رجال نقب سلمة.. يوم انتزعوا أحياء في تل أبيب
لم يبقَ الفلسطينيون مندفعين طرفين وساهرون خلف الأحداث تلك، لكنهم انطلقوا بالانتفاضات بشكل مبكر على جزيرة الاحتلال البريطاني في ثورات 1929 و1936م، بالإضافة إلى الإضرابات المتعددة والاحتجاجات المتوالية التي لم تنقطع، وكذلك التصدي المسلح للعصابات الصهيونية الملتحية خلف الاحتلال البريطاني كما سيظهر.
وعقب صدور قرار التقسيم تأسستتم تشكيل لجنة عسكرية استنادًا إلى قرار صادر عن الجامعة العربية لتحرير فلسطين. بينما قام رجال فلسطين بتنظيم أنفسهم لمواجهة الصهاينة وأنصارهم، وظهرت خلال هذه الأحداث العديد من شخصيات فلسطينية مهمة قادت النضال المسلح ضد العصابات الصهيونية كمثل عبد القادر الحسيني والشيخ حسن سلامة، وكلاهما استشهدا في معارك عام 1948.
سلمة تنطلق في المقاومة
سلمة تدعى تيمنًا بالصحابي سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، الذي استشهد قريبًا من هذه القرية. كانت سلمة واحدة من القرى الفلسطينية التي تعرضت لمظاهر العنف من العصابات الصهيونية المسلحة.
كانت البلدة محاطة من الأربع جهات بمستوطنات صهيونية مسلحة؛ فكانت مستوطنات مونتفيوري ورامات غان الواقعة شمالًا مركزًا لتدريب العصابات هاغانا التي ارتكبت العديد من الجرائم ضد الفلسطينيين في تلك الفترة.
وكانت مستوطنة كفار سركن تقع شرقًا من سلمة، ومستوطنة عزرا جنوبًا، ومستوطنة هاتيكفا غربًا، وكانت هاتيكفا واحدة من أخطر المستوطنات على أمن سلمة واستقرارها، إضافةً إلى تل أبيب التي كانت تقع إلى الشمال الغربي من البلدة.
في ظل هذه الإحاطة الصهيونية بسلمة، كان اليهود يهاجمونها بشكل مستمر، وعندما أعلن عن إضراب في 2 ديسمبر/كانون الأول 1947 كانت نفوس أهل سلمة غاضبة من جرائم الصهاينة، وقاموا بمواجهتهم في المنطقة وقتل اثنين منهم، وكانت هذه الأحداث بداية النضال المسلح ضد الصهاينة.
أدرك سكان سلمة أهمية التنظيم في مثل هذه الظروف، فقاموا بتشكيل لجنة دفاع عن بلدتهم، وكانت من بين أعضائها شخصيات بارزة مثل مفلح علي صالح وموسى أبو حاشية. وكانت تمثل العائلات الكبيرة مثل الحاج نجيب أبو نجم عن آل نجم، وعبد الرحيم حماد من آل حماد، وحسن أبو عيد عن الخطاطرة، وموسى محمود سويدان عن الفلاحين، وغيرهم.
نجحت هذه اللجنة في تجنيد 30 من شبابها مزوّدين بـ30 بندقية، وكمية قليلة من الذخيرة، حيث نجحت شخصية فلسطينية بارزة مثل الشيخ حسن سلامة في توفير السلاح والعتاد لهم.
وفي الوقت نفسه، انتشر أعضاء اللجنة وشبابها في القرى المجاورة بحثًا عن المزيد من السلاح والعتاد، وقام أمين السر بإرسال إلى القاهرة لجلب مزيد من الأسلحة، وعاد بـ60 صندوق ذخيرة و30 بندقية من السلاح الإنجليزي والألماني.
وبهذا، اجتمع عدد كبير من البنادق عند لجنة المقاومة في سلمة.ورشاشات وبنادق ألمانية من نوع هوشكش وقذيفة مورتر، وعندما صدرت قرارات التقسيم في تاريخ 29 نوفمبر/تشرين الأول عام 1947م، بدأ أبطال مدينة سلمة الواقعة بالقرب من مدينة يافا في استخدام أسلحتهم وبالقتال الشجاع الذي استمر لمدة تقارب 5 أشهر بواسطة هذا القليل من الأسلحة والدعم المنحوت.
ووفقًا لما ذكره الباحث الحاذق في تاريخ فلسطين في كتابه “كارثة بيت المقدس والجنة المفقودة بين السنوات 1947-1949″، فإنه لم يمر يوم واحد من صدور قرارات التقسيم إلا وواجهت الطرفين بعضهما البعض، وكانت الرصاص تتساقط عليهم كمطر السماء، وثابروا أبناء منطقة سلمة في مواجهة خصومهم، فكانوا كالفولاذ أمامهم، لم يتحركوا من مواقعهم، ولم ينزحوا عن منازلهم؛ كانوا يعدّون الفرار عارًا.
جنود سلمة داخل تل أبيب!
بروزت بطولة المقاومة في سلَمة حين حذروا قادة الجيش البريطاني بعدم السماح لجنودهم بالمرور عبر البلدة في طريقهم إلى مطار اللد وتل لتفنسكي القريب حيث يتواجد معسكر القوات البريطانية، والذي كانوا يعتادون المرور من سلمة ليلاً ونهارًا للوصول إلى المطار والمعسكر.
وقد حذر أهل سلمة البريطانيين بعدم المرور؛ نظرًا لمعرفتهم بأن العصابات الصهيونية كانت تختبىء تحت زي الإنجليز خلال حروب النكبة وكانت تشن هجمات مفاجئة على المقاومة الفلسطينية، وكانت تأمل في الإجتياح من الرجال، إلا أن البريطانيين لم يستجيبوا لطلب سكان سلمة مهما بلغت جرأتهم.
وبعد يومين في 20 ديسمبر/كانون الأول عام 1947م مرت سيارة عسكرية بريطانية، لذا قرر المقاومون مهاجمتها، وأشعلوا النار بها وجرحوا سائقها واستولوا على سلاحه، فقرر قادة المنطقة البريطانيين شن هجوم على سلمة بـ30 دبابة و10 سيارات كبيرة مليئة بالجنود، وحذروا سكان البلدة بإعادة السلاح ودفع مبالغ تعويضية كبيرة لحرق السيارة، ولكن لم يستجيب رجال المقاومة حتى بعد اعتقال العديد منهم، وفي نهاية المطاف قرر البريطانيون إغلاق الطريق في سلمة التي كانت تصل مدينة يافا بمطار اللد.
وقد كان إغلاق هذا الطريق ضربة قوية للمقاومة في البلدة؛ نظرًا لأنها كانت الطريق الوحيدة المفتوحة والمتصلة بالقرى العربية المجاورة مثل اللد والعباسية، وكانت تعتمد عليها للحصول على الدعم والإمدادات، واستغل اليهود هذا التطور حتى شنوا هجومًا على سلمة من جهة مستوطنة هاتكيفا، وكانوا مجهزين بأسلحة رشاشة سريعة، لكن المجاهدين صدهم بشجاعة بالرغم من عدم المساواة في العتاد والعدد.
ومع ذلك، كانت النية من وراء هذا الهجوم من قبل اليهود هي تشتيت انتباه المقاومين؛ حيث تم تجميع عصابات الإرغون وغيرهم في مستوطنة رامات غان القريبة لهجوم على سلمة من الجهة المقابلة للطريق، ولكن قد استعد مقاتلو البلدة لهذه الخدعة الصهيونية وحصنوا صفوفهم، وعندما بدأت قوات الإرغون الهجوم التقدمي، ظهر المقاومون وقاوموهم ثم تفوقوا عليهم بطريقة أدهشت اليهود أنفسهم.
ورفع المقاترون في سلمة شعار الجهوز بعد ذلك، ووسّعوا دفاعهم ليشمل مهاجمة مستوطنة هاتيكفا، وأظهروا قدرتهم على تحقيق النجاح ضد عصابات اليهود المسلحة وطردوهم من موقعهم وأشعلوا النيران فيه، والملفت هو أن النساء في سلمة شاركن في هذا الهجوم وألهبن روح الصمود لدى الرجال.
ومن بين القيم العالية التي برزت في هجوم أهل سلمة ونسائهم على المستوطنة، كان لليهود من الخوف البالغ، حيث فروا وتركوا أبناءهم خلفهم، إلا أن المجاهدين لم يؤذوهم وسلموا الأطفال اليهود 26 طفلًا إلى القوات البريطانية التي أودعتهم في أحد المستشفيات في تل أبيب.
وبعد انكسار قوى اليهود وانتشار خبر فوز المقاتلين في سلمة، جاء الثوار الفلسطينيون من أهالي اللد والعباسية المجاورة لتقديم المساعدة، وبدأ الجميع بالفرار نحو المستوطنات الأخرى المجاورة حتى تمكنوا من الوصول إلى تل أبيب ونشروا الرعب بين سكانها وألقوا النيران في عدة منازل في مستوطنة شابيرو التي تُعد اليوم حيًّا من أحياء تل أبيب.
وأمام هذا الهروب الكبير الذي تعرضت له اليهود، تدخلت القوات البريطانية لإنقاذهم ونجدة تل أبيب، وأصدرت توجيهاتها للمقاومة الفلسطينية من أهالي سلمة واللد والعباسية بمغادرة تل أبيب، وإلا سيتعرضون للقصف الجوي والهجوم العسكري من الجيش البريطاني، واندفع مقاتلو المقاومة إلى التراجع نظرا للفارق الواضح في التسليح والعتاد، وقُتل في تلك المعارك 14 مقاتل فلسطيني وامرأتان، بينما سقط من اليهود 100.
وهكذا وبذريعة فصل العرب عن اليهود تمكن البريطانيون من إنقاذ تل أبيب من السقوط بأيدي المقاومة الفلسطينية بقيادة سكان سلمة، ولو حدث ذلك لتغيرت العديد من توازنات النكبة، خاصة في معارك يافا والمناطق الشمالية الغربية من فلسطين في ذلك الوقت.
نهاية سلمة
ولكن وعلى الرغم من هذا الإسناد البريطاني آنذاك، الذي يشبه دعم الولايات المتحدة الأمريكية الغير محدود لإسرائيل، فإنه لم يمر يوم بدون قتال بين المقاومة في البلدة وبين عصابات الصهاينة، ومن بين أهم المواجهات التي جرت آنذاك كانت التي حدثت في أيام 18 ديسمبر/كانون الأول 1947 والأول والـ28 من فبراير/شباط 1948.
وفي المعركة الأولى سُجلت خسائر كبيرة جانب اليهود، واستشهد شخصان من اللاجين.جهادية المقاومة، حيث تمت استدراج عدد من محاربي العدو الصهيوني إلى مبنى في البلدة الذين فخخه من قبل الثوار، ولدى اقتحام جنود الصهاينة للمبنى قاموا بتفجيره مما أدى إلى سقوطهم جميعًا، وهذه الاستراتيجية التي لا زلنا نراها في قطاع غزة حتى يومنا هذا.
وفي مواجهة في الأول من فبراير/شباط عام 1948 هاجمت الجماعات اليهودية مفاجئة على سلمة باتجاه مستوطنة هاتيكفا، وفي هذه العملية استشهد اثنان من الأبطال العرب.
وفي 28 فبراير/شباط سقط قتلى من الجنود اليهود بلغ عددهم 15 جنديًا، ونجح مقاتلو سلمة في سحب جثث 6 منهم إلى البلدة، واستولوا على 4 مدافع من أنواع مختلفة، وبندقية وأرسل ولغم أرضي ومجموعة من القنابل، واستشهد في هذه المعركة 3 من المجاهدين من سكان سلمة ومن يدعمهم من جيش الإنقاذ العربي الذي شكلته جامعة الدول العربية في ديسمبر/كانون الأول 1947.
ونظرًا لشدة هذه المعارك ونفاد العديد من الأسلحة لجهاد المقاومة، أرسلوا استغاثة إلى رجال الجامعة العربية العليا في القاهرة، التي تم تشكيلها لمساعدة أهالي فلسطين. ولكن وفقًا لما ذكره المؤرخ عارف العارف، كانت الجامعة العربية آنذاك تؤثر عليهم جيش الإنقاذ الناشىء منها، فلم يمنحوهم السلاح ولم يستجيبوا لندائهم، ولم تكن هذه المشكلة محصورة بأهل سلمة فقط، بل تأثرت بها معظم الجبهات الفلسطينية.
ونتيجة لذلك، غضب القائد عبد القادر الحسيني من قيادات جيش الإنقاذ في دمشق والقاهرة، وعاد إلى القدس حيث استشهد كشهيد في معركة القسطل بسبب النقص الفادح في الأسلحة بين الطرفين. وعلى الرغم من هذه الصعوبات، نجح أبطال سلمة في الحصول على 3 مدافع مضادة للمدرعات و10 بنادق و40 صندوق ذخيرة و3 مدافع رشاشة من نوع “برن”، ثم عادوا من جديد لمقاومة اليهود، ومن أجل استمرار المقاومة، باعت نساء القرية حليهن وجل ممتلكاتهن المتنقلة لشراء السلاح.
وفي هذا الوقت، تعرضت سلمة في منتصف شهر أبريل/نيسان عام 1948 لهجوم قوي من اليهود على مدى ثلاثة أيام، أظهر المقاتلون في البلدة شجاعة كبيرة في صد هذا الهجوم الغادر، بل قاموا بقصف مستوطنة هاتيكفا بقذائف الهاون، ولكن نتيجة نفاد الأموال وندرة الدعم والمساعدة، نفدت السلاح والرصاص والذخائر ولم يبق معهم ما يصد الهجمات اليهودية المتتالية.
وفي هذا السياق، تعرضت القرى العربية المجاورة لسلمة لأحداث مريرة، وكانت الضربة القاسية في سقوط مدينة يافا في 25 أبريل/نيسان عام 1948 في أيدي اليهود، وكان لذلك تأثير على معنويات جميع القرى والبلدات العربية القريبة منها، بما في ذلك سلمة. وبمخاوف من المجازر اليهودية التي ارتُكبت في يافا وغيرها، لم يجد سكان سلمة وجهاديوها سوى الانسحاب وترك وطنهم وأراضيهم.
وفي الأيام الأخيرة من شهر أبريل/نيسان عام 1948، غادر سكان سلمة بلدتهم دون العودة، ودخلتها القوات اليهودية بعد عدة أيام خوفًا من المقاومة، ولكن لم يستسلم أبطال سلمة بل شاركوا في المعارك التي وقعت بعد ذلك في العباسية واللد والرملة وفي معركة رأس العين حيث استشهد الشيخ حسن سلامة قائد القطاع الغربي.
وعندما سقط هذا القطاع بأكمله في يد الصهاينة في وقت لاحق، انتشر أبناء سلمة في مدن مثل رام الله ونابلس وقلقيلية وأريحا وغزة وعمّان والزرقاء ومأدبا وإربد، بل وبعضهم حتى اتجه إلى العراق!
وبهذا، تُسطّر بلدة سلمة التي كانت تضم نحو 12 ألف نسمة في نهاية الانتداب البريطاني، إحدى أهم ملاحم المقاومة أثناء حروب النكبة وبعد قرار التقسيم، وكيف نجحوا في الوصول إلى تل أبيب واحتلال إحدى أحيائها قبل أن تضطرهم القوات البريطانية إلى الانسحاب.