حرب الأثمان: “تل أبيب” إلى الليطاني بلا أرجل
إذًا، يحقّ للمحتل أن يقع في تشابكات حدود القوة وحدود القدرة عندما يصل الأمر إلى حسم أي قرار ابتدائي بعملية موسعة على لبنان، ليس لأن يده لا تصل إلى الليطاني وما بعده؛ بل لعجزه عن ترميم ما قد تُحدثه ضربات المقاومة من خلل في حَمضه النووي اللازم لاستمراره الوجودي.
يمتد الثقل الاقتصادي في الشمال، ليشمل أيضًا، شركة “ISCAR”، نتحدث عن كبرى الشركات المصنعة لأدوات قطع المعادن الصلبة والمخارط في العالم وما يعنيه ذلك من ضرب قطاع الصناعات الثقيلة، وخط التوريد العالمي، ومعه سمعة إسرائيل
بالنسبة لـ “تل أبيب”، هي تدرك أن الثقل الاقتصادي العالق في الشمال إن حدث واهتز سيميل الكيان بأجمعه نحو الهاوية..
حديث الأثمان هنا يقول إن 60% من الطاقة التكريرية في الكيان تتركز في مصافي نفط شركة “بازان” في الشمال، وضربة واحدة لأهراءات “داغون”، المخزن الأم في إسرائيل، تعني ضرب 80% من إجمالي الحبوب والقمح في الكيان (3 ملايين طن).. خطوة كهذه يمكن قياسها بالعودة إلى العطل الذي طرأ على نظام تفريغ الأهراءات عام 2022، وتسبّب حينها بخفض معدّل التفريغ إلى 50%؛ وبرغم تدارك العطل سريعًا حينها، فإنه اعتُبر تهديدًا “يمسّ بالإمدادات الغذائية لإسرائيل، ويقطع الخبز عنها” حسب تصريح لرئيس اتحاد مستوردي الحبوب إيتاي رون حينها، فكيف بضربة تبدأ بإطاحة أمن إسرائيل الغذائي وتنتهي بخرق إستراتيجي لأمنها القومي؟
سؤال آخر.. هل تملك “تل أبيب” آلية تعامل مع قطع الإمداد الكهربائي عن 2.5 مليون أسرة إسرائيلية، إذا ما تم ضرب شركة “كهرباء إسرائيل”، ومثلها شركة “Orot Rabin”؛ أكبر محطة للطاقة في إسرائيل، وهي الأخرى تقع ضمن النطاق الجغرافي لأهداف المصانع في المنطقة الشمالية؟
يمتد الثقل الاقتصادي في الشمال، ليشمل أيضًا، شركة “ISCAR”، نتحدث عن كبرى الشركات المصنعة لأدوات قطع المعادن الصلبة والمخارط في العالم، وما يعنيه ذلك من ضرب قطاع الصناعات الثقيلة، وخط التوريد العالمي، ومعه سمعة إسرائيل.
تأتي شركة “Plassim” على الوزن ذاته في الأهمية، باعتبارها أكبر شركة مصنّعة للأنابيب البلاستيكية للبنية التحتية في إسرائيل، وفيما قد يحدثه استهدافها من خلل في تأهيل وتصنيع إمدادات المياه والصرف الصحي، حتى كابلات الكهرباء والاتصالات، وتوزيع الغاز.. يتبعها عملية شلّ خط الإنتاج التصنيعي بضرب أكبر شركة للأنظمة الهيدروليكية في إسرائيل “Aizinberg Hydraulics”، وما يترتب على ذلك من تجميد آلية الإنتاج، وتعطيل الماكينات الصناعية في المنشآت الصناعية الكبرى، والمحركات الكهربائية والمقطورات، وبالتأكيد ما يدخل في الصناعات العسكرية.
ستسقط إسرائيل خلال محاولتها رسم حدود الأثمان، وتحديدًا في الشمال، فمصانع الثقل في إسرائيل تلجأ بنسبة كبيرة منها إلى اتخاذ مكاتب ومقارّ رئيسية لها في الوسط، بينما تعهد بالمعامل ومصانع الإنتاج شمالًا
إسرائيل حتى لو أرادت إخراج نفسها من التموضع في زاوية الأثمان الإستراتيجية، وأحرقت كل ما تصطدم به من الحدود وحتى جنوب الليطاني، لن تقترب ولو قليلًا من أي ثمن قد تتكبّده المقاومة، كما لا يمكنها تغيير تموضع اليد العليا للمصانع الشمالية في السيطرة على السوق الغذائية لإسرائيل، مع هيمنة شركة “Adom Adom” على 40% من إجمالي سوق اللحوم في إسرائيل.
وعلى الرديف تمامًا تحتفظ شركة “Tnuva” بـ 70٪ من مبيعات سوق الألبان في إسرائيل، كأكبر شركة لتصنيع الأغذية، وكذلك الأمر بالنسبة لمصنع “Barkan”، الذي يصدر 15 مليون زجاجة سنويًا، ويمثل حوالي 50% من محصول الكروم في إسرائيل، ليكون مصنع النبيذ الأول في الكيان.
مفاعيل التأثير تزداد تعمقًا مع تقدم قطاع الصناعات الكيميائية والورقية والنسيجية، إما تفردًا في المجال أو تفوقًا في الصناعة من حيث ضخامة وجودة الإنتاج.. كل هذا حكر على المنطقة الشمالية، فيما “تل أبيب” لا تريد الإقرار أمام قراراتها- وإن تبطن في ذلك خوفًا- أن المصانع الـ13 المعدّة والجاهزة لإعادة تأهيل أي منشأة وبنى تحتية، وصيانة الأعطال، وترميم أي خلل، بدءًا من تسرب الأمونيا إلى الرافعات والضواغط إلى السفن والطائرات حتى المعدات الميكانيكية، هي رهانها على النهوض، وأن هذا سيُضرب!. بمعنى آخر أن ضرب المصانع الـ13 هو إحباط قدرة إسرائيل على التعافي، وإفشال أي عملية ترميم فورية خلال الحرب لمواصلة خط الإنتاج.
كما في الحروب اللامتماثلة هناك “حرب أثمان لا متماثلة”، ضربة لمصنع “ICL Group” للصناعات الكيميائية ستتسبب بسقوط 70 ألف ضحية في نطاق 8.2 كيلومترات، بالاستناد إلى معطيات قدمتها “لجنة شابير”، التي أنشأتها وزارة حماية البيئة في إطار عملية تعلم الدروس بعد حرب لبنان الثانية، هذا من دون التطرق إلى خزانات الأمونيا.
بالنتيجة، ستسقط إسرائيل خلال محاولتها رسم حدود الأثمان، وتحديدًا في الشمال، فمصانع الثقل في إسرائيل تلجأ بنسبة كبيرة منها إلى اتخاذ مكاتب ومقارّ رئيسية لها في الوسط، بينما تعهد بالمعامل ومصانع الإنتاج شمالًا، لرخصِ ثمن الأرض مقارنة بمدن المركز، واستغلالًا لمِنَح الدعم المقدمة من الحكومة في الشمال، وانخفاض كلفة اليد العاملة مقارنة بمناطق الوسط.
إسرائيل تتحرك ضمن حدّين كلاهما قاتل، ضرورة الاستمرار نحو أهداف غير واقعية، ومحاولات عدم الانزلاق نحو دفع أثمان لا يمكن تعويضها، وهي مع ذلك لا تستطيع إنقاذ نفسها من نفسها
في كل الأحوال، إذا كانت “تل أبيب” غير قادرة على تعويض 165.4 مليار دولار – رغم اقتصار هذه الأثمان على القيم الأصولية للمصانع فقط – تبقى عملية إعادة التأهيل ومنع هجرة المصانع بعيدًا عن الشمال، أشد ثقلًا من دفعها إلى تكبّد ميزانية تتعدى ما تنفقه على ميزانية الجيش السنوية بأكثر من 11 ضعفًا.
لا إستراتيجية لدى إسرائيل في تبرير جدوى خسارة خط الاستقطاب والصمود الأول لمستوطني الشمال، بعد خسارة وظائفهم ومصادر دخلهم، أي خسارة “الأمان الاقتصادي” الذي ينادي به هؤلاء منذ اشتعال جبهة الشمال، كما أنه لا فكرة لديها بشأن كيفية إقناع هؤلاء أن خسارة مصالح تشكل بالنسبة لهم إرثا قِيميًّا هي خسارة يمكن تعويضها، ستدخل إسرائيل في عملية إعادة تصنيع ثقافية هوياتيّة لمجتمعها الاقتصادي.
كيف لمستوطن استجلب ماكينة خياطته من بولندا ليفتتح مصنعًا يديره الجيل الرابع من العائلة الآن، أن يستوعب ضياع ما بناه أسلافه؟ أو كيف لآخر أن يتفهم تدمير سرّ الصناعة الإيطالية للنبيذ؟.. كلها مصانع تملك بمعظمها قيمة سوقية كبرى في بورصة تل أبيب.
على أن إسرائيل التي نعرفها تدرك كل هذا، لكنها تتحرك ضمن حدّين كلاهما قاتل، ضرورة الاستمرار نحو أهداف غير واقعية، ومحاولات عدم الانزلاق نحو دفع أثمان لا يمكن تعويضها، وهي مع ذلك لا تستطيع إنقاذ نفسها من نفسها.