ذوبان قيم البلد الحديثة!
نتاجًا تاريخيًا، في موقع مُحدّد، ذا ثقافة مُعينة، في أوروبا وأميركا. (وائل حلاق، الدولة الضرورية، ص 66).
لذا، أكثر محاولات تعريف الدولة الحديثة كانت عبارة عن تصوّرات إجرائية حول هيئة الدولة وأنظمتها، كالمؤسسات الدولية، والفصل بين السلطات، أو الجهاز الإداري.
إلا أنّ الدولة الحديثة لها قواعد ثابتة تقوم عليها، وهي: الإقليم الجغرافي، والشعب، والسيادة. وبالإضافة لهذه القواعد، هناك مبادئ وقيم ينبغي أن تهيمن عليها في الدولة، تتضمن البُعد الثقافي، والبُعد التشريعي، والبُعد الإجرائي العمَلي.
أهم القيم الحاكمة في الدولة الحديثة احترام الكرامة البشرية، وأتى مصطلح الكرامة البشرية كحق أساسي مُعترف به في أكثر من 160 دستورا من دساتير العالم، من بين 193 دولة عضو في الأمم المتحدة.
القيم الأساسية في الدولة الحديثة
تُحكم الدولة الحديثة مجموعة من القيم والمبادئ التي صارت من ضروريات تسعى الدول لترسيخها وحمايتها، هذه القيم والمبادئ تم التأكيد عليها في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، التي التزمت بها معظم دول العالم، وتحوّل هذا التزام إلى قوانين محلية ودولية، تسعى دول العالم لتنفيذها وحمايتها ضمن مجتمعاتها وخارجها.
وأدى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثلا، إلى أكثر من 80 معاهدة وبيان دولي، وعدد كبير من اتفاقيات حقوق الإنسان الإقليمية، وصكوك حقوق الإنسان المحلية وأحكام دستورية انتشرت في دول العالم، ما يشكل نظامًا شاملا وملزمًا من الناحية القانونية لدول العالم داخليًا وخارجيًا، ومن أهم هذه القيم:
- احترام الكرامة البشرية
أهم القيم الحاكمة في الدولة الحديثة احترام الكرامة البشرية، وأتى مصطلح الكرامة البشرية كحق أساسي مُعترف به في أكثر من 160 دستورا من دساتير العالم، من بين 193 دولة عضو في الأمم المتحدة.
فالوصول إلى “المجتمع اللائق” الذي تطمح إليه الدولة الحديثة، أساسه حفظ كرامة البشر، التي تتحقق بعدم التعامل معه، فردًا أو في مجموعات، بصفة شيء، أو عبد، أو إنسان من الدرجة الثانية عبر التمييز على أساس ثقافي أو عِرقي أو ديني، أو معتمدًا على القدرة الشرائية أو النفوذ الاجتماعي أو السياسي.
- قيمة الأمن
الأمن نظام حياة متكاملة، إنّه القدرة على الاستمتاع بحقوق الإنسان وبخاصة حقّ التعبير عن الذات وعن الرأي بحرية دون خوف من اعتقال أو قتل تحت التعذيب، فالأمن حالة يغيب فيها الخطر أو التهديد، وهو في العموم وضع يتم فيه حفظ كرامة الإنسان وضمان معاملته بعدل ونزاهة أمام مؤسسات الدولة. وهو بيئة تهيئها الدولة لمواطنيها من خلال تشريعاتها وممارستها.
- قيمة المواطنة
هي عقد قانوني ودستوري بين الدولة ومواطنيها، يتساوى فيه كل مواطني الدولة على تنوعهم وتباينهم، ولا يحق لأحد أن يُحرم منها لسببٍ ما، فالمواطنة حدّ أدنى مطلوب للتأسيس القانوني للعيش المشترك في الدولة، وما يحمي هذا الرابط ويزيده موثوقية، ويُنقله من سياق التنظيم الصلب إلى سياق الفعل الحضاري المتطلب هو الرابط القيمي والخُلقي الذي يجب على الدولة حمايته ودعمه وليس تفكيكه أو تشظيته خدمة لمصالح السلطة الحاكمة.
- قيمة العدالة والنزاهة
العدالة والنزاهة قيمتان أساسيتان في الدول الحديثة، فالعدالة بأنواعها: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لا تحقق دون نزاهة ملاحظة، ودون قضاء عادل، فالفساد والهروب من العقاب يُعزز كلّ منهما الآخر، ولا يمكن احترام الكرامة البشرية أو توفير الأمن أو ترسيخ المواطنة وحماية التنوع أو المساءلة عن الفساد من خلال نظام قضائي فاسد ومسيطر عليه ومتحكم به من قبل الفاسدين.
ذُكر في تقرير منظمة العفو الدولية، أنّ الكثير من الحكومات أدانت حركة حماس وهجوم السابع من أكتوبر 2023، لكنها تحفّظت في الرد على جرائم الحرب التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها إسرائيل.
فناء القيم وانعدامها ظاهرة تتزايد في الدولة الحديثة
تشهد الكثير من الدول في العالم اليوم فناءً لقيم الدولة الحديثة، فكثير من هذه الدول تشهد معدلات عالية من انتهاكات الكرامة وحقوق الإنسان، يغيب معها العقوبة والمحاسبة، ويُعزز ذلك منظومة مرتبكة من الفساد وفقدان النزاهة، وتؤكد ذلك تقارير دولية تصدرها منظمات دولية وإقليمية ومحلية ترصد مثل هذه الانتهاكات في جميع دول العالم.
كما يشهد العالم بنظامه الدولي عجزًا وفتورًا وتواطؤًا مع المستبدين ومنتهكي كرامة الإنسان حفظًا لمصالح سياسية براغماتية، لا تحترم الإنسان ولا كرامته ولا حقوقه. وكما أكدت منظمة العفو الدولية في تقريرها الأخيرحول وضع حقوق البشر في المجتمع الدولي، لوحظ أن الحكومات حول العالم يجدون أن الأمر أكثر سهولة لتجاهل قضايا الحقوق الإنسانية على المنبر العالمي. يرجع ذلك جزئياً إلى فشل المجتمع الدولي في التصدي لانتهاكات تلك الحقوق من طرف تلك الحكومات داخل أراضيها.
وقد عملت النظم الاستبدادية على تقويض استقلال الهيئات الرئيسية المعنية بحماية حقوق الإنسان، وضمور فضاء الحرية للمعارضة، بهدف تحقيق سيطرة دون قيود.
ربما يُعد الهجوم الوحشي والمدمّر الذي تعرضت له غزة، ودعم المادي والمعنوي الذي حصلت عليه الكيان الصهيوني من دول عدة حول العالم، مثالاً بارزاً على ذلك. وتضاف إلى ذلك الإجراءات التي اتخذتها بعض الدول ضد أي شخص دافع عن الفلسطينيين في غزة من مواطنيها أو المقيمين على أراضيها. خاصة الإجراءات التي انتهجتها لقمع الحركة الطلابية التي شهدتها عدد من الجامعات في أمريكا وأوروبا، والتي تعارض الانتهاكات الإسرائيلية.
وفي تقرير سابق صادر عن منظمة العفو الدولية، أُدانت حركة حماس وهجوم أكتوبر 2023، لكن عددًا من الدول ترددت في الاستنكار لجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل وتواصل ارتكابها.
ووفقاً لتقرير المنظمة، يُرسل هذا التصرف إشارة تفيد بأن كرامة بعض الأفراد جديرة بالحماية، في حين تعتبر حياة بعضهم أكثر أهمية من حياة آخرين.