى امرأة أحب إليّ أن أكون نسخة منها مثل سودة بنت زمعة”؛ (حديث صحيح لمسلم). وكذلك استفزها ذلك الحسد من كُنَى صحبائها؛ فقد ذكرت في إحدى الروايات أنها قالت: “يا رسول الله، كل صحبائي لهنّ كُنى! فقال: اعتني بابنك عبد الله”؛ وهنا يقصد ابن أختها أسماء [ابنت أبي بكر: عبد الله بن الزبير، وكانت عائشة تلقب بـ”أم عبد الله“.
استغلال للمواهب
ولكن الغيرة التي كانت تشعر بها عائشة تجاه خديجة عليها السلام كانت غير قابلة للمقارنة. رغم عدم معرفتها بحياة خديجة، إلا أنها أدركت تقدير رسول الله ﷺ لها. يُلخص ذلك الحديث الذي نقلته عائشة عن رسول الله ﷺ الذي كان دائمًا يذكر خديجة بكلمات الثناء؛ حتى في يوم ما قالت: “هل كانت إلا عجوزًا أبْدَلَك اللهُ خيرًا منها؟!”، وهنا قصدت نفسها.
كانت عائشة تعلم أنها لا يمكنها الفوز بقلب النبي ﷺ ومنافستها بمشاعر الحب والاهتمام، لأنها كانت تدرك أن علاقة النبي ﷺ بخديجة كانت مليئة بالحب والإعجاب، فبدأت تسعى للحصول على المزايا التي تجعلها تستحق الإعجاب، فبدأت في التعلم واكتساب المعرفة من مصدر النبوة، حتى تجعل زوجها عليه السلام يشعر بأنها لن تتفوق على خديجة في تقديم المساعدة والرعاية للنبي ﷺ في أداء رسالته، وبذلك تكون قادرة على استمرار تنقل رسالته بعد وفاته ونقل تعاليمه للناس.
أما شجاعتها وجرأتها، فكانت تشبه البنت أباها؛ فكيف بجرأة يخافها مثل عمر الفاروق: “كنت أرى حدة أجدها في أبي بكر”. رغم علمها ليست احدى النسوة التي يمكن إسكاتها سوى عندما تظهر حدة شخصيتها. وفي الصحيحين ذُكر أن زوجات النبي ﷺ طلبن منه أن يتعامل معهن مثل مع عائشة، إذ خرجت زينب فواجهتها عائشة حتى ردت عليها بشدة وأسكتتها، وقالت: “فلما قامت بها لم أجعلها تنطق (= تستآذن) حتى ماحت عنها”، فابتسم النبي ﷺ وقال: “إنها ابنة أبي بكر”!! مُعجَبًا بفطنتها وحسن نظرها؛ كما قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم.
عائشة استطاعت استغلال تلك السمات في شخصيتها لتصبح جريئة في توصيل المعرفة، وكانت مصدرًا رئيسيًا لانتقاداتها وخلافاتها مع الصحابة في مسائل المعرفة. وعلاوة على ذلك، سمحت لنفسها برواية تفاصيل حياة النبي ﷺ معها دون خجل من التعبير عن تلك الأمور، كما روت عن تقبيل النبي ﷺ لها ومصها للسانها؛ فقد ورد في سنن أبي داود: “كان النبي ﷺ يمص لسان زوجاته عندما يقبّلهن”.
وكانت تشير إلى نفسها في هذا الحديث؛ حسبما يقول العلماء مثل ابن القيم الذي يقول في كتاب الطب النبوي: “كان رسول الله ﷺ يلهو مع أهله ويقبلهن، وروى أبو داود في كتابه: أنه كان يقبل عائشة ويمصّ لسانها”. وأيضا حديثها عن المسابقات التي كانت تجريها مع النبي ﷺ، في البداية كانت تفوز بسبب تحركاتها السريعة، وفي إحدى المرات قالت: “حتى عندما شعرت بالضعف تجاوزني”.
رويداء فضفاضة
وبما أننا ذكرنا بعض سمات شخصية عائشة،في الواقع ينبغي لنا أن نُشير إلى جوهر فَرِيد فيها وهو اتّساقها الإنساني، ونقصد به حُسن إدارتها لشَعورها ومشاعرها تجاه الآخرين، وفهمها لأين يجب أن تتوقف المشاعر وتبدأ العقول.
وهناك دليل واضح على ذلك من خلال عَلاقتها بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الذي كان يتمتع بشيء من جودها، بسبب موقفها المُشرّف منه حين استشاره النبي ﷺ في واقعة الإفك سنة 5هـ/627م فأوصى بطلاقها، وبعد ذلك لم تعد تُفضِل ذكر اسمه بصراحة. وعلى الرغم من ذلك، ففي القضايا الدينية، كانت تُحيل إليه نظرًا لمعرفتها العلمية وكمال دينه؛ كما قال شريح بن هانئ المذحجي (ت 78هـ/698م): “استفسرت من عائشة حول المسح على الخفين، فأجابت: تفضل إلى علي لأنه أعلم به مني” (صحيح مسلم).
وتذكّرت الشاعرة للرسول ﷺ حسان بن ثابت الأنصاري (ت 54هـ/675م) -رضي الله عنه- دخولها في واقعة الإفك، على الرغم من اعتذاره لها وتقديره لها، وعلى الرغم من ذلك، فلم تكن تتجنب ذكر إنجازاته ودفاعه عن النبي ﷺ. وعندما شتمه ابن أختها عروة بن الزبير في حضرتها، قالت له: “لا تشتمه فإنه كان يُدافع عن رسول الله” (صحيح البخاري).
من أمثلة اتساقها الإنساني وسيطرتها على عواطفها: ما سبق ذكره من قرارها العادل لصالح مروان بن الحَكَم بناءً على مهارته الشعرية عند منافسه ابن أختها عروة. وهكذا كانت العدالة سلوكًا للسيدة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ونهجًا لا تنحرف عنه.
وكان من مثالية عقلها معرفتها بقدرات الناس، وأن لها رأيًا دقيقًا في مراتب الرجال؛ حيث روى أبو شجاع الديلميّ (ت 509هـ/1115م) -في ‘مسند الفردوس‘- قولها: “أضف جلساتك بالحديث عن عمر” بن الخطاب. وقالت فيما رواه أبو يعلى الموصلي (ت 307هـ/919م) في مسندها: “ثلاثة من الأنصار كلهم من بني عبد الأشهل لم يُعتد عليهم بعد رسول الله ﷺ: سعد بن معاذ (ت 5هـ/627م)، وأُسَيْد بن حُضَيْر (ت 20هـ/642م)، وعبّاد بن بشر (ت 11هـ/633م)”. وعلى الرغم من اختلافها العلمي مع أبي هريرة (ت 59هـ/680م) فإنها كانت تُحتفظ بموقعه العلمي وفضله، حتى وصيت بالصلاة عليه عند وفاتها.
عفوية ملحوظة
ومن المعاني التي نجدها في سيرة هذه المثقفة الموسوعية والعالمة الجليلة ابتعادها عن التصنع في السّمعة التي ظهرت لاحقا في الأوساط العلمية الإسلامية، من تكلّف لتصوير شخصية صلبة للعالم أو العالمة تناقض ما يُعتبر من طبائع إنسانية.
وبناءً عليه، كانت عائشة –التي يستعين بها الصحابة لمعرفة شؤون دينهم- لا تتردد في التحدث عن طبيعة المرأة في نفسها؛ حيث قالت فيما رواه الذهبي في ‘سِيَر أعلام النبلاء’: “جاءني رسول الله ﷺ في أوقات مختلفة يطلب مني الاستدارة، فدقق الباب، فسمعت الصوت، ثم خرجت وفتحت الباب له، فقال: هل سمعت صوت الباب؟ قلت: نعم، ولكنني أحببت أن تعلم النساء أنك جئتني في أوقات مُختلفة”!!
ومع نشأتها الإسلامية منذ طفولتها كانت عائشة منفتحة اجتماعيًا على أتباع الديانات الأخرى؛ حيث تواصلت مع نساء اليهود الذين كانوا يزورونها ويتحدثون معها، وربما قدموا العلاج والدعم لها، ولكن عندما تعلق كلامهن بعقيدة أو دين، استنشقت حسها الانتقادي. فروى الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) -في ‘الموطأ‘- أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي وكانت بجانبه امرأة يهودية ترقيها، فقال أبو بكر: “عالجها بكتاب الله”.
وروى مسلم (ت 261هـ/875م) في صحيحه: “عن عائشة رضي الله عنها: دخلت عليّ عجوزان من عجوز يهود المدينة فقالتا: إن أهل القبور يُعذبون في قبورهم، قلت: لا، كذبتا…”. وروى البيهقي (ت 458هـ/1067م) -في ‘شعب الإيمان‘- عن عروة عن عائشة قولها: قال لي رسول الله: “ردي عليّ البيتين اللذين قالهما اليهودي؛ قالت: قلت: قال فلان اليهودي:
ارفع ضعيفك لا يُحارب بك ضعفه ** يومًا فتصيبك العقوبات قد نام
يجزيك أو يعترف بك وإن ** عرف بالأعمال جزى الحمى”!
نجوم علمية
لنلق نظرة الآن على ملامح شخصيتها العلمية وقُدرتها البحثية في فهم نصوص الشريعة، والأنماط الفقهية التي امتازت بهافي مجال التقدير الشرعي. أشار ابن القيِّم -في كتابه ‘إعلام الموقعين‘- إلى مكانة هامة للفتوى بين خبراء الفقه من الصحابة؛ إذ ذكر أن هناك مئة وتسعة وثلاثين شخصًا من الصحابة حفظت عنهم الفتوى، سواء كانوا رجالًا أو نساءً، وكان من أبرزهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر.
وورد في سنن الترمذي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: “لم تكن هناك مسألة صعبة على أصحاب النبي محمد ﷺ إلى أن سألنا عائشة، وجدنا لديها الجواب”. وكثّرت من نقل الأحكام الفقهية، إلى درجة أن الحاكم النيسابوري أشار إلى أن حوالي ربع الشريعة انتقل عنها منها.
ووفقًا لتقدير وارد من الإمام الذهبي في سيرة عائشة في ‘سير أعلام النبلاء‘، فإن مجموع الأحاديث في “«مسند عائشة» يبلغ: 2210 حديثًا، واتفق عليها البخاري ومسلم بـ 174 حديثًا، وانفرد البخاري بـ 54 حديثًا، وانفرد مسلم بـ 69 حديثًا”، مما يعني أن إجمالي أحاديثها في الصحيحين 297 حديثًا. وفقًا للمحدِّث بدر الدين العَيْنى في ‘عمدة القاري شرح صحيح البخاري‘.
وكانت عائشة تختلف مع كبار الصحابة وتقدم استدراكات في ست وستين مسألة؛ كان لأبي هريرة ثلاثة عشر حديثًا، ولعبد الله بن عمر في عشر مسائل، وبعدهما عمر بن الخطاب وابن عباس بثمانية مسائل لكل منهما، وبقية المسائل تنتشر على باقي الصحابة. وقد عدت هذه المسائل وأحاديثها الباحثة فاطمة قشوري في كتابها: ‘عائشة في كتب الحديث والطبقات‘. وسبق للعلماء السابقين تأليف كتب في هذه الاستدراكات؛ فقام أبو منصور البغدادي بكتاب لم تصلنا نسخة منه، ووضع الإمام الزركشي كتابًا بعنوان “الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة”.
عائشة -كما أورد لنا الذهبي- كانت تضم في مجلسها 177 شخصًا “حَدَّث عنها”، بينهم 18 امرأة وباقيهم من الرجال صحابةً وتابعين، تعرفت على أهمية حفظها لتعاليم النبي وعلى الحاجة الماسّة لها كقائدة لعالمات النساء. ولأن العديد من مسائل الفقه النسائية تبقى غامضة بالنسبة لعلماء الرجال، وجدت دورها في تصويب فتوى عبد الله بن عمرو التي لم تراعِ التفاصيل النسائية. فقامت عائشة بنقد فتواه، مشيرة إلى المشقة التي ستواجهها النساء إذا اتبعن تلك الفتوى؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة أنها انتقدت عبد الله بن عمرو الذي كان يأمر النساء بتقصير شعرهن بعد الاغتسال. فقالت: “يا غرابة! هل يجب على النساء قص شعورهن؟! فإني كنت ورسول الله ﷺ نتوضأ من إناء واحد، ولا أزيد على أن أسكب ثلاث مرات على رأسي”.
كانت لديها منهجية معينة في صناعة الفتوى تتجه نحو البحث في أسباب الأحكام وفهم أهدافها، وكانت ميزتها الفقهية تكمن في مراعاة وضع المرأة وتحقيق التعادل لها في المسائل التي قد لا يلاحظها الرجل، أو يتجاهل تفاصيلها التي تتعلق بطبيعتها الأنثوية.
القرآن موطنٌ للقراءة بدون تجاوز وقتها.
وأختلفت عائشة مع بعض الصحابة في استيعابهم حرفيًا لحديث عن النامصات والمغيّرات من مخلوقات الله، حيث عارضوا إزالة الشعر النامي على جسمها ووجهها. كانت ترى بوصفها الأنثوي أن هذا ليس تلاعبًا في الخلقة أو خداعًا للخاطبين، بل هو قضية نظافة شخصية وجمال طبيعي ينبغي على النساء. ولذلك، كانت تنصح من استشارها حول هذا: “احملي عن الأذى وزيّني لزوجك”؛ (رواه عبد الرزاق في ‘المصنف’).
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة وابن عمر أن النبي ﷺ قال: “لأن يمتلئ بطن أحدكم قيحًا ودمًا خيرٌ من أن يمتلئ شعرًا”! فردت عائشة: “لم يحفظ [أبو هريرة]! إنما قال: من أن يمتلئ شعرًا هُجِيتُ به”.
كانت عائشة بارعةً في استيعاب المعاني وفهم الأحاديث في سياقاتها، ولهذا تجدها تشير إلى أن الهجرة كانت تعني زمنيًا مرتبطًا بإضطهاد المسلمين. فقد روى عبد الرزاق الصنعاني في ‘المصنف’ أنها سُئلت: متى الهجرة؟ فأجابت: “لا هجرة بعد الفتح، الهجرة كانت قبل الفتح حيث يهاجر الرجل بدينه إلى رسول الله، أما بعد الفتح فيكون الرجل ‘عبد الله’ فيأتي بفعله مبادرًا”.
ضوابط منهجية
عرفت عائشة قيمة الترتيب في الأدلة، فالقطعي يأتي قبل الظني، وعلى هذا الأساس فإن القرآن يأتي في المقدمة ولا يتجاوزه أي شيء. وعند تعارض الرواية الحديثية مع النص القرآني، كانت تؤجل اتخاذ الحديث، نظرًا لاحتمال خطأ الراوي وعدم ورود هذا الخطأ في القرآن.
فعلى سبيل المثال، روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة علمت بحديث عن أبي هريرة حيث قال: “وَلَدُ الزنا شرُّ الثلاثة”، فردت عائشة ونفت وجود هذا النص وقالت: “كفى بكم القرآن”.
ومن بين ذلك حديث إسماع الموتى الذي روياه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك، حيث ألقى النبي ﷺ خطابًا على روح قتلى بدر من قريش، وعندما سأله عمر عن كلامه لأجساد بلا روح، أكد النبي ﷺ صدقه. قالت عائشة: “حينها فهمت الحقيقة بحسب عقلها”، ولكنها رفضت الحديث يوازي القرآن.
الجوّاد مرتكزة على كلام الله عز وجل: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ﴾؛ (سورة النمل/الآية: 81)، وقوله تعالى: ﴿وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ﴾؛ (سورة فاطر/الآية: 22).
ب- تناقض الحديث لروايتها: ومن أمثلته حديث التشاؤم بالنساء؛ حيث ورد في صحيح البخاري من حديث ابن عمر: “إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس”. ردت عليها عائشة بالقصة التي نقلها أبو جعفر الطحاوي (ت 321هـ/933م) في ‘مُشْكِل الآثار‘، حيث أن رجلين من بني عامر دخلا عليها مخبرينها بحديث النبي ﷺ الذي يقول: “الطيرة في المرأة والدار والفرس”. فاستاءت وأظهرت غضبًا شديدًا، ثم ردت الحديث لما يقوله النبي ﷺ عن أهل الجاهلية وعاداتهم.
وعلمت عائشة -اعتمادًا على معرفتها بسنة النبي ﷺ- أن هذا القول كان مجرد سرد عن عادات أهل الجاهلية، ولم يكن من تعاليمه الخاصة. كما سمعت أيضًا حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بروايات متعددة، يقول فيه: “يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ”؛ فنفت عائشة هذا الحديث، وأظهرت عدم تطابقه مع سلوك النبي ﷺ حين كان في بيتها، الأمر الذي يتعارض مع ما جاء في نص الحديث.
نشاط عام
بعد وفاة النبي ﷺ، كانت عائشة تعتبر مستشارة كبيرة في شؤون الفتوى في المجتمع المديني، وخاصة فيما يتعلق بالقضايا الزوجية. وكثيرًا ما تمتّع الصحابة بمشورتها في هذه القضايا، كما ذكرته السنن بانبعاث جدال بين الصحابة -بحضور عمر بن الخطاب- في قضية الغسل بين الزوجين، فألقى عمر بن الخطاب بالتساؤل على الصحابة عن هذه المسألة، واقترح عملقطه إرسال طلب إلى أزواج النبي للاستفسار في الموضوع، فكانت إجابة عائشة: “إذا تقابلت المخارج الداخلية فالغسل واجب”.
ثم تولى عثمان بن عفان الحكم، واستمرت فترة حكمه لفترة طويلة، وأصيب بالملل والضجر وعدم الرغبة في إدارة الشؤون العامة نتيجة تقدمه في السن. وأعيد انتخاب شخصيات لم تحظَ برضا سكان المدن، الأمر الذي جعلهم يتقدمون بشكاوى واعتراضات، وقد قدَّموا عائشة كمستشارة لهم للاستشارة في هذه القضايا؛ وهكذا شهدت أقوال عائشة لكثير منهم.
رأت عائشة أن الخليفة عثمان ينبغي عليه أن يُظهر العدالة في إدارته؛ فأرسلت له – كما رواه الحافظ ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تاريخ دمشق‘- عندما جاء أهل مصر يشكون عبد الله بن أبي سرح (ت 59هـ/680م) قائلين: “قد جاءك أصحاب النبي محمد رسول الله ﷺ وطلبوا منك إقالة هذا الرجل، ولم تستجب إلى أحدهم إلا تقديم عبدة، فهؤلاء دفعوا رجلاً فانصفهم من مسؤوليته”. وكما سبق، كان عثمان متعبًا من هذه الاحتجاجات، وكان عمره لا يسمح له بالتكيف السريع مع التحولات في الحكم، “وليس هناك تصرف أكثر أهمية من تقديم حكم عقلاني لأبناء المجتمع”؛ كما وصف الجاحظ (ت 255هـ/869م) في كتابه ‘الحيوان‘.
وكانت الكثير من الناس، من بينهم عائشة، يشعرون بالانزعاج من تلك الأحداث، ولربما دفعها هذا الاضطراب نحو البحث عن الحقيقة وإقامة العدل – والذي كان لهما تاريخًا جيدًا مع خلفاء عُثمان السابقين – إلى التعبير عن اعتراضها عليه دون الالتزام ببقائه في الحكم؛ فذكر ابن كثير –في ‘البداية والنهاية‘- أنه عندما حثها مروان بن الحكم على التدخل لإصلاح الأوضاع، قالت: “لقد أنهيت كل أموري وأريد الانصراف إلى الحج”؛ لتظهر بهذا تقديم اليأس من تحسين الأوضاع.
ونحن لا نطمئن إلى الكثير مما ورد عن هذه الفتنة، إذ تختلف الآراء حولها، وانقسم الناس إلى جماعتين قليلتين ينقصهما العدل، ويقدم كل فريق روايات تؤية وتدعم مواقفهم. ومع ذلك، فإن الشخص المتأمل في سيرة عائشة لن يتقبل الروايات التي تجعل التاريخ لغزًا لا يمكن حله، ويشير إلى أن الذين زعموا أن عائشة كانتتدعو لقتل الخليفة عثمان، وتعارضها خروجها للمطالبة بدمه، ومن يبرأ من انتقاداته يواجه ردّاً يتضمن تصدُّرها -دون سائر نساء الصحابة- لمطاردة قتلته.
ورثها فاضل
والاقتناع الذي يطمئن به الباحث والمفتش في الروايات -رغم التناقض الشديد الذي تتضمنه- ينتهي إلى أن عائشة لم توافق أبدًا على قتل عثمان، بل لم تكن تدعو إليه من الأصل. وكان موقفها موقف المعارض السلمي، وبعد وقوع الجريمة ومقتل عثمان ظلمًا، تأثَمت بشدة، ظنًّا -بسبب تقوى ضميرها- أن نقدها لعثمان قد دعم قتلته للتحرك للمطالبة بالقصاص.
لذلك، فقصة سفرها إلى البصرة -والصراع الناتج مع معسكرها ومعسكر الخليفة علي بن أبي طالب في واقعة الجمل- قصة عاطفية وندم، ولا تمثل قصة تخطيط أو استراتيجية، إذ رفضت عائشة كافة النصائح وأجابت بعدم التراجع، بما فيها نصائح أم المؤمنين أم سلمة وعبد الله بن عمر، ولم تجد إجابة سوى الاعتراف بالذنب المتخيل؛ لذا حاشاها أن تكون.
وتدعم كلامها حول رحلتها إلى البصرة عبارتها: “عندما تم قتل عثمان بن عفان، بكينا وقلنا بالصوت صرَخنا، وأوصلتنا سواعد القوم حيث أردنا، وأمرنا سعيد الوليد بالقتال، فاستجازتكم فاستخفيتم الأمور المحرّمة: حرمة البلد، وحرمة الخليفة وحرمة الشهر الحرام”.
عانت عائشة من ندم عميق بسبب تورطها في الصراع المسلح، حيث أدركت أنها تجاوزت بعض النصوص التي أعاقتها عن التفكير وأكدت على تأثُمها واندفاعها العاطفي. فعند قراءتها للآية: ﴿وَقَرْنَ في بيوتِكُنّ﴾ (سورة الأحزاب/الآية: 33) تبكي حتى يبلّ خمارها؛ وفق ما يذكر الحافظ الخطيب البغدادي والذهبي في كتبهما.
عاشت حياة أمنا عائشة -رضي الله عنها- مليئة بالتفوق والعطاء وخدمة الأمة، وتركت لأبنائها المسلمين إرثًا ثريًا من المناهج المتعلقة بمصادر التشريع وإصدار الفتاوى والتعامل مع النصوص. ومارست ما يدعو الدعاة المعاصرين اليوم إلى مراجعته نظريًا من “نقد النصوص”، والتخلي عن ما يُسمى بـ”التفوق الذكوري” في استنتاج الأحكام الدينية، وتفضيل النظرة الموجهة نحو الغايات في صياغة الفتاوى؛ ولكن انعدام اهتمامهم بتراثهم والذي ينبغي تجديده سبّب لهم فقدان الوعي بفضائله!!