رؤية كيسنجر حول مفهوم القيادة

Photo of author

By العربية الآن

“القيادة” كما رآها كيسنجر!

كيسنجر وقع في إشكالية مقارنة بين الإسلام والمسيحية تظهر وجه التناقض في فهمه للإسلام (شترستوك)
وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر (شترستوك)

في مايو/أيار 1953، سأل طالب أميركي (ونستون تشرشل) كيف يمكن للمرء أن يستعد لمواجهة تحديات القيادة؟ فرد تشرشل بإصرار: “ادرس التاريخ. ادرس التاريخ. في التاريخ تكمن كل أسرار فن الحكم”.

يعبر كيسنجر في كتابه (القيادة- ست دراسات في الإستراتيجية العالمية) عن شعوره بعدم وجود قادة حقيقيين في العصر الحديث، متوقعًا مستقبلًا مظلمًا بسبب التغيرات الكثيرة التي يشهدها العالم.

بهذه الكلمات وغيرها، افتتح (هنري كيسنجر) آخر كتاباته قبل “وفاته” في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. عاش كيسنجر أكثر من مئة عام، حيث ترك بصمة واضحة في التاريخ من خلال تأثيره في العديد من الأحداث السياسية الكبرى، خاصة في الصراع العربي الإسرائيلي. جاء إلى نيويورك عام 1938 قادمًا من ألمانيا هربًا من الاضطهاد النازي، وحصل على الجنسية الأميركية عام 1943. خدم في الجيش الأميركي في قسم الاستخبارات خلال الحرب العالمية الثانية، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد وعمل كمدرس لمادة التاريخ وسياسات الحكم لمدة عشرين عامًا.

في كتابه، يعبر كيسنجر عن قلقه من ندر القادة الحقيقيين، مشيرًا إلى ست “استراتيجيات” يعتبرها أساسية لتولي القيادة العالمية. وقد استشهد بعدد من الشخصيات التاريخية، مثل كونراد أديناور وشارل ديغول وريتشارد نيكسون وأنور السادات ومارغريت تاتشر ولي كوان يو، موضحًا كيف لعب هؤلاء القادة أدواراً حاسمة في تشكيل العالم.

واستعرض كيسنجر سمات القادة في كتابه، مشيرًا إلى أن معظمهم جاءوا من خلفيات متوسطة، مثل كونراد أديناور، الذي كان والده ضابطًا في الجيش، أو شارل ديغول الذي كان مدرّسًا.

كما أن لكل منهم جذور دينية، فكان السادات مسلمًا سنيًا، وأديناور وديغول كاثوليكيين، ونيكسون من الكويكر، وتاتشر من الميثوديست. هذا التنوع الديني ساعدهم في تشكيل طريقة تفكيرهم ورؤيتهم السياسية.

بعد استقالة ميركل، لا يزال حزب أديناور هو الداعم الوحيد للاجئين العرب في ألمانيا في ظل تصاعد العنصرية ضدهم.

دور القادة في التاريخ: (كونراد أديناور) وإستراتيجية التواضع

عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، عمل (أديناور) على خلق علاقات متينة مع جيرانه في أوروبا وأميركا، حتى مع الاتحاد السوفياتي آنذاك. أسس حزب (الاتحاد الديمقراطي المسيحي)، الذي أمد ألمانيا بمسار جديد أدى إلى تحقيق رؤيته. وكانت المستشارة السابقة (أنجيلا ميركل) واحدة من ثمار ذلك الحزب.

من المهم ملاحظة أن حزب أديناور ما زال يساند اللاجئين العرب في ألمانيا، لا سيما في ظل تصاعد الأصوات التي تنادي بتفشي العنصرية ضدهم في المجتمع.

## شارل ديغول: “إستراتيجية الإرادة”

بعد خوضه صراعات سياسية داخلية وخارجية خلال الحرب العالمية الثانية، تم اعتبار (شارل ديغول) قائدًا لفرنسا. ساهم في استعادة “روحها السياسية” ورفع مكانة فرنسا في مواجهة هتلر، مما ساعد في الهزيمة النهائية لألمانيا. بالإضافة إلى ذلك، قاد الانسحاب الفرنسي من الجزائر بعد احتلالها منذ عام 1830.

### تعزيز مكانة فرنسا

مع نهاية الستينيات، تولى (ديغول) رئاسة فرنسا لعشر سنوات، حيث عزز مكانتها عالميًا وأعاد بناء مؤسساتها. استطاع استعادة ثقة الفرنسيين بأنفسهم وأزال آثار “نكبة الحرب الجزائرية” بعد أن أدرك أن الاحتفاظ بالجزائر سيكون له عواقب وخيمة.

### تأثير إرث ديغول

يتحدث (كيسنجر) عن إمكانية وصف السياسة الخارجية الفرنسية حتى اليوم بأنها “ديغولية”، حيث تمثل حياة (ديغول) نموذجًا للتغلب على التحديات وصنع التاريخ بالصلاحيات القيادية.

## ريتشارد نيكسون: “إستراتيجية التوازن”

عرف الرئيس الأميركي (ريتشارد نيكسون) بدوره في إنهاء التدخل في فيتنام وفتح العلاقات مع الصين، بالإضافة إلى مفاوضاته مع السوفيات لتقليص التسلح النووي.

### اختبار التوازن

وفقًا لكيسنجر، كان أول اختبار لإستراتيجية نيكسون في أحداث سبتمبر الأسود عام 1970، عندما اختطفت منظمة التحرير الفلسطينية عدة طائرات. في ذلك الوقت، تصرف الملك حسين بحنكة بإغلاق المخيمات وطرد اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان.

## أنور السادات: “إستراتيجية التسامي”

وصف كاتب صهيوني خطوات (السادات) نحو السلام بأنها كانت بداية ثمار اتفاقيات أوسلو والسلام بين إسرائيل والأردن.

### عبقرية السادات

أشاد كيسنجر بعبقرية السادات، حيث أذهل الولايات المتحدة بعد وفاة جمال عبدالناصر، معتقدًا في البداية أنه لن يحقق أي قيمة.

### الحرب والسلام

تحدث كيسنجر عن عنصر المفاجأة الذي استغله السادات في حرب أكتوبر، ثم انتقل نحو مسار السلام بعد مفاوضات شاقة أثمرت عن توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل.

## لي كوان يو: “إستراتيجية التميز”

كان (لي كوان يو) قائدًا استثنائيًا في سنغافورة، التي كانت تعاني الفقر وقتئذٍ. استطاع تحويلها إلى واحدة من أغنى الدول في آسيا.

### إنجازات لي كوان يو

بفضل حكمته السياسية، تمكن (يو) من جعل سنغافورة مركزًا تجاريًا رئيسيًا بأعلى معدلات الرفاهية، مُحققًا إنجازات تاريخية في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة.**تحديات القادة العظماء: من بريطانيا إلى العالم**

بعد انسحاب بريطانيا من مستعمراتها، واجهت تحديات داخلية وخارجية كبيرة، مما جعل من بعض قادتها شخصيات بارزة على الساحة العالمية. ومن بين هؤلاء، كان هنري كيسنجر، الذي أصبح مستشارًا تلجأ إليه الدول الكبرى. وقد وصفته رئيسة الوزراء السابقة، مارغريت تاتشر، بأنه “أبرع من مارس فنّ الحكم والإدارة في القرن العشرين”.

**صعود تاتشر وتأثيرها**

يتحدث كيسنجر عن نجاح تاتشر الباهر في السياسة والاقتصاد، مشيرًا إلى العلاقة الوثيقة بينهما. ويعتبر أنها، ومع قادة آخرين، استطاعت أن ترتقي بأنفسهم عبر استراتيجيات اتبعوها، تضع مصلحة مجتمعاتهم فوق أي اعتبار آخر.

في عام 1956، كانت بريطانيا قد فقدت مكانتها كقوة عظمى بعد الضغوط الاقتصادية، وصفت تاتشر ذلك بقولها إن بلادها “كما لو كانت قد انتُزعت أحشاؤها”. وبحلول أواخر السبعينيات، عانت بريطانيا من أزمة اقتصادية خانقة، مما أتاح الفرصة لتاتشر لتولي رئاسة الوزراء وتحقيق مشروع اقتصادي يعيد للمملكة مكانتها وثقتها.

**دور بريطانيا في النزاعات العالمية**

تحت قيادة تاتشر، أصبحت لندن تتحدث بصوت مسموع بشأن العديد من القضايا العالمية، بما في ذلك التدخل في “غزو الكويت” عام 1990 بعد غزو العراق. يبرز كيسنجر دورها البارز في السياسة العالمية، ويعبر عن اعتقاده بأن توازن القوى والنفوذ قد أحدث تغييرات عميقة على المسرح الدولي.

**تحديات المعاصرة وآفاق المستقبل**

يؤكد كيسنجر أن الانتقال من الحكم التقليدي إلى قيادة من الأكفاء جاء استجابة لظروف اجتماعية واقتصادية معقدة. ومع ذلك، يتوقع كيسنجر أن النظام العالمي الحالي مبني على قواعد ربما تؤول إلى الزوال، خاصة في عصر التكنولوجيا السريعة.

ويشدد على أهمية فهم العواقب الإستراتيجية لهذه التقنيات، محذرًا من أن غياب الرؤية الأخلاقية قد يعقد المصير المستقبلي.

**التاريخ ورجال القيادة**

نحن أمام عصور تتطلب قادة يتمتعون برؤية عميقة وقدرة على التأثير. يتمنى كيسنجر أن يظهر قادة يمكنهم معالجة الأزمات المعاصرة بمسؤولية وأمانة. ورغم ما يمكن أن يحمله المستقبل من مظاهر التحدي، تبقى الأمل في وجود شخصيات تقود الأمة نحو الأفضل.

تظل كلمات كيسنجر مهمة، متمنياً أن يحظى العالم بأشخاص مرهفين قادرين على قيادته بشكل يستحقه، رغم الأزمات والعوائق المتزايدة التي تواجهه.

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.