حقوق الإنسان الغربية.. “عندما تكون حسب المصلحة”!
21/8/2024
–
|
آخر تحديث: 21/8/202404:26 م (بتوقيت مكة المكرمة)
في المجتمع الغربي، يتعرض نقد حقوق الإنسان لتهمة الانتماء الى اليمين أو اليسار المتطرف، وفي العالم العربي والإسلامي، لا يؤدي ذلك إلا إلى تصنيف الناقد في خانة اليمين المحافظ أو اليسار المتشدد أو حتى الإسلاميين المتطرفين. ولذلك، تظل انتقادات حقوق الإنسان في الوطن العربي والإسلامي وفي الغرب محصورة في مجادلات حول ازدواجية المعايير دون المساس بالمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان.
كشفت الاعتداءات على غزة عن تحيز منظومة حقوق الإنسان وعجزها البنيوي عن وقف جرائم الإبادة المرتكبة ضد “الآخر” غير الغربي.
يعتبر صامويل موين، أحد أبرز النقاد المعاصرين لحقوق الإنسان، بأن هذه الحقوق غير كافية في عالم غير عادل. ويمكن أيضًا أن نستند إلى أعمال عدة مفكرين من مدارس ما بعد الاستعمار مثل محمود ممداني وبوافنتورا دو سوسا سانتوس، الذين رأوا أن حقوق الإنسان ليست ناقصة فحسب، بل مضللة ومتحيزة أيضًا.
تعتبر الانتهاكات التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني دليلاً دامغاً على ازدواجية خطاب حقوق الإنسان، وتشكّل لحظة مهمة لمساءلة هذه الحقوق بشكل جذري. إذ أظهرت الاعتداءات على غزة تحيز نظام حقوق الإنسان وتواطؤه، وكشفت عن عجزه البنيوي عن حماية ضحايا الإبادة عندما يتعلق الأمر بـ”الآخر” غير الغربي، مما يدعم وجهات نظر بعض المفكرين المسلمين القائلين بأن حقوق الإنسان ذات طبيعة قاصرة.
كما أكدت الاعتداءات على غزة على أفكار الباحثين من مدارس النقد ما بعد الاستعمارية والديكولونيالية، والذين أدعوا أن حقوق الإنسان منحازة ضد الإنسان الأبيض وأن منهجيتها فاسدة، وتضامنها مع نظام الحداثة الاستعماري.
يؤكد النقد الموجّه لحقوق الإنسان من داخل الأوساط الأكاديمية الغربية, باستخدام أدواتها، على الحاجة إلى دعم الطروحات النقدية التي أطلقها المفكرون المسلمون. وفي هذا السياق، يمكن أن نبرز مثالين من نقد محمود ممداني وبوافنتورا دو سوسا سانتوس.
يمثل العدوان على غزة تجربة عملية للجهات المتورطة في هذا الهجوم دون أن تشير إليهم تقارير منظمات حقوق الإنسان، مثل دول التحالف الدولي التي توفر الدعم لإسرائيل بالأسلحة والتعاون الأمني، بالإضافة إلى الشركات المعنية بالصناعات العسكرية.
محمود ممداني: حقوق الإنسان فكرة خاطئة
انتقد محمود ممداني حقوق الإنسان من خلال دراساته لحالات العنف السياسي، مستخدمًا التاريخ ونظرية ما بعد الاستعمار. وقد اعتبر أن رؤية حقوق الإنسان تعتبر غير صحيحة لعدة أسباب:
- إخفاء التاريخ
في كتابه “لا مستوطن ولا مواطن: صنع وإزالة أقليات دائمة”، اعتبر ممداني أن “القوى المعرفية السائدة اليوم تسعى لتجاهل التاريخ واستبداله بحركة عالمية جديدة تسمى حقوق الإنسان، التي تنكر التاريخ”. إذ تطرح حقوق الإنسان تساؤلات حول من أقدم على ذلك، وعمّا حدث، ولمن كانت هذه الأفعال، دون أن تتناول سؤال لماذا، مما يغفل تاريخ الصراعات وظروفها.
تسبب حقوق الإنسان الغربية، التي تفشل في مساعدة شعوب البلدان المحتلة مثل فلسطين في مواجهة الظلم، في عدم التطرق لتاريخ الصراع، الأمر الذي يبرز أهمية أعمال مؤرخين مثل وليد الخالدي وإيلان بابيه في فهم الاعتداءات على فلسطين أكثر من تقارير حقوق الإنسان الرسمية.
يعتمد الفكر النقدي ما بعد الاستعماري على أن العنف متجذر في فكرة الدولة- الأمة التي تبلورت في ظل الحداثة، كما أشار ممداني في أعماله، بينما تدعي حقوق الإنسان إمكانية تجنب العنف دون المساس بنموذج الدولة القومية.
تظهر النظرية السياسية النقدية أن تجنب العنف يتطلب التخلص من نموذج الدولة القومية، ما يعقد من فكرة الدولة الحديثة ومشروع الحداثة السياسية، كما تشير الانتقادات المعرفية إلى أن العنف يتمثل في هيكلية الحداثة، التي تصنف الشعوب في تسلسل هرمي يبدأ بالإنسان الأبيض.
وفرت المدارس النقدية ما بعد الاستعمارية والنظرية النقدية الحجة الملموسة للطلاب الأميركيين للاحتجاج ضد الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، بتفوقها على تقارير حقوق الإنسان في توفير الحماية.
- استبعاد السياسي
تعتبر حقوق الإنسان توجهًا نيوليبراليًا تتجاهل السياسة، حيث تعتبر العنف السياسي موقفًا فرديًا، مستبعدة المتورطين في نظام القوة الذين مارسوا العنف باسم الدولة. ولذلك، يمثل العدوان على غزة تجربة لكل العناصر المتورطة دون الإشارة إليها من قبل منظمات حقوق الإنسان، مثل دول التحالف الدولي وشركات السلاح.
في المقابل، لا تعترف حقوق الإنسان بهذه البيئة، كما أشار ممداني: “من هيومن رايتس ووتش إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ لقد تم تجريد الظلم الذي نفذته الدول من أبعاده السياسية، واستبداله بمسؤولية أشخاص محددين قاموا بأخطاء”.
- عدالة الضحية والبحث عن المنتصر والمنهزم
تقوم حقوق الإنسان على مبدأ عدالة الضحية، حيث يسعى الطرفان المتنازعان بإظهار نفسيهما كضحايا رغم أن أحدهما مجرم، كما يفعل الكيان الصهيوني الذي يسعى حتى لاستجداء صفة الضحية رغم جرائم الإبادة التي ارتكبها.
بحسب ممداني، رسخّت محاكمات نورمبورغ مبدأ عدالة الضحية، ومن ثم انتشر هذا المفهوم ضمن حركات حقوق الإنسان المعاصرة، فقد “تحولت مجموعات حقوق الإنسان منهجية نورمبرغ إلى منهجية عالمية” تعتمد على تنظيم الفضائح وتصنيف الضحايا والمجرمين.
تفصل المحكمة الدولية بين المنتصر والمهزوم بشكل دائم، حيث يمكن للضحية أن تلجأ إلى نظام حقوق الإنسان حالما تتحقق الهزيمة، ما يبعث على اقتباس فكرة وجود منتصر ومنهزم في الفكر الحقوقي.
بقدر ما يكشف تزايد انتهاكات حقوق الإنسان عن أوهام حقوق الإنسان، فإنه يبرز أيضًا أن انتصار خطابات حقوق الإنسان لا يمكن تفسيره إلا باستخدام القوى العالمية لها لخدمة مصالحها.
يوافنتورا دو سوسا سانتوس: حقوق الإنسان مستعمرة ومتحيزة
يقدم النقد الديكولونيالي منظورًا آخر لحقوق الإنسان، حيث يوضح دو سوسا سانتوس في كتابه “لو كان الإله ناشطًا حقوقيًا: نحو لاهوت حقوقي مناهض للهيمنة” أن “معظم سكان العالم لا يعتبرون ذواتًا حقوقية، بل هم موضوعات لحقوق الإنسان”، وأن هذه الحقوق وُجدت لتكون سائدة في المجتمعات الغربية فقط.
يظهر الاعتداء على غزة أن حقوق الإنسان ليست عاجزة عن حماية الغزاويين فحسب، بل لم توجد في الأساس لحماية الإنسان غير الغربي، مما يفسر العجز البنيوي لمنظومة حقوق الإنسان في مواجهة انتهاكات الكيان الصهيوني، وفشلها المزعوم في إنهاء الاعتداءات على شعب يسعى للحصول على حريته.
ويعتبر دو سوسا سانتوس أن حقوق الإنسان متحيزة وقاصرة، كونه يعتمد على أربعة أوهام: الغائية والانتصارية، نزع السياق والأحادية:
- الغائية: يتمثل هذا الوهم في اعتبار حقوق الإنسان بصيغتها الحالية نتيجة حتمية لعملية التطور التاريخية، رغم وقوع أفظع انتهاكات حقوق الإنسان في العصر الذي نعيشه، مما يبرر أفعالًا عنيفة تحت ستار الدفاع عن حقوق الإنسان والقيم الكونية.
- الانتصارية: يعتبر هذا الوهم أن انتصار حقوق الإنسان هو خير للبشرية، وهو أمر يعزز فكرة أن التصورات الأخرى المتعلقة بحماية الكرامة الإنسانية أقل شأناً من الناحية الأخلاقية والسياسية، على الرغم من وجود ثقافات غير غربية لديها تقاليد مثلى لحماية هذه الكرامة.
إن نجاح الممارسات ما قبل الحديثة في منع جرائم الإبادة يظهر ضعف منظومة حقوق الإنسان الغربية، ويكشف عن الهجمات العسكرية التي تستخدمها القوى العالمية لتعزيز مصالحها.
- الانفصال عن السياق: يعد هذا القصور ناتجًا عن تجاهل حقوق الإنسان للسياقات المتعددة مثل النضال ضد الاستعمار ومكافحة الاستبداد. فعلى سبيل المثال، تجاوزت حقوق الإنسان سياق الثورة الفرنسية وقُدمت لتبرير استعمار بونابرت لمصر عام 1798، وتواصل استخدامها لتحقيق أهداف متناقضة.
- الأحادية: يرتبط هذا الوهم بإخفاء التوتر البنيوي بين نظريات حقوق الإنسان، إذ تحصر الأولوية لحقوق المواطنين على حساب حقوق الإنسان الأخرى مثل حقوق المهاجرين، مما تسبب في العديد من انتهاكات حقوق الإنسان.
تسلط هذه التوترات المعقدة الضوء على الحاجة الملحة لإصلاح حقوق الإنسان.
في السنوات الأخيرة، توصل الباحثون بعد الاستعماريون إلى أفكار نقدية حول منظومة حقوق الإنسان مدعومة بحجج دامغة، وقد تزامنت مع ورود شكاوى من الجوانب القمعية للعدوان الإسرائيلي ضد سكان غزة.
إصلاح حقوق الإنسان إصلاحًا جوهريًا أمر ممكن
مع زيادة شعارات حقوق الإنسان وتزايد خطابات المنظمات الحقوقية منذ التسعينيات وحتى الآن، سجلت في العالم انتهاكات غير مسبوقة لحقوق الإنسان. وتفيد هذه الانتهاكات بأن صيغ حقوق الإنسان الغربية ليست بالسبيل الأنسب لحماية الكرامة الإنسانية.
لقد أشار مفكرون مسلمون منذ فترة طويلة إلى قصور حقوق الإنسان، لكن ظلت ضغوط السرديات الأكاديمية والإعلامية تمنع مناقشتها نقديًا. وفي السنوات الأخيرة، توصل الباحثون ما بعد الاستعماريون والديكولونياليون إلى أفكار نقدية حول منظومة حقوق الإنسان، وارتبط ظهور هذا الخطاب مع الاعتداءات الصارخة من إسرائيل ضد سكان غزة، مما يدل على ضعف قدرة المنظومة على وقف مثل هذه الانتهاكات.
دعا بعض هؤلاء المفكرين إلى ضرورة رفض النظام الحالي لحقوق الإنسان، لأنه أُنشئ لحماية الإنسان الأبيض بدون غيره، وأكدوا على أهمية استكشاف تعاليم الحضارات غير الغربية في حماية الكرامة الإنسانية، وتأسيس خطاب حقوق إنسان بديل مناهض للهيمنة، مما يساعد على تحرير حقوق الإنسان من الكولونيالية والعنصرية والأبويّة، ويدعو لإصلاح جوهري.
رابط المصدر