سرور الاحتفالات عند المسلمين.. قدّموا “العيديات” ذهباً في الحلويات واحتفلوا بعروض الجيوش والأسود والفيلة وأفرجوا عن السجناء
<
div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>توجد علاقة وثيقة بين الاحتفالات والأديان بشكل عام، وفي الإسلام بشكل خاص تأتي الاحتفالات بعد أو ضمن مواسم طقوس جماعية واجتماعية ذات أهمية كبيرة، لا سيما أن هذه الطقوس تلعب دورًا كبيرًا في تمثيل جوانب من أركان الإسلام الخمسة؛ الصيام كواجب أساسي لتحويل النفوس على المستوى الشخصي، والحج كوسيلة شاملة للتحول على المستوى الاجتماعي!!
والربط بين الاحتفالات وهاتين الركيزتين الكبيرتين يعني تأسيس هدف شرعي هائل يهدف إلى تحقيق تغيير كبير في القيم والأخلاق، بناء على القيم والأخلاق الرفيعة التي تعتني بها تلك الواجبات والشعائر، مما ينعكس على أيام الاحتفال بمعاني السرور والفرح بهذا التحلي الروحي والنفسي المفعم بتلك القيم والمبادئ.
أضافتلك الأهداف الإرشاد النبوي المؤكد لمعاني تميز الطابع العام للمجتمع الإسلامي عن غيره، بما في ذلك في تقاليد الابتهاج والفرح، والتذكير بأن الإسلام جاء -مثل العقائد الكبرى التي تكمن في محيطه- بأعياده الخاصة التي تمزج فيها التقاليد الاجتماعية بمفاهيم العبادة، لينشأ من ذلك تلاق مبهج يمكن تسميته بـ”شعائر البهجة”. كان الإسلام -ولا يزال- يؤكد في علاقته مع بقية العقائد حضور جديّ فيه: الانفصال الحازم في النواحي الدينية والشعائرية، والتعايش الكامل معها في النواحي الاجتماعية والسياسية.
هكذا عُرف المسلمون الاحتفالات، فكانت لديهم أوقاتٌ معيّنة للاحتفال والترفيه الكريم، في أجواء تحفُها الاندماج والتكامل الاجتماعي، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم رائدًا في هذا السلوك السعيد، إذ وجَّه أمته نحو طُرق السرور والابتهاج، وحرص على أن يكون هو وأتباعه أكثر الناس ابتهاجًا بالاحتفالات، حتى كأن المسلمين في أيام الاحتفالات لا يُشغلهم إلا السرور والسعادة. والحقّ أن سبب ذلك هو توازن الحياة الروحية والمادية، الابتهاج والجدّ الذي جسده القيم الإسلامية وركنه العمودي الثقافي والاجتماعي الذي بنيت عليه الحضارة والمجتمع الإسلامي!
ومن المعاني المؤثرة في توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم المرتبطة بالاحتفالات، أنه حرص على أن تكون الاحتفالات منظمة رسميًّا بإشراف من الحكومة، وليست -كما يظن البعض- مجرد مناسبات دينية تُُترك للخطباء في المساجد؛ إذ تشير السُنّة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له يوم الاحتفال كموكب يمشي في شوارع المدينة المشرّفة في ذهابه وعودته من صلاة الاحتفال، وكان يحمل عصاه وهو يقود هذا الموكب البركاتي.
وظلت هذه المواكب الرسمية تتابع في الدول الإسلامية وممالكها عبر التاريخ، حيث كانت السلطات تهتم بجعل الاحتفالات فرصة لعرض القوة والتفوق، وفرص لتسليط الضوء على التقدم السياسي والعمراني الذي حققته إدارات الدولة والقوى الاجتماعية. ولن يفوت قارئ هذا الدرس هذه النقطة الملفتة التي تربط الاحتفالات بمواكب الاستعراض العسكري، والحشود المبتهجة التي تملأ شوارع العالم الإسلامي على مدى القرون.
وبفحص هذه المواكب بعناية، نستنتج الفارق بين الاستعراض العسكري الذي يتخلله أجواء الفرح والمرح وعرض المهارات والفنون الفردية والجماعية، وبين حمل السلاح خارج هذه المعاني الجميلة والضار بالأفراد والمجتمع. ولذلك أورد الإمام البخاري (ت 256 هـ/870 م) -في صحيحه- قوله: “باب ما يُستأنف من حمل السلاح في الاحتفالات والمكان المقدس”؛ لأن الطابع الأساسي للاحتفالات هو السلام والأمان حيث يفرح الناس ويحافظون على أنفسهم وممتلكاتهم كما يفعلون في حرم بيت الله الحرام.
على الرغم من تلك المعاني والغايات الموحدة؛ كانت لكل منطقة -في جغرافيا الحضارة الإسلامية- سماتها الخاصة في احتفالاتها التي تعكس شخصيتها الفريدة، حيث نجد في بعض المدن تقاليد تتعلق بإقامة الولائم الضخمة كما في حفلة الاحتفال بالخليفة العباسي المأمون التي شهدت حضور حوالي 300 نوع من الأطعمة، وفي مناطق أخرى مثل الهند نجد احتفالات الاحتفال بتنظيم مواكب الفيلة المزخرفة بالحرير والذهب، وتُنقل بعض الممارسات من مدينة إلى أخرى كما كشفت رواية الجاحظ (ت 255 هـ/869 م) عن رؤيته لفيلة في بغداد احتفالًا بالعيد! وتأتي هذه المقالة لتحيي مواسم الفرح بالاحتفالات مبينة عنها وتوضحها، وتسلط الضوء على أبرز جوانب تقاليدها في تاريخ المسلمين في شتى حقبهم ومناطقهم!
!
فرحة نبوية
منذ بزوغ الإسلام؛ كانت فرحة الاحتفال تسبقه قبل وقوعه، فيكون ليلة تحري الهلال ليلة من الزوج والبهجة، وكان احتفال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بسيطًا لكنه امتصّ من متع الحياة حصّة كبيرة ليكون اليوم التام في كل شيء بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر الحاكم (ت 405 هـ/1015 م) -في “المستدرك”- أن الحسن بن علي (ت 49 هـ/670 م) قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين بأن نلبس أفخم الملابس، ونتطيب بأطيب العطور، ونضحي بأبزه الأضاحي”!
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم “يتوجه يوم الاحتفال إلى المصلى من الطريق الأعظم، وعندما يعود يعود من الطريق الآخر؛ كما نقل الشافعي (ت 204 هـ/820 م) في كتابه “الأم”، وكان له يوم الاحتفال ما يشبه الموكب؛ حيث أخرج البخاري (ت 256 هـ/870 م) -في صحيحه- أنه صلى الله عليه وسلم كان “عندما يخرج يوم الاحتفال يأخذ بعصاه ويوضع بين يديه ليصلي إليها..، وبعد ذلك تصبح الضباط”.
أورد غير واحد من المؤرخين هذه القصة؛قال الواقدي (رحمه الله) فيما نقله عنه السمهودي في كتاب “وفاء الوفاء” إنه كان لزبير بن العوام – رضي الله عنه – فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يخرج بها بين يديه يوم العيد.
وكان شرف حمل تلك العنزة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبعده خلفاؤه، وكانت تورث في العائلة، كما ذكر ابن كثير في كتاب “البداية والنهاية” عن سعد القرظي الذي كان يحمل الحربة بين يدي أبي بكر وعمر وعلي إلى المصلى في يوم العيد.
وتابع الواقدي بأن هذه الحربة كانت محفوظة لدى الأمراء خلال القرن الأول لدولة العباسيين، حيث كانت تخرج بين أيدي الأئمة في زمانهم.
كان فرح العيد مشتركًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يخرج النساء والفتيات والحائضات في العيدين، وكانت صلاة العيد تسبق الخطبة، وكان مروان بن الحكم أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة.
وكانت العيد في زمن النبوي له جانب من اللهو واللعب، حيث كان السودان يلعبون بالدراق والحراب، وكانت هناك مقامات للتشبه بهذه الأعياد.
وعلى الرغم من عدم ورود نص صريح عن التهنئة بعيد الفطر أو الأضحى عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان ينتقل بين الصحابة والتابعين، كما جاء في كتاب “الدعاء” للطبراني.
ومع تطور مراسم الدولة الإسلامية، أصبحت صلاة العيد وخطبتها تحظى بترتيبات أكبر، وكانت الصلاة تعقد في أماكن محددة، حيث كان موقع مصلى رسول الله في غرب المدينة.
وفي مصر، كان مصلى خولان مشهد الأعياد ومكان خطبتهم في يوم العيد.عُمَرِ بنِ العَاصِ (وفي 43هـ/664م)”، وَفِي دِمَشق وُجِدوا يُصَلُّون في مَيدَانٍ يُلَقَّب بِـ ‘السَّاحَة الخَضْرَاء’، ذكرته ابنُ تَغْرِي بَرْدِي (وَكَانَ وفي 874هـ/1470م) -في كِتَاب ‘النُّجُوم الزَّاهِرَة’- عِندما وَصَفَ صَلاةَ العِيد قَائِلًا: “نَظُروا إلَى الـمِنبَرِ بِـ اَتِّجاه الـمَيدَان الأخضَر”.
وقد يَكُون صَلاةُ العِيد مُخْتَلِفَةً في كُل مَدِينة بِـ مُعْتَقَداتِها الفِقْهِيَّة، كَـما حَدَثَ في مَدِينَةِ سَقْسِين في بِلاد الخُزُر -وَهِي الـمَنْطِقَة الواقِعَة بَين بَحْر قَزُوين وَالْبَحْر الأسْوَد- التِي وُرِدَ عَنها القَزويني (في 632هـ/1235م) -في كِتَاب ‘آثَار البِلاد’- أنَّ “نَسَكَبُها مُسَلِمُون، يُفَضّلُون عَقِيدَةَ الإمَام أَبِي حَنِيفَة (وفي 150هـ/767م)، ويُوجَدُ مِنهُم مَن يَتَبَع عَقِيدَة الإمَام الشَّافِعِيّ. وَفيها جَوَامِعُ لِكُلِّ قَوْمٍ جَامِعٌ يُصَلُّون فيه، وَعَندَ يَوم العِيد تُنصَب مَنابِر، لِكُلِّ قَوْمٍ مِنبَر يَخْطُبون عَلَيه وَيُصَلُّون مَع إمَامِهم”.
وَمِنَ الْمُواقِف الطَّرِيفَة الْمُرْتَبِطَة بِـ صَلَواتِ العِيد مَا وَقَعَ في إحدَاهَا بِـ الْمَغْرِب الأقصَى أَيَّام السُّلْطَان أبي العَبّاس الوَطَاسِي (وُفي حدود 960هـ/1552م)؛ فَقَد ذُكِرَ النَّصِرِي السلَّاوِي (في ‘الاستقصا لأخبار دُوَل الْمَغْرِب الأقصَى’) أنَّ “النَّاس خَرَجُوا يُوم العِيد لِلـصَّلاة فَانْتَظَرُوا السُّلْطَان فَأَبَطَأ عَلَيهم وَلَم يَأْتي حَتَّى وُقُوج وَقْت الصَّلَاة، وَحِينَها أقبَل السُّلْطَان.. فِي أَبّها فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الـمَصْلَى نَظَر الشَّيْخ أبو مالك (= عَبد الواحِد بن أحْمَد الْوَنْشَريسِي وُفي 955هـ/1548م) فَرأي أَنَّ الوَقْت قد فَات، فَرُقّي الـمِنبَرَ وَقال: مَعَشْر الْمُسْلِمِين أَكْبَر اللَّهُ أَجْركم في صَلَاة العِيد فَقَد عَادَت ظُهْرًا! ثُمَّ أمَر الـمُؤَذِّنَ فَأَذَّن وَأقَام الـصَّلَاة، فَتَقَدَمَ الشَّيْخ أبو مالك وَصَلَّى [بـ]ـالنَّاس الظُهر، فَخَجَل السُّلْطَان أَبو العَبّاس وَاعْتَرَف بِخَطِيئَتِه”!!
وَكَانَ مِن الْاِحْتِفَالَات القَدِيمَة -وَالْمُسْتَمِرَّة حَتَّى الآن- كَسوةُ الْكَعْبَة الْمُشَرَّفَة في عِيد الأَضْحَى خَاصَّةً؛ فَقَد قَال الْفَاسِي (وُفي 832هـ/1429م) -فِي ‘شِفاء الْغَرَام’- إنّ “الكَعْبَة تُكْسَى -فِي عَصْرنا هَذا- يُومَ النَّـحْر مِن كُلّ سَنَة، إلا أَن الْكَسْوَة فِي هَذَا اليَوم تُسْدل علَيها مِن أَعْلاها، وَلا تُسْبَل حَتَّى تَصِل إلَى مُنْتَهاها -عَلَى الْعادَة- إلا بَعْد أَيَّام مِن يوم النَّـحْر”. وَيَبْدو أنَّ تِلْك الْعَادَة كَانَت مُخْتَلِفَةً قَلِيلًا عَمّا عُهِد قَبْل ذلك بِـ قُرُون؛ فَقَد قال الفَاسِي مُعقِّبًا: “وَذُكِر اِبْن جُبَيْر [في رِحْلَتِه] ما يقتضي أن الكَعْبَة لا تُكْسَى في يوم النَّـحْر، وَإِنْما تُكْسَى في يوم النَّفَر الثَانِي (= ثَالِث أَيَّام التَّشْريق)”.
وَيَبْدُو اِسْتِذْكَار الأَحْزَان فِي العِيد عَرِيقًا فِي تَارِيخنا؛ فَعَادَة زِيَارَة الْمَقَابِر فِي الْأَعْيَاد مُتَأَصِّلَة الْجُذُور رَغْم عَدَم وُجُود أَصْل شَرْعِيّ لها. وَلَعَلَّ ذلك أَثَارَ حَفِيظَة السُّلْطَة فِي بَعْض الأَزْمَان، إذ رَأَت فِيه تَنْغِيصًا غَيْر مُرْغَوب فِيه لِـ فَرَح الْعِيد؛ فَالْمُقَرِّيزي يُحَدِّثُنا -في ‘الْخُطَط وَالآثَار’- أَنَّه فِي سَنَة 402هـ/1012م أَصْدَرَ الْفَاطِمِيُّون قَرَارًا رَسْمِيًّا بِـ “مُنْع النِّسَاء مِنْ زِيَارَة القُبُور فَلَمْ يُر في الأعياد بِـ الـمقَابِر اِمْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ”. ثُمَّ تَكرَر الأَمْر أَيَّام الْمَمَالِيك، حَيث يَقُولُ الْمُقَرِّيزي -في ‘السُّلُوك’- أَنه فِي 29 رَمَضَان 792هـ/1390م “نودي في الْقَاهِرَة بِـ مُنْع النِّسَاء مِن الخُرُوج يوم العِيد إلَى التُرَب (= الـمقَابِر)”!
تَجَمُّل بِـ الْغَاية
رُبّما أَهَم تَجْهِيزَات الْعِيد هُوَ اِهْتِمَام النَّاس بِـ زِينَتِهم وَنَظَافَة أَبْدَانِهم وَتَجْدِيد ثِيَابِهم بِـ شِرَاء لِبَاس الْعِيد، وَهُوَ أَمْرٌ نَبَوِيٌ -كَمَا سُبِق ذِكره- اِهْتَمَّ الفُقَهَاء بِـ التَّأْكِيد عَلَيه حَتَّى إنهم فَضَّلُوه عَلَى الْغَسْل لِلْجُمُعَة مَعَ أَن صَلاتها فَرْضٌ والعِيد سُنَّة؛ لِأَن “غَسْل العِيد مَأْمُور بِه لِـ إِخْذ الزِينة فَاِسْتَوَى فيه مَن حَضَر العِيد وَمَن لَم يَحْضُر كَاللِبَاس، وَغَسْل الْجُمُعَة مَأْمُور بِه لِقَطَّع الرَّائحَة -لِئلا يُؤْذِي بِها مَن جاوره [بِـ الـمَسْجِد]- فَإِذا لَم يَحْضُر زال مَعْنَاه”؛ حَسب الإمَام المَاوردي (وُفي 450هـ/1058م) فِي ‘الْحاوي الكبير’. وَأَيْضًا لِأَن الشَّرْع “طَلَب.. [فِي العِيد لِبْس] أَعْلَى الثِّيَاب قِيَمَةً وَأَحْسَنِها مَنْظَرًا، وَلَم يَخْصُ التَّزِيَّن فيه بِـ مُرِيد الحُضور [لِلصَّلاة العِيد]”! كَمَا يَقُول الرَّمْلِي الشَّافِعِي (وُفي 1004هـ/1596م) فِي ‘نِهَايَة المُحْتاج’.
وَقَد حَرَص أُعْيَان النَّاس وَعَامَّتهم عَلَى التَّجَمُّل فِي الْأَعْيَاد حَتَّى إن الرِّجَال كَانُوا يَتَزَيَّنُون بالصَّبْغ بالحِنّاء وَالسَّوَاد! وَمِن جَمِيل مَا وَقَعَ مِن ذلك مَا ذُكِره ابنُ عُذَارِي المُرّاكُشِي (وُفي بَعْد 712هـ/1312م) -فِي ‘البَيَان المُغرب’ ضِمْن قِصَة فَتْح مَدِينَة ماردة الأَنْدَلُسِيَّة 94هـ/713م- مَن أَنَّ قَائِد الفَتْح مُوسَى بن نَصِير (وُفي 97هـ/716م) كَانَ حِينها قَد شَابّ، فَجَاءه الرُّوم مَرَّة فَوَجَدُوه أَبْيَض الرَّأس وَاللِّحْيَة، ثُم جَاءوه وَقَد صَبَغَه بالحِناء، ثُم جَاءوه ثَالِثة “وَذَلِك يَوم عيد الفِطْر؛ فَأَلْفُوه قَد سَوَّدَ رَأْسه وَلِحْيَته؛ فَرَجَعُوا إلَى المَدِينَة وَقَالُوا لِمَن فيها: وَيحكم! إِنما تُقَاتَلُون أَنْبِيَاء يَتَشَبَّبُون (= يَصِيرون شُبَّابًا) بَعْد الْمُشَيْب! قَد عَادَ مُلْكُأحيانًا كان يعتاد بعض مجتمعات الغرب الإسلامي أن يستخدم العريس من الرجال حناء للديكور في مناسبة العيد، وذكرت نازلة فقهية من قبل العالم مَيّارة الفاسي في كتابه ‘الإتقان والإحكام‘، حيث ورد أن “العريس أتبع عادة أهله في وضع الحناء على يديه وعندما حل العيد، أرسل للزوجة هدية وكان ملتزمًا بالبناء والإحتفالات ولكن الموت أخذه فجأة”!!
كانت للرجال –سواء كانوا مسلمين أو غيرهم- مظهرهم المُرصع خلال الأعياد، ومن أبرز تفاصيل ملابس العيد للذكور كانت التي وردت في كتاب تاريخي للخطيب البغدادي، حيث تحدث عن رجل مسيحي اسمه أبو قابوس وروى قصة عن إتيانه بثوب خاص طُلب منه أن يرتديه في يوم العيد ولكنه لم يستطع العثور على ملابس مناسبة له فاضطر إلى طلب ذلك من الشخص الذي أهداه الثوب، ووصفه بأبيات شعرية:
أيها الفضول لو شهدنا يوم العيد ** سنرى تباهينا في الكنائس
فلا بد أن أحصل على جدع من لباسكم ** وعلى رباط من خيول الرُباط
فعندما اكتملت الملابس في العيد خمسة ** إنها كفاية لك ولن تحتاج إلى اللبس السادس!
وأما النساء، فكن يُهتمن بصبغ ملابسهن خلال الأعياد أيضًا، وكانت هذه المهمة تُحتفى بها من قبل الطبقات العليا من المجتمع والعلماء والحكماء دون أن يروا في ذلك مشكلة، وذكر ابن عساكر عن حفصة بنت سيرين أخت الإمام محمد بن سيرين، قائلاً: “كانت أم محمد امرأة من الحجاز وكانت تحب الصبغ، وعندما كان محمد يشتري لها ثوبًا كان يختار الأجود.. وكل يوم عيد كان يُصبغ ثيابها”؛ وكان هذا الإمام يُكافِئ أمه بالملابس وصبغها لها في يوم العيد!
نظرًا لتلك التقليدات في التزيين، كان من الضروري أن يكون تألق النساء في العيد أكبر من غيرهن؛ وهكذا يحكي ابن الجوزي في كتابه ‘المنتظم‘ قصة طريفة ومميزة حدثت للفقيه الزاهد حسان بن أبي سنان، إذ كان يوم العيد يتجول في الشوارع ثم عندما عاد، سألته زوجته: “كم امرأة جميلة رأيت اليوم؟” وبعد فترة قال: “لم أنظر إلى أحد سوى إبهامي منذ خروجي حتى عدت إليك”!! وربما لحقت بالاحتفالات بالعيد بعض حالات التحرش بالنساء، وعلى الرغم من أنه يُنظر إليها بشكل كبير كسلوك مرفوض، إلا أن تاريخًا حدثت بسبب واقعة تحرش في عيد قرطبة عندما كانت تحكمها دولة المرابطين؛ فسرد المؤرخ ابن الأثير في كتابه ‘الكامل‘ قِصة تحرش حدثت في يوم الأضحى 514هـ بين جنود أمير المسلمين وسكان قرطبة، وكيف أدت تلك الواقعة إلى حرب شرسة بينهم استمرت طوال النهار، حيث انتهت المعركة بخسارة المسلطة واحتواء الأزمة. هؤلاء السكان قاموا بالثورة ضد حكومتهم وجيشهم نتيجة واقعة تحرش واحدة حدثت في يوم العيد!!
من جانبه، كانت المواكب الرسمية من أهم طُروحات العيد التي كانت توليها الدولة اهتمامًا كبيرًا، حيث تبرز بأفخم الزينة والحلي وتظهر عظمتها وقوتها وتقدير حكامها لعرشهم، وفي تفاصيل تلك المواكب تظهر روعة لا تُصدق. فنقل ابن الجوزي من خلال كتابه ‘المنتظم‘ قصة عن الموكب الزينة في يوم عيد الفطر 553هـ حيث كانت المظاهر مدهشة والخيول والأعلام وعدد الجنود والأمراء الكثيرين كلها تعكس رونقًا لا مثيل له!من بينها جمال الحربة المرتبطة بالنبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، وتشبُه “البردة” أيضًا المُرتبطة به والتي تُورثها بنو العباس.. خلَفًا للأسلاف، [و] كان الخليفة يرتديها في يوم العيد على كتفيه، ويأخذ العصا المُرتبطة به (= النبي) في إحدى يديه، فيخرج متزينًا بالسكينة والكرامة التي تفتح بها القلوب وتذهل بها الأبصار، ويُلبسون اللباس الأسود [وهو علامتهم] في أيام الاجتماع والاحتفالات”.
وكان العيدُ أحيانًا فرصة لتذكير الأمّة بمكانة الخليفة كملكٍ مُتسامٍ على رعيته حتى الكبار من موظفيه وحشدهم، ولم يكن من عادته أن يُجلس أحد بجانبه في يوم العيد؛ حيث ذكر الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام’- أن قاضي الفاطميين عبد العزيز بن محمد بن النعمان (ت 401هـ/1011م) “ارتفعت مرتبته عند [خليفتهم] الحاكم (ت 411هـ/1021م) حتى صعده معه على المُنبر في يوم العيد”.
ومن العجب أن عدم وجود جلوس لأحد بجانب الحاكم الأعلى أو سيره إلى جنبه في الموكب كان أمرًا يُستغرب من طرف المؤرخين؛ يقول ابن تَغْرِي بَرْدِي: “وفي عام (= 289هـ/902م) صلى الخليفة المكتفي (ت 295هـ/907م) بالناس يوم عيد النحر، وكان بين يديه ألوية الملوك، ونزل الملوك والأمراء بجواره خاصة وباستثناء وزيرُه القاسم بن عُبيد الله (ت 291هـ/904م) حيث ركب ورافقه من دون الناس؛ ولم يرَ قبل ذلك خليفةٌ رافقه وزير آخر”! ثم يضيف ابن تغري بردي بعد ذلك قائلًا: “وقع هذا الأمر الغريب وهذا أكبر تحدٍ للخلفاء! وأقول: المعتضد (ت 289هـ/902م) هو آخر الخلفاء الذي احتفظ بثوابت الخلافة، وبعده انتقلت سلطة الخلفاء باتجاه التداول حتى اليوم”!!
رغم أن الصحابة الكرام كرهوا حمل السلاح في العيد -إلا في حال كانت الحربة النبوية مشمولة- حتى اعتبر الإمام البخاري في صحيحه بقوله: “فصلٌ يُنصح به بعد الحمل السلاح في العيد والحُرمات”؛ فقد انتشر -منذ زمن الأمويين- تقليدُ تنظيم العروض العسكرية. ثم لم يتوانى خلفاؤهم في جعل حمل السلاح من تقاليد العيد؛ إذ ذكر المؤرخ ابن الأثير أن الخليفة يزيد بن الوليد (ت 126هـ/744م) كان “أول من خرج بالسلاح يوم العيد، خرج بين صفوف من العساكر”! ثم تحول هذا الأمر إلى عادة اعتاد عليها الخلفاء والملوك حتى من أعداء بني أمية كالعباسيين والفاطميين.
فهذا إبراهيم بن محمد البيهقي الكاتب (ت نحو 320هـ/933م) يخبرنا -في ‘المحاسن والمساوئ’- عن عرض عسكري هائل نظمه الخليفة المعتصم (ت 227هـ/843م)؛ حيث يقول: “حل يوم العيد وجهَّز المعتصم بالله جيوشه بشكلٍ فريد لم يسمع باسم مماثل، وأمر بتمهيد الطريق من قصره إلى المصلى، ثم قسّم ذلك على القواد وأعطى كل واحد منهم مركزه (= موقعه بالصف)، وقبل وقت الفطر انضم القواد ورفقاؤهم بزيّهم الأنيق وهيئتهم الرائعة وثبّتوا مراكزهم منذ وقت الظهر حتى صعد المعتصم بالله إلى المصلى..، واستقرّ في موضعه وجلس على كرسي ينتظر مرور القواد، وبعد انتهاء مهمتهم تقدم إلى الرجال في المسيرة واقترب منهم، وأظهر بينهم سبعة آلاف مقل (= جندي) من الموالي كل ثلاثمائة منهم في زي مختلف عن باقي الحضور”!!
ويذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم’- حدثًا مشابهًا وقع عام 549هـ/1155م؛ حيث يقول إنّ “جموع الجند خرجوا في عيد الفطر بزيّ لم يُشاهد لأجله من قبل بسبب تجمّع القوّاد وتزايد الأمراء”!! بل وأصبحت مواكب الجيش ذاتَ مرامٍ عالٍ، حيث كان يُعاقب كل من كان سببًا في تدنيسها بالإعدام! ذكر الذهبي في ‘تاريخ الإسلام’ خلال أحداث سنة 528هـ/1134م: “ثمّ خَلَع الخليفة (= المسترشد بالله ت 529هـ/1135م) أمام الأمراء (= منحاهم أثواب العيد)، وعرض الجيش في يوم العيد، ونادى: لا يجوز مرافقة الجيش لأحد، ومَن ركب بَغْلًا أو حمارًا دُنِيَ قتله”!!
عروض متنوعة
من بين أجمل المشاهد لتقاليد العيد في المجتمعات الإسلامية تلك التي سجّلها بدِقّة المسافر ابن بطوطة (ت 779هـ/1378م) في مختلف أقطار الإسلام وضمّها في رحلته الشهيرة. ومنها مشهد العيد في إحدى سلاطين بلاد الروم [تركيا اليوم]؛ حيث يروي “كُنّا في عيد الفطر (733هـ/1333م) بهذه البلدة فخرجنا إلى المصلى، وخرج السلطان (يَنَنْج بك ت بعد 338هـ/1337م) مع جيوشه والفتيان الأخِية كلّهم حاملين الأسلحة، وبالنسبة لأهل كلِّ حرفة كانوا يحملون الأعلام والأبواق والطبول والحنادق، وبعضهم كان يتباهى بالآخر في جمال الهيئة وكمال الشِّكة، وخرج أصحاب كل حرفة معهم الأبقار والخراف وأكياس الخبز، وكانوا يُذبحون الحيوانات في المقابر ويتصدقون بها بالخبز، وكان خروجهم الأول إلى المقابر ومنها إلى المصلى. وبعد أداء صلاة العيد دخلنا مع السلطانعاد الى منزله، واعد الطعام وجهزه للفقهاء والمشايخ والفتيان سماطاً منفصلة، كما وجهز سماطاً منفصلاً للفقراء والمساكين، ولم يرفض يومها اي فقير او غني على بابه!
من ابرز ما شاهد في مواكب الملوك هو جلب الحيوانات البرية والأسود وغيرها لعرضها امام الموكب؛ فذكر الجاحظ -في ‘الحيوان‘- عن مشاهداته في احد الأعياد: “خرجتُ يوم عيد ووجدت نفسي في منطقة ببغداد تحوي تل مُزيّن بقُطوع ورجال جالسين عليها واحدهم يحملون اسلحتهم، فاستفسرت عن سبب الوجود الكثيف للحراس في تلك المنطقة فأخبرني احد الحاضرين بأن هذا الفيل”!
سجّل المقريزيّ في ‘اتّعاظ الحنفا‘ مشاهد عيد سنة 395هـ/1004م حيث ذكر ان “الخليفة ركب في يوم عيد الفطر..، حيث وضعوا ستة افراس مُجهّزة بالجوهر وست فيلة وخمس زرافات امامه، وأدى الناس صلاة العيد واستمعوا إلى خطبته”!
أما بالنسبة للزينة في العيد، فكانوا يقومون بصنع الخيام والقباب، التي كانت تشكل مكانا للاحتفال وتقديم الطعام والشراب والترفيه، وقد وصف الامام ابن الجوزي بتفصيل خيمة الخليفة في عيد الأضحى؛ حيث قال انه في “يوم النحر أمر امير المؤمنين بنصب خيمة كبيرة وخيمة اخرى امامه..، وكانت في صدر الخيمة منبر عالي، حضر خواص الخليفة ووزيره والنقباء وأرباب المناصب والأشراف والهاشميون والطالبيون ووجوه عديدة، وقدم الخليفة وولده وصلوا مع الناس صلاة العيد، وكان المكبِّرون خطباء الجوامع”.
موائد وعوائد
ربما كانت اطيب الطعام والشراب اكثر ما يسعد الناس في العيد، ولذلك كانت تحظى باهتمام واحترام وتقدير كبير؛ فذكر السيوطي -في ‘تاريخ الخلفاء‘- عن جلساء المأمون وصفا مدهشا لتنوع المأكولات على مائدته ومعرفته بفوائدها، حيث قال: “تناولنا الطعام مع المأمون في يوم العيد وجهز على مائدته اكثر من ثلاثمئة نوع من الطعام، وكان ينظر المأمون الى كل نوع يضعه على المائدة، ويعلق عليه بتعليقات”
هذا مفيد لكذا، ضار لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم فينبغي عليه تجنب هذا، ومن كان منكم صاحب صفراء فينبغي عليه تناول من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فينبغي عليه عدم التعرض لهذا”!!
أما الفاطميون كانوا مهتمين بالحلويات والمرطبات كما يقولنا المقريزي بتوضيحه لنا حفل عيد في قصر الخليفة الفاطمي الأمر (ت 524هـ/1130م)؛ حيث قال: “عندما طلع الصباح كان هناك من القصر في الليل صحونٌ عميقة تضم عدة موائد للإفطار في يوم العيد، وتم تزيينها برسم فطر الخليفة صحون من الذهب…، وعندما حل وقت فجر عيد الفطر، جُلب إلى الخليفة ما أحضره من قصوره من ذهب مرصع -وعليها المناديل المذهبة- من التمور المحشوة والحلويات بأنواع العطر وغيرها”.
وكانت موائدهم -بخاصة في الأعياد- مليئة بأصناف الطعام والحلويات، كما يُذكر لنا ابن تغري بردي وصف مائدة الخليفة الفاطمي العزيز؛ حيث في أحد الأعياد “أُعد إلى فسقية (= حوض ماء فيه نافورة) كانت في وسط الإيوان سماط (= مائدة طويلة) طولها عشرون ذراعا، عليها من الخُشْكَنان (= خبزة محشوة)، والبِسْتَنْدُود (= فطائر محشوة)، والبَزْماوَرْد (= حلوى عجين بالسكر) مثل الجبل العالي! وفي كلّ واحدة منها ربع قنطار أو أقل إلى رُطُل؛ يدخل الناس ليأكلوا منها دون منع أو تقييد، بل يتباعدون حولها ويأخذون إلى دورهم”. ومن ثم ذكر أن العزيز “كان أوّل من رتب هذا في عيد الفطر بالخصوص”.
وفيما بعد يتفاوت في الوصف قائلاً: “أما سماط الطعام في يوم عيد الفطر كان هناك اثنتان.. وفي يوم عيد الأضحى مرة واحدة، وكانت تعد في الليل، طولها ثلاثمئة ذراع في عرض سبع ذراعات، وعليها مختلف أنواع الطعام بكثرة؛ فيؤمنها الوزير في أول صلاة الفجر ويجلس الخليفة في الشباك، يقدم الناس ليأكلوا ولا يتم منعهم، بل يتناوبون عليها ويأخذون ما لا يتناولونه، ويبيعونه ويدخرونه، وذلك قبل صلاة العيد. عند انتهاء صلاة العيد يُطرح السماط الأول والمقدم كما جرى ذكره، ويتناول، ثم يُطرح سماط آخر من الفضة يسمى المدورة، عليها أطباق من الفضة والذهب والخزف، وتحتوي على من الأطعمة الفاخرة ما لا يعد مهماً عن ذكره.
والسماط بطول القاعة؛ وهو خشب مطلي.. عرضه عشر ذراع. ويُوضع في منتصف السماط واحد وعشرون طبقا في كلّ طبق واحد وعشرون خروفا؛ ومن الدجاج ثلاثمئة وخمسة وخمسون طائرا، ومن الدجاج مثلها، ومن فراخ الحمام مثلها. وتتنوع الحلوى أنواعا؛ ثم تُوضع في جوانب السماط أصحن خزفية في كلّ صحن تسعة دجاجات وفي ألوان متعددة من الحلوى، والكباب المتبل بالمسك الكثير. واجمالي أصحن الخمس مئة، مرتبة بشكل مثالي. ثم تأتي سيارتين من الحلوى تم تحضيرها في ‘دار الفطرة’، كل منها يزن سبعة عشر قنطار 650 كجم تقريبا..، ثم يغادر الوزير ويعود إلى داره؛ ويتم إعداد سماط مشابه لسماط الخليفة. وهكذا يحدث في عيد الأضحى في اليوم الأول منه”!
ترابط اجتماعي
وكان غير الملوك والوزراء والأمراء يقيمون ولائمهم ويُزادون أسطُتهم في الأعياد؛ فقد تذكر مثال عن بعض أعيان الفقهاء والعلماء وغيرهم كما يروي لنا ابن عساكر -في ‘تاريخ دمشق’- نقلاً عن الإمام عبد الله بن عون المزني (ت 151هـ/767م) قوله: “لم نحضر محمدا (= ابن سيرين) في يوم عيد يوماً إلا وتناولنا خبيصاً أو فالوذجاً”، وكانت هاتان الحلويتان من الأشهر والأطيب في تلك الحقبة.
ويحكي ابن بشقوال (ت 578هـ/1183م) -في ‘الصلة’- أن الإمام هشام بن سليمان القيسي (ت 420هـ/1030م) كان “يعد في عيد الفطر طعاماً كثيراً لسكان الحصن (= حصن الفهميين قرب طليطلة) ولكل من حضر من المرابطين وينفق على ذلك كثيراً، وكان يحرس الثغور بنفسه”! وروى ابن وهاس الزَّبيدي (ت 812هـ/1410م) -في ‘العقود اللؤلؤية’- أن “الفقيه عبد الرحمن (الشهابي ت 649هـ/1251م).. كبير الفقهاء، وكان أهل الفهمية لا يخرجون من مصلى العيد يوم العيد إلا إلى منزله، يدخلون إلى سماط صنعه لهم”.
وكان الأغنياء يزورون جيرانهم في الأعياد -حتى بصدقات سرية- لكي يشاركوا في فرحتهم ويشتركوا في خيراتها وسعادتها؛ ومن بين ذلك ما ذكره ابن شاهين الملطي (ت 920هـ/1515م) -في ‘نيل الأمل’- بأنه رأى “في عيد الأضحى 825هـ/1423م وقعت حادثة نادرة، وهي أن رجلاً لديه عائلة وأولاد وهو من الفقراء..، عندما حل العيد وتم ذبح الأضاحي وتقديم اللحوم المشوية اشتهت أنفسهم لتذوق شيء من ذلك المأكول، وطلب الأطفال من هذا الفقير جزءاً من ذلك ولكن لم يكن لديه ما يقدمه..، فبدأوا يبكون وتفطر نفسه من هذه المعاناة”.الظلام يسود ويشعر بالأسى، وفجأة يسمع حركة مستمرة طوال الليل يستمع إليها مع الأم للأطفال..، وفي الصباح وجدوا كمية كبيرة من اللحم داخل منزلهم. كانت الجياد تقوده طوال الليل دون معرفة مصدرها! ففرحوا بذلك واحتفلوا، بل أخذوا شيئًا منه بعز وفرح”!!
يدل سلوك الإمام ابن سيرين المذكور وتحضيره للحلويات في كل عيد على أن تحضيرها في المناسبات الاحتفالية عُرف منذ زمن بعيد، مثل تحضير الفسيخ في الأعياد. كانوا يسمونه السمك المملح. فسبط ابن الجوزي أفاد في ‘مرآة الزمان‘ بتناوله الفسيخ في عيد الفطر، ووصف تناول الشيخ عبد الله الأرمني الزاهد (ت 631هـ/1244م): “كنت جالسًا معه [بالقدس]، ويوم عيد الفطر تذوقت سمكًا مملحًا وانطلقت للجلوس معه لنتحدث”.
كانت عادتهم احتفالًا بالأعياد لإقامة المناسبات السعيدة كتسليم العهد وتنصيب الحكام وحفل الختان؛ فالمقريزي يخبرنا -في ‘اتعاظ الحنفا‘- بأن الخليفة الفاطمي المعز (ت 365هـ/975م) “كانت موتته مخفية [في ربيع الأول] حتى عيد الأضحى، وأعلنت وفاته في ذلك اليوم. ملك ابنه العزيز بالمظلة، وألقى خطابه بنفسه وتسلم التهاني بالخلافة وذهب إلى قصره”. وهكذا جعل العزيز العيد فرصة لإعلان توليه الخليفة!
أساليب رقيقة
ربما جذور هدايا العيد تعود إلى ما كان يهديه الملوك من “الخِلَعَ” أي الملابس الفاخرة للأمراء والشخصيات المهمة. ويوجد في التاريخ الإسلامي أمثلة لهدايا نقدية، تعطى في العيد لتحقيق البركة، للفقير كصدقة، وللعلماء والأدباء كشكر وتكريم. فمثلًا ذكر ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- أن الخليفة المستنصر بعث “في يوم العيد صدقات وهدايا كثيرة للعلماء والصوفية وأئمة المساجد، بوساطة محيي الدين ابن الجوزي”.
والفاطميون كانوا يمارسون هذه العادة التي يطلقون عليها اليوم اسم “العيديّة”؛ فذكر المقريزي في كتاب ‘اتعاظ الحنفا‘ إن الخليفة الفاطمي… “جعل للشيخ أبو جعفر يوسف ابن أحمد بن حسديه قسطا من الراتب وحلة شتوية وعيدية”. ويبدو أن الملوك كانوا أيضًا يتلقون “عيديّات” أي هدايا في الأعياد تُقدم من قبل قاصريهم؛ فكما جاء في كتاب الذهبي -‘تاريخ الإسلام‘- أنه “في يوم العيد (=Eid ALfitr 772هـ/1370م) ختن خضر ابن السلطان وأطفال الأمراء”.
أما طريقة تقديم العيديّات فكانت بإعطاء الضيوف هدايا من غير علمهم وبطريقة لطيفة، مثل ملء الكعك بدنانير ذهبية بدلا من السكر، أو تزيين الحلوى بفستق ذهبي! ذكر المقريزي في ‘اتعاظ الحنفا‘ حكاية عن ضيافة غريبة لقاضي ابن مُيَسَّر: “قام بإخراج الفستق المغطى بالحلوى، فعلى ما يبدو علم أن الوزير أبو بكر.. المادرائي كان يخترع الكعك وتتم حشوه بدنانير.. فقرر القاضي ابن مُيسر أن يقلد أبو بكر في ذلك؛ وقدم صحنًا مليئًا بالفستق الملبس بالحلوى، وكان الفستق مصنوعًا من الذهب، وفرح الجلساء بهذه اللفتة”!
كان من المعتاد تقديم الكعك والحلوى والمكسرات والفواكه المجففة في العيد، وكان كل شخص يستطيع تقديم ما بوسعه وحسب شجاعته؛ فخالد بن يزيد المرّي يشير في كتاب ‘تاريخ دمشق‘ إلى مشهد رآه: “رأيت مكحولًا يوزّع الزبيب على أصدقائه يوم العيد”.
كان من طقوس العديد من الملوك والأمراء في العيد الخروج للصيد؛ ومن
هذه هي المعلومات التي ذُكرت by ابن تغري بردي من أن الأمير الطولوني “خُمارَوَيْه (ت 282هـ/896م) كان يحمل في يوم العيد سيفًا بحمائل، ويستمتع بالتجوال والخروج إلى الأماكن.. كالأهرام ومدينة العقاب.. من أجل الصيد لأنه كان مهووسًا به، وكان يتوجه إلى بحيرات الأسود ويلتقطونها بأيديهم بدون خوف، ويدخلونها إلى قفص خشبي من الصنع الحرفي! ثم قارن المؤلف بين عادات العيد في الزمانين قائلاً: “إن أعيادنا الآن تشبه المآتم بالنسبة لتلك الأعياد السابقة”!!
مسابقات وألعاب
جذور الألعاب في يوم العيد تعود إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة قد تحدثت من قبل عن لعب السودانيين بالأسلحة يوم العيد، ثم تطورت الأمور بشكل كبير. وكان من بين أشهر ألعابهم في العيد لعبة: “رمْيُ القبق” التي ذكرها ابن واصل الحموي (ت 697هـ/1298م) -في ‘مفرج الكروب‘- أن السلطان نور الدين زنكي كان يشتاق لها. القبق بالتركية تُحدث عن لعبة القَرْع، وشرحها المقريزي -في ‘الخطط والآثار‘- بقوله: “القبق هي خشبة عالية يتم تثبيتها في الأرض، ويتم تشغيلها بجعل دائرة من الخشب [التي تشبه القرعة] على أعلاها، ويقف الرماة على مسافتها ويقذفون السهام داخل الدائرة لتمر من خلالها إلى هدف ما، كتدريب على دقة الرماية، ويُعبر عن ذلك بالقبق باللغة التركية”.
و بالنسبة للفرسان والجنود، كانت لهم ألعابهم الحربية خلال العيد، أما الأطفال فكانت لهم ألعابهم الخاصة خلال العيد، ومن تلك الألعاب كانوا يلعبون بالجوز؛ فذكر ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- من أخبار الزاهد السَّرِي السقطي (ت 253هـ/867م)، أنه شهد صغيرًا يلعب بالجوز يوم العيد، وعندما سأل عن حاله قيل له إنه يعاني من اليتم ولا يملك شيئًا ليشتري به جوزًا ليلعب به”، فاشترى له السري جوزًا وفرحه!
لقد تمّ ذكر تفاصيل عن الجاريتين الأنصاريتين وغناؤهما لعائشة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، وقد جعل ذلك التابعين يعتقدون أن الغناء وضرب الدف في العيد من السُّنَّة؛ فذكر الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن الإمام الكبير عامر الشَّعبي (ت 106هـ/725م)، قال: “مَرَّ الصحابي عِيَاضُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَرِيُّ (ت نحو 80هـ/699م) في يَوْم
عيد وقال: ما لي لا أَرَاهُمْ يُقَلِّسُونَ فَإِنَّهُ مِنَ السُّنَّة؟! وقال الإمام هُشَيْمٌ (ت 183هـ/799م): التَّقْلِيسُ: الضَّرْب بِالدُّفِّ”.
وتوسع الخلفاء في الغناء وأشكاله، وأحيوا ليالي العيد بالطرب؛ ومن ذلك ما ذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- من قصة هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) ومغنيه الأثير إبراهيم الموصلي (ت 188هـ/804م)؛ فقيل: “أتى إبراهيم الموصلي يوم العيد عند الرشيد وأداء فأبهره، فقال: يا إبْرَاهِيم، استفسر ما تريد…”! ومكّنه الرشيد من طلبه وشرّفه.
و من طقوس الاحتفال بالعيد كان اعتباره مناسبة ثقافية يُكافأُ فيها الشعراء بفضل القصائد التي يُلقونها أمام الحكام، حيث كان بعض الملوك يهتم بتكريم الشعراء والاستماع إليهم في المناسبات الاحتفالية خاصة؛ فذكر الشاعر والمؤرخ اليمني عمارة (ت 569هـ/1174م) -في ‘تاريخ اليمن‘- أن سلطان اليمن محمّد بن سبأ (ت 548هـ/1153م) كرم 30 شاعرا في يوم العيد!!
جوائز قيمة
في حفلات تهنئة عيد الفطر أو الأضحى مثلما طرق الناصري في ‘الاستقصا‘؛ قال: “أعد الشعراء قصائد ليقدموها في يوم عيد الفطر أمام السلطان، وكان أول من قدم ذلك الشاعر أبو فارس عبد العزيز الملزوزي (ت 697هـ/1298م)..، قدم قصيدة طويلة..، وذكر فيها قصة السلطان وحروبه، وحروب بنيه وحفدته..، وكانت القصيدة محاطة بالسلطان وأعوانه، فأمر بمكافأة من قام بكتابتها بألف دينار (= اليوم 170 ألف دولار أميركي”.
ومن المُلاحظ أنّ للسَيّدات الشاعرات حُضورًا في هذه الفعاليات الأدبية والتَنافسات الشِعرية؛ فالقاضي المُنُخِي يُخبِرنا -في ‘إِشْتِراك المُحاضرة‘- قائلًا: “تَواجَدت بِبَغداد في مَجلِس المَلِك عُضد الدَوْلَة (البُوَيْهي 372هـ/983م) في يَوم عِيد الفِطْر سَنَة سَبْع وستّين وثَلاث مِئة والشُعَراء يُنَشِدُونه التَهانِي، فحضرت عابدة الجُهَنِيّة.. فأنشَدَت قَصيدةً لَم أُجزِئ مِنها بِشيءً”!
وقَد كان لعادة الإِطْلاأَعلى السُجَناء في الأَعْياد جِذورٌ مَمْتَدَّة في تاريخنا؛ فسُبْط ابن الجَوْزِي يُقول إِنّه “في شَهْر رَجَب وشُعبان ورَمَضان (402هـ/1012م) أَصْدَل [الوَزِير البُوَيْهي] فَخْر المَلِك (ت 407هـ/1017م) المُصَدَقات..، وَفَرَّقَ الثِيَابَ والحَنْطةَ والتَمْرَ والدراهِمَ والدُنَايرَ يَوم العيد في الفُقَراء والمَسَاكِين، ورُكِبَ إلى الصَلاة في الجَوَامِع، وأَعْطى الخُطَباء والمُؤَذّنِين الثِيَاب والدُنَاير، وأَطْلَق [أَصْحَاب] الحُبُوس، ومَن كان مُحَبُوسًا في حُبْس القاضي على دينار وعَشَرة دنَانير قَضَاها عنه، ومَن كان عَلَيه أكثر أَقام الكَفِيل وخَرَج، فأَطْلَق مَن كان في حُبس المُعوَنَة مُمَّن صَغُرَت جَنائِتُه وحَسُنَت تَوبتُه؛ فكثُر الدُّعاءُ له في الجَوَامِع والمَساجِد والأسواق”.
وَلَم تكن إطلاقات العِيد حُصْرًا على الغارِمين وَأَقْسَامَهُم، بَل كانت تَشْمِل السُجَناء السِيَاسيِّين والمُتَمَرّين السَابِقين أَحْيانًا؛ فابن تُغْري بردي يَذكُر أنّه “في يَوم عيد الفِطْر سَنة [764هـ/1363م] رَسَمَ (= أَمَر) السلْطان (الأشرَف شَعْبان ت 778هـ/1377م) بالإطْلاق عَمّن بَقِي في الإِسْكَنْدَريّة مِن أَصْحَاب [القَائِد المُتَمَرّد] طيِبغا الطُويل (ت 770هـ/1371م)، فأَفْرِجَ عَن هُم وحَضَروا فأَخْرَجُوا إلى الشَام مُتَفَرّقين بَطّالِين”!
وإِذا كان بَعضُ السُجَناء حَظِي بإطْلاقٍ بادَرَتْ إِلَيه الحُكُومة، فإِنّ بَعضًا مِن ضَنّ سُجَانُهُم بإِطْلاقهم بادَرُوا فَانْتَزَعُوا حُرّيّتهُم بِأَنفُسهُم مُسْتَفِيدِين مِن أَجواء العِيد؛ فقد وَثّق الذَهَبِيّ -في ‘تاريخ الإِسْلام‘- قِصَة هَرَب “مُحَمَد بن القاسم بن عَليّ بن عُمَر بن زَين العابدين عَليّ بن الحُسَين” (ت بَعد 219هـ/834م) الذي كان أحَد الثَائِرين عَلى العَبّاسيين؛ فقال: “وقُبِضَ عَلَيْهِ وأُتِيَ بِهِ إلى [الخَلِيفَة] المُعْتَصِم في شَهْر رَبيع الآخَر مِن السَنَة، سَنة تِسعَ عَشرَة [ومئتَين] فحُبِس بِسامَرَاء، ثُمّ إِنّه هَرَب مِن حُبْسه يَوم العِيد، وَسَتَر اللَّه عَلَيْهِ وأضمَرته البُلاد”!
ومن عَجِيب ما شَمُلْته إِطلاقات العِيد الإِطْلاأَعلى الجُثامين المُحتَجِزَة؛ فقد ذكَر ابن كَثِير -في ‘البَداية والنِهاية‘- ضَمن أَحَدَاث 237هـ/852م أَنّه “في عيد الفِطر مِنها أَمَر [الخَلِيفة] المُتَّوَكَل (ت 247هـ/861م) بِإِنْزال جُثّة [الثائِر المُصَلّوب الإِمام] أَحمَد بن نَصَر الخَزاعي (ت 231هـ/846م)، والجَمعِ بَين رَأْسه وجِسده وأَن يَسْلم إلى أُولِيائه، ففرِح النَّاس بِذلِك فَرَحًا شَديدًا، وَاجْتَمَع في جُنازته خَلْق كَثير جِدا”!!