سعيد بن جبير الماهر في لعبة الشطرنج وبراعته في رياضة الكرة يفتحان الباب أمام صلاح الدين الأيوبي لتحقيق السلطة… الألعاب الرياضية في تاريخ المسلمين

By العربية الآن



سعيد بن جبير الماهر في لعبة الشطرنج وبراعته في رياضة الكرة يفتحان الباب أمام صلاح الدين الأيوبي لتحقيق السلطة… الألعاب الرياضية في تاريخ المسلمين

التاريخ الإسلامي - تراث - الألعاب التراثية 1
“سمعتُ الشافعيَّ يقول: لَعِبَ سعيد بن جُبير (ت 95هـ/714م) بالشطرنج من وراء ظهره فيقول: «بأيش دفع كذا؟» قال: بكذا، قال: «ادفع بكذا»..!! أخبرنا الشافعي (ت 204هـ/819م) قال: كان محمد بن سيرين (ت 110هـ/729م) وهشام بن عُروة (بن الزبير المتوفى 146هـ/763م) يلعبان بالشطرنج اسْتِدْباراً..، وروينا عن الشَّعْبي (ت 106هـ/725م) أنه كان يلعب به”!!

هذه الرواية نقلها بسنده الإمامُ المحدِّث البَيْهَقي (ت 458هـ/1067م) -في كتابه ‘معرفة السُّنن والآثار‘- وأبطالُها طبقة من أكابر أئمة التابعين، ومعظمُ المأثور عنهم في الذاكرة التاريخية أنهم من أهل الفتاوي والاجتهادات الشرعية والمواجهات الجادة مع السلطة السياسية؛ لكن أن تُنقَل عنهم تلك المهارات الرياضية حتى يُصبح أحدهم مضرب الأمثال في الذهنية العالية، ويكون النَّقَلة والراصدون لمسالكهم في مهارات اللعب أئمةً كبارا، فهذا أمر يستحق التوقف ويدعو إلى التأمل ويُغري بالاعتبار!

والحقيقة أن من يعرف ابن جبير الفقيه الثوري والسياسي المتمرد سيفهم سرَّ إعجابه وإتقانه لرياضة القتال الذهني (الشطرنج)، ومن يدرس تاريخ الألعاب الرياضية الإسلامية سيعرف أنها كانتترتبط -بشكل كبير- بالنشاط العسكري والاستعداد للحروب.

وهكذا كتب الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) في سيرة السلطان نور الدين زنكي (ت 569هـ/1173م) على سبيل المثال أنه “كان يصوم كثيراً ولديه ممارسات دينية ليلية ونهارية، وكان يلعب كثيراً بالكرة”؛ إذ كان هذا السلطان الشّهيد يعتقد أن الألعاب الرياضية لها علاقة وثيقة بالنشاط السياسي والتخطيط العسكري، ويعزز مهارات القتال والسرعة لدى الخيول المدرّبة للجهاد!!

كان النبي ﷺ من أعظم المصارعين، وكانت ساحة المسجد النبوي تُجهز في المناسبات الاحتفالية لأنشطة موجهة نحو الهدف، وكان ﷺ يُشجع على الأنشطة الرياضية ويدعم الفرق المتنافسة، ويحث المتنافسين على التصرف بـ”روح رياضية”، بالإضافة إلى تجسيد ذلك عبر قبول الهزائم بروح رياضية؛ فقد كانت إحدى نياقاته تشارك في سباقات الإبل وتتفوق، حتى وقعت في موقف يظهر فيه خصومها، فقال النبيّ ﷺ: “حقٌّ على الله أن لا يرتقي شيء من الدنيا إلا تحويّه”!!

ومن جهته، كشفت جوانب مختلفة من اللعب التقليدي عن جانب مرح بالشخصية الإسلامية التي تسعى للفرح من أجل الفرح نفسه، لأنه جزء من الحياة يجب على المؤمن ألا يُغفل عنه، بينما يتعامل مع التفاصيل اليومية والمشاغل الدينية، وكانت هذه الخاصية الإنسانية بارزة في المجتمع الإسلامي منذ أزمنة الصحابة؛ إذ كانت المدينة المنورة -وتعد أول عاصمة للدولة الإسلامية- تَجِدّ الرياضات التنافسية والأنشطة الاحتفالية ، واشتهر الصحابي الجليل أبو هريرة (ت 59هـ/680م) بحب اللعب مع الأطفال ومشاركتهم في ساعات لعبهم، حيث كان ينسجم معهم حتى كاد أن ينسى سنّه ومنزلته، ظاهراً كفتى مرح يُكافح رجل ناضج!

وبينما الأطفال كانوا يقبلون على المشاركة الرياضية مع الكبار وفق شروط المنافسة العادلة، فقد وضع الفقهاء -كالإمام الشافعي- العديد من القوانين الرياضية التي تحكم المنافسات المنصفة في رياضات مثل الرماية، وحث الجاحظ (ت 255هـ/869م) -في كتاب “التاج” المعتقد له- الحكام والأمراء على الامتثال لقوانين اللعب بلا تمييز، مشدداً على أنه لا يوجد فارقً بين اللاعبين في التزلج، وينبغي عليه أن يتقبل الخلافات والنزاعات التي غالباً ما تنشأ بين المتسابقين. وقد أسفر أحد هذه النزاعات الرياضية عن وفاة السلطان الجهادي نور الدين زنكي الذي توفي جراء جدال رياضي حاد مع لاعب؛ كما ورد في هذا النص.

أخيرًا، يعكس هذا المقال جوانب جديدة من التاريخ ليكرّس الصورة المغذاة السائدة عن تاريخ المسلمين ويظهر جوانب “ثقافة الفرح” في المجتمع الإسلامي، هذه المرة من خلال النقاش حول ممارسات اللعب ومنافسات الرياضة ومظاهر التسلية والفرح في المجتمع الإسلامي، من خلال استكشاف “تاريخ الألعاب” في الحضارة الإسلامية، واستعراض أشكال الرياضات البدنية والذهنية المليئة بالاثارة والفائدة، والتي تبرز بروزًا نوعيًا وتنظيميًا وتشجيعًا وانتشارًا بين جميع فئات المجتمع.

تراث سالف
عرف العرب أنواعًا متعددة من الألعاب الجماعية التي كانوا يمارسونها منذ سن الطفولة حتى مراحل متأخرة، وتذكر القواميس العربية العديد من اسماء هذه الألعاب، حيث قسم اللغوي ابنُ سِيدَهْ الأندلسي (ت 458هـ/1067م) كتابه ‘المخصَّص’ إلى فصول تتناول كل نوع من أنواع الألعاب.سَمَّي الكتاب: “أسماء عامة للتسلية والترفيه”، وأدخل فيه فصلا حول “العب” وذكر فيه من ألعاب 42 لُعبة. بعدها جاء ابن منظور (ت 711هـ/1311م) وأضاف -في ‘لسان العرب‘- العديد من الألعاب وشرح كيفية لعب بعضها.

وفي حديثه عن المجتمع المكي بالتحديد، خصَّص المؤرخ الفاكهي (ت 272هـ/885م) -في كتابه ‘أخبار مكة‘- فصلا حمل عنوان: “سرد ما كان يُلعب به في عهد أهل مكة خلال الجاهلية والإسلام ثم تخلوا عنه لاحقاً”؛ وذكر أن عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) زار مكة ورأى [لعبة] ‘الكرك‘ يُلعب بها، فقال: لو لم يأذن لي رسول الله ﷺ لما أذنت! وأضاف المكيون: كانت هذه لعبة قديمة كان أهل مكة يستمتعون بها، وظلت حتى سنة 210 هـ/825 م).

ويوضح الفاكهي طبيعة هذه اللعبة وشهرتها: “كان أهل مكة يتخذونها طقساً في كل عيد، وكانت لكل حي من أحياء مكة ‘كرك’ مميزة، يجتمعون ويُلعبون في الحي، ويذهب الناس ليشاهدوهم في تلك المناطق..، واستمروا على ذلك ثم تركوه لفترة طويلة حتى سنة 252 هـ/866 م)..، ثم تركوه حتى اليوم”!! ويعتقد المُحقّقون أن هذه اللعبة هي منفسة للعبة ‘الكُرَّج’ التي هي بتصرف فارسي، وهي تمثال خشبي “يُعتبر شبيهاً بالحصان يُلعب عليه”؛ وفقاً لابن منظور في ‘لسان العرب‘.

ومن بين الألعاب الفكرية التي كانت شهيرة بين العرب، لعبة “القرق” التي ذكرها أبو عبيد الهروي (ت 401هـ/1011م) في ‘كتاب الغريبين في القرآن والحديث‘؛ حيث يقول إنه ورد “في حديث أبي هريرة: «أن النبي ﷺ كان يشاهدهم وهم يلعبون بالقرق ولم يمنعهم»..، وهي عبارة عن مسطرة مربعة مع خط مربع في المنتصف وخط مربع في الزوايا، ويُرسم خط من كل زاوية من الخط الأول إلى الخط الثاني، وبين كل زاوية خط، مما يشكل 24 خطًا. وكانوا يلعبون بها بالحصى كما يُضاف فوق هذه الخطوط، ولا زال الناس يلعبون بها حتى اليوم وتُعرف في بلاد الشام بـ “دريس”.

وكانت المصارعة من الألعاب الشائعة بين العرب؛ ومن الشهير في هذا المجال قصة مصارعة النبي ﷺ لابن رُكَانة القرشي بمكة، التي رواها -في ‘البداية والنهاية‘- الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) “بسند قوي عن ابن عباس (ت 68هـ/688م)”، وأبرز ما جاء فيها “أن يزيد بن ركانة صارع النبي.. وقام النبي بإسقاطه ثلاث مرات..، وفي المرة الثالثة قال: ‘يا محمد، لم يُسقِطني أحد إلى الأرض قبلك’!!”

التنظيم والتأصيل

من هذا المنطلق، ليس مبالغة أن نقول إن الألعاب الرياضية في تاريخ الإسلام قديمة جداً، إذ بداياتها تعود إلى عهد النبي ﷺ حيث أقر جزءًا منها وكانت مألوفة بتفاصيل محكمة، ومن خلال استطلاعها يمكن القول إن الألعاب في المدينة النبوية -أول عاصمة للدولة الإسلامية- كانت على نمطين: احتفالية/كرنفالية، وأخرى تحمل طابعاً رياضيًا تنافسيًا، وقد جمعت النوعين في سياق واحد.

أما الاحتفالية، فاشتهر منها حديثُ عائشة التي نقله البخاري (ت 256هـ/870م) في صحيحه، حيث قالت: “رأيت النبي ﷺ يومًا على باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد -وكان النبي ﷺ يسترني برداءه- أُنظر إلى لعبهم”، وحسب بعض الروايات، كانوا “يلعبون بحرابهم”.

على ما يبدو، كانت هذه عادة مستقرة في مجتمع الأنصار بالمدينة، حيث أفاد أبو داود (ت 273هـ/886م) من حدثهم بالاحتفال بقدوم النبي ﷺ إليهم من مكة بقوله: “عند وصول النبي ﷺ إلى المدينة، كان الحبشة يلعبون بحرابهم فرحًا بقدومه”. ويؤكد ذلك ما رواه الإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘- عند قدوم النبي: “كان بالمدينة حبشٌ يلعبون بالحراب أمامه، وكان الأنصار أكثر فرحًا بقدومه من أي شيء آخر”!

ويتضح أن لعب بالحراب كان يحاكي المعارك أو يمثل تدريبًا للقتال، كما افتقد ابن المنير (ت 683هـ/1284م) -عن الكرماني (ت 786هـ/1384م)- في تفسيره لصحيح البخاري: “اُسمي ذلك لعبًا رغم أن أصله كان تدريبًا للحرب والتحضير للعدو، ويظهر به خصومة لأن اللاعب ينوي ضرب الخصم ولا يفعل ذلك، ويشير بذلك إلى زعمه وإن كان والده أو ابنه”. ومع ذلك، وصف الكرماني نفسه حبشة بأنهم “يرقصون”، وأيده الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- برؤية أخرى تقول: “وكان الحبشة في المسجد يلعبون بحرابهم ويُرقصون”.

وقد اقتنع شرحاء هذا الحديث بتوجيهات فقهية وتفسيرات تعبر عن واقع الناس في ذلك الزمن باعتبارفي هذا العصر الراهن، تتعدد الأفكار حول مشاهدة الرياضة؛ إذ أشار ابن بطال القرطبي في شرحه لصحيح البخاري إلى “جواز الاطلاع على الترفيه الجائز”، مستندًا إلى هذا الحديث، واعتبر لعب الحراب “سنة نبوية”، بهدف تدريب الناس وتأهيلهم لمواجهة الأعداء. وربما كانت هذه نقطة الانطلاق للاستعراض العسكري بالسلاح، وتنوع الأنشطة الرياضية الشاقة كحمل الأثقال ونحوها.

استخدام متعدد

يبدو أن اللعب أصبح احتفالًا ومهنة تعمل بها بعض الأفراد؛ حيث ورد عن ابن أبي شيبة في “المصنَّف” أن ابن عباس قد دعا اللاعبين لمشاركتهم في الاحتفال، وقدم لهم مبلغًا ماليًا. كما روي عن أصحاب التواريخ تقارير عن تقدير بعض الحكام والسلاطين للعابين واستخدامهم في الفعاليات الرسمية بجانب الجنود، على غرار ما فعله الخليفة العباسي في بغداد خلال استعراضه العسكري أمام مبعوث التتار في بداية القرن الثالث عشر، حيث شهد هذا الاستعراض أشخاصًا يلعبون بالنفط ويرمون الكرات الزجاجية، مما أدى إلى حدوث حرائق في البرية، وفقًا للاذهبي.

من بين الألعاب الاحتفالية، ذكر الرحالة ابن جبير احتفالات أهل مكة بموسم “العمرة الرجبية” بشكل مفصل، حيث خرجوا في مظاهر احتفالية لا مثيل لها، متسلحين بالأسلحة، حيث يقوم الفرسان بخروجهم على خيولهم ولعب بالأسلحة، بينما يتنافس الرجال ويتدافعون بالأسلحة التقليدية مثل السيوف والرماح والترسات، ويظهرون في مشاهد تحاكي القتال، مما يبرز جرأتهم ومهارتهم في التعامل مع السلاح.

وكانت الألعاب غالبًا جزءًا من الاحتفالات الرسمية بالانتصار في المعارك، كما حدث في عام 647هـ/1249م عندما تمكن أمراء الشام الأيوبيون من الانتصار على أبناء عمومتهم في مصر، حيث دخلوا البلاد وسط احتفالات “وشقوا القاهرة وهم يلهون بالرماح بين القصر”. وفي سياق متشابك، يذكر المؤرخ ابن الدَّوَاداري أن والي دمشق الشام سليمان باشا ابن العظم كان قد نظم احتفالًا طوال سبعة أيام وليالٍ بمناسبة ختان ابنه، حيث ضمنت الفعاليات مجموعة متنوعة من الألعاب والملاهي، جُمِعَ فيها كافة الشرائح الاجتماعية، وتمتع الحضور بالحرية في ممارسة ما يُرغبون به من الأنشطة الترفيهية.

ومن الأنشطة الترفيهية التي كانت تمارسها المسلمون في الماضي، كانت تستمتع بها جميع الفئات الاجتماعية دون استثناء، وحتى الفقهاء والعلماء لم يكونوا مستبعدين من هذه الممارسات، بل كان اهتمام السلاطين بالألعاب واللاعبين جزءًا من مفهوم الملكية الروائية التي يُفترض أن يتبناها الحكام، كما ذكر القائل في كتاب “التاج” المنسوب للجاحظ أن لأمراء الملك خصالًا يفترض أن تُمارَسها، منها لعب الكرة وصيد الحيوانات والرمي بأغراض محددة ولعب الشطرنج وما شابه ذلك.أين مكث الشيخ محمد النَّعال (ت بعد 596هـ/1200م) حين شاهدك؟! فأجاب: يا فقير! الحقُّ تعالى يُرى منَّا! وسرّ البعض من الحاضرين بقوله”.

وكانت للصغار ألعابهم التي يُبتهجون بها في الساحات والشوارع ليلا ونهارا، وكثيرا ما نجده في المعاجم تفسيرا لمصطلح معين بأنه “لُعبة للفتية”؛ وورد -في ‘صحيح مسلم‘- أن حادثة شق صدر النبي ﷺ وقعت له وهو “يلهو مع الأولاد”.

كما روى الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أن أبا هريرة (ت 59هـ/680م) كان يتفاهم مع الأطفال في المدينة النبوية، فكان “ربما جاؤوا الأولاد -وهم يِلهون بالليل بلعبة الأعراب- فيقعون حتى يلقي جسمه بينهم، فينبه الأولاد فيهربون”!

وكما كانت للأطفال أَلْعَبُهم؛ فكان للفتيات ألعاب على شكل دُمى عرائس يدعونها العرب “البنات”، وكانت “مجسمات من عاج” وفق تفسير ابن سيدة؛ وعبّر ابن منظور قائلا: “البنات: الأصنام التي تُلهو بها الجواري”. وورد في ‘صحيح البخاري‘ أن “عائشة -رضي الله عنها- قالت: كنتُ ألعب بـ‘البنات‘ عند النبي ﷺ، وكان لي رفقاء يلعبون معي”.

وعندما تطوّرت التعليمات التربوية لدى المسلمين تميزوا في ألعاب الأطفال، حتى نظروا لذلك بتضمين الحديث عن فوائد اللعب والرياضة في كتبهم الطبية والتربوية؛ فقد جاءت هذه التوصية من الطبيب الفيلسوف أبا علي ابن سينا (ت 428هـ/1038م) في ‘القانون في الطب‘ بأنه “إذا استيقظ الفتى من نومه فالأولى أن يستحم، ثم يُخصص وقتا للعب، ثم يأكل وجبة خفيفة، ثم يكمل اللعب، ثم يغتسل ثم يُطعم”.

من بين ألعاب الفتيات في الأماكن الكبيرة كانت دمية “الدّوبَاركه” التي تشبه دمية “باربي” الحالية بحجم أكبر، وذكرها القاضي المحسِّن التنوخي (ت 384هـ/995م) في ‘نشوار المحاضرة‘ قائلا: “الدّوبَاركه: كلمة أجنبية، تعني لُعبة تُحضرها أهل بغداد على أسطح منازلهم في ليالي [عيد] ‘النيروز المعتضدي‘ (= ابتداء السنة المالية للدولة البويهية)، ويلعبون بها ويُظهرونها بمظهر أنيق من ملابس ومجوهرات، ويرمزون إليها كما يفعلون بالعرائس، وتطبل وتزمر بين يديها”!!

قواعد حاكمة

من ذلك الإرث النبوي؛ تفقد لدى أهل العلم أنهم “يباحون اللعب.. [بكل ما] فيه تنشيط للعقل وتعليم بأساليب الحرب وطرق الوقاية من دسائس الأعداء، فحكمه حكم الملاعب المسموح بها كالمنافسة بالخيول ورمي السهام وما شابه”؛ وفق ما تلخيصه العلامة محمود شكري الآلوسي (ت 1342هـ/1924م) في ‘مختصر التحفة الاثني عشرية‘. ولذا اهتمت كتب الفقه الإسلامي ببيان أحكام رياضات السباق والرماية وقوانين رصد جوائزها وكيفية الفوز بها.

ومن الظاهر أن الإشراف النبوي على تلك المسابقات أفضى

قوانين لرياضة نظيفة

يمكن تصنيف القوانين التي يطلق عليها الرياضيون اليوم اسم “قواعد اللعب النظيف” كأساسية، فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “لا جلب ولا جنب”، وزاد في إحدى الروايات: “في الرهان”. وقد شرح الإمام مالك بن أنس (ت 796م) هذا المفهوم في كتابه ‘الموطأ’، موضحًا أن الجلب يتعلق بتأخير الفرس في السباق ودفعه بشيء يحثه ليتقدم، بينما الجنب يشمل الابتعاد مع الفرس المتسابق معه.

وفي سياق الرماية التنافسية، أفتى الإمام الشافعي (ت 820م) بأنه لا يجوز لأحد أخذ السبق حتى يكون كل المتسابقين على علم بالظروف ويكونوا موجودين أثناء المنافسة. ونقل الشافعي هذه القواعد النظيفة في كتابه ‘الأم’، مستعرضًا العديد من الفتاوى حولها.

أما الأديب الجاحظ، فقد وضع لنا في كتاب ‘التاج’ قواعد واضحة وعادلة للعب النظيف، مؤكدًا أهمية احترام القواعد من قبل اللاعبين والحكام على حد سواء من دون انتهاكات أو تجاوزات.

تشجيع متنوع

كان التشجيع ودور الجمهور في صناعة الانتصار حاضرًا منذ بزوغ الإسلام، ومن القصص المشهورة نجد تشجيع النبي لفريق في مسابقة الرماية، حيث دعم فريقًا معينًا مما أثر على أداء الفريق المنافس له. ويظهر هنا حرص النبي على العدالة والحياد حتى في التشجيع.

وعلى الرغم من أن الفرق تنافست في الألعاب بناءً على النسب، فإن التاريخ الإسلامي شهد تنافسًا بين فرق حسب انتمائهم الجغرافي، ومن الأمثلة على ذلك تنافس الأميران ناصر الدين بن الجوكندار وعلاء الدين قطليجا.

وبالرغم من أن علاء الدين كان معروفًا برشاقته ومهارته، فإنه كان يتحدى الصعاب ببراعة، مما جعله منافسًا قويًا ومحترفًا في الرياضات التي شارك فيها.

الرياضيون بناءً على انتمائهم الطائفي يظهرون أنماطًا فريدة من التحفيز الملاحظة تاريخيًا؛ ومن القصص المعبرة يرويها القاضي المحسن التنوخي عن السلطان البويهي في العراق، مُعزّ الدولة (ت 356هـ/967م) الذي كان يهتم بشكل كبير ببعض الألعاب الرياضية مثل العدو والمصارعة والسباحة، حيث قام بصرف الأموال عليها وتنظيم الفرق ونشرها بين الناس. ولكن كان لرياضة العدو بشكل خاص نصيب الأسد من اهتمامه ورعايته؛ لأنه “احتاج إلى العدائين ليجعلهم رسلًا -بينه وبين أخيه ركن الدولة (ت 366هـ/997م)- إلى طهران اليوم، فقاموا بقطع تلك المسافة البعيدة في وقت قصير، وقام بإعطاء جوائز كبيرة كتحفيز للسعاة، لذا حرص شبان بغداد على ذلك”!

وكانت أحد النتائج الملحوظة لهذه المنافسة الشعبية المشجعة رسميًا هي أن “الناس انهمكوا فيها وسلموا أولادهم إليها؛ فظهر متسابقان لمعز الدولة: أحدهما كان معروفًا بـ‘مرعوش‘، والآخر بـ‘فضل‘، يقطع كل منهما نحو 30 فرسخًا (حوالي 200 كم) في يوم واحد من شروق الشمس إلى غروبها..، وكل فرسخ من الطريق كان هناك أشخاص يشجعون عليه، لتصبحوا قادة السعاة في بغداد، وانضم السعاة إليهم وتعصب الناس لهم”؛ وفقًا للتنوخي.

ويحدثنا أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) عن الاهتمام الكبير الذي أظهره الناس في تشجيع هذين العداءين؛ حيث يقول في ‘الإمتاع والمؤانسة‘: “انظروا إلى فضل ومرعوش.. كيف انخرط الناس في تشجيعهما وتعصبوا لهما، حتى أصبح الجميع في بغداد إما مرعوشين وإما فضليين”!! حتى إن الجمهور استفسر عنهما حين دخل قاضي القضاة إحدى مناطق بغداد “فتعلق بعض هؤلاء المجّان بلجام بغلته، وقال: أيها القاضي، اخبرنا: أنت مرعوشي أم فضلي”؟! أما ابن الأثير فقد شرح الصورة أكثر بإشارته إلى أن هذا التشجيع كان يحمل في طياته انحيازًا طائفيًا؛ فقال إن العداءين “كان أحدُهما ساعي السنة (= فضل)، والآخر ساعي الشيعة (= مرعوش)”!!

حب وانقسام

وإذا كان اللاعبون من الذكور يتأثرون بالجمهور ويشعرون بالاعتزاز به، فإن تشجيع النساء ليس له مثيل في نظرهم، خصوصًا إذا كانت هناك امرأة محبوبة يرغبون في كسب إعجابها قبل الفوز في السباق؛ فالإمام ابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ/892م) يذكر -في ‘الشعر والشعراء‘- حكاية وقعت بين الشعراء العاشقين المشهورين توْبة بن الحُمَيِّر (ت 85هـ/705م)، وجميل بن مَعْمَر (ت 83هـ/703م).

يقول ابن قتيبة: “ذهب توْبة إلى الشام وعبر ببني عُذرة، فرأته بُثينة فبدأت تنظر إليه فشعر جميل بالغيرة، وذلك قبل أن يُعلن عن حبه لها، فسأله جميل: من أنت؟ قال: أنا توبة بن الحميّر، قال: هل لديك رغبة بالصراع؟ قال: هذا إليك، فرميت إليه بُثينة ملحفة مورّسة (= ملونة بالوَرْسِ) فاستعان بها، ثم صارعه وأسقطه جميل، ثم سأله: هل تريد المنافسة؟ قال: نعم، فتنافسه وهزمه جميل، ثم سأله: هل تريد السباق؟ قال: نعم، فسابقه والقاه جميل، فقال له: توبة: يا هذا، إنك تفعل هذا بفعل (= قوة التشجيع) هذه الجالسة! ولكن هبطا الاثنان إلى الوادي، فصدمه توبة وتفوق عليه وهزمه”! فانتصر جميل عندما كان يلعب على أرضه وأمام جمهوره الممثل في حبيبته بُثينة، ثم عندما فقد مكانته وجمهوره خسر وهزم!!

وحيثما بدأ التجمهر الجماهيري لتشجيع اللاعبين، ينتهي دائمًا إلى التعصب الرياضي وحماسة التحفيز؛ لذا يذكر الجبرتي (ت 1237هـ/1825م) -في كتابه ‘عجائب الآثار‘- بشرح أصل انقسام القوات المصرية -في بداية العصر العثمانيّ- إلى “فقارية” و”قاسمية”، حيث أمر السلطان العثماني سليم الأول (ت 926هـ/1520م) الجنود بـ “التقسيم إلى قسمين: قسم يكون قائده [الأمير] ذا الفقار والثاني أخيه [الأمير] قاسم الكرار. وأضاف إلى ذي الفقار أفضل فرسان العثمانيين وإلى قاسم أشجع الجنود المصريين، ورتّب لأتباع ذي الفقار اللباس الأبيض وأمر أتباع قاسم باللون الأحمر في الزي والخيول”.

ويصف الجبرتي جو المباريات الساخن بين الفرق؛ حيث يقول إن السلطان “أمرهم بتقمص شخصيات المتحاربين والمتنافسين في الحقل، فاتبعوا الأوامر وركبوا الخيول، وتحركوا بسرعة واندفعوا كالفيضان.. يتسابقون ويتصارعون وينافسون ويهاجمون متبادلين”.وانطلقوا في الطُرُق وأثاروا الغُبار، وتنافسوا بالرماح وصفوا بالسيوف العِراض، وعلت الأصوات وازدادت الهتافات، وكادت القتال والحرب أن تشتعل، حتى دعيوا في تلك اللحظة بالتفرق”!!

ومن ثمرات هذا اللعب الناري هو ظهور في أرض الكنانة فريقا “أهلي” و”زمالك” قبل عصرهما بنحو خمسة قرون، وكانت لديهم من المعجبين المتعصبين وأشكال التعبير عن هذا التشجيع ما يتجاوز ما نراه لهما في زماننا؛ إذ يروي لنا الجبرتي قائلا: “فمن تلك اللحظة انقسم أمراء مصر وجنودها إلى فريقين وقسموا هذه المَلْعَبة إلى حزبين، وتابع كل فريق معجباً باللون الذي ظهر فيه وكان معادياً للذي يتقبله الآخر في كل ما يتعلق به!! حتى الأواني والأطعمة والمشروبات، ولا زال الأمر يتفاقم ويتزايد ويتورثه السادة والعبيد حتى انحوت فيه الدماء! كم تخربت البلاد وقتلت الأمجاد، وهُدمت الدور وأُحرِقت القصور..، ولا زالت الأمور على ذلك حتى بدا القرن الثاني عشر”!!

ساحرة دائرية

أما الكرة فقد كانت أشهر الألعاب في التاريخ الإسلامي ونالت اهتمام الأفراد والجماهير على حد سواء كما هو الحال في حياة الناس اليوم. وكانت تُلعب على الخيول ويُعرف عصا اللعب بها بـ “الصولجان”، وتُدعى كذلك “الجوكان”. ويقول أبو منصور الأزهري (ت 370هـ/981م) -في قاموس ‘تهذيب اللغة‘- وضحاً معنى هذه الأداة: “الصولجان: عصا معطفة في طرفها، تُستخدم لضرب الكرة [أثناء اللعب] على الخيل، أما العصا التي انحنى طرفها في شجرتها فهي محجنة..، والصولجان.. كلمة مشتقة” من اللغة الفارسية.

أما العالم ابن الأمشاطيّ (ت 902هـ/1497م) فشرح لنا -في تعليقه على كتاب ‘الموجز في الطب‘ لابن النفيس (ت 687هـ/1288م) ونقلنا كلامه من كتاب ‘لعب العرب‘ للعالم أحمد تيمور باشا (ت 1348هـ/1930م)- أن مصطلح “الصولجان” أصبح يُستخدم لوصف لعبة الكرة نفسها ولم يعد يشير فقط إلى المضرب؛ فقال يشرح لنا هذه اللعبة: “الصولجان عندنا هو لعب بالكرة الذي يُمارسه الفرسان، وهي كرة كبيرة تُلقى على الأرض ويقترب منها الفارس راكباً ويضربها بعصا في رأسها جزءً من خشب بحجم الشبر، فإذا أسرع الفرسان نحوها لضربها، فالفارس الذي يصل إليها أولاً بالعصا التي بيده كان له الفوز”.

والكرة نفسها تسميها العامة “الطاب” وفقًا لابن الأمشاطي؛ ولا يزال الناس في بلاد الشام -حتى يومنا هذا- يسمون الكرة “طابة”! ويتضح من شرح ابن الأمشاطيّ أن هذه اللعبة هي جذور ما يُعرف اليوم باسم “لعبة بولو”. ويظهر أن هذه اللعبة كانت موصوفة طبيًا في الأزمنة القديمة؛ فذكر ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ/1269م) -في ‘عيون الأنباء في أخبار الأطباء‘- أن جالينوس (ت 216م) كتب كتابًا وصفه: ‘كتاب الرياضة بالكرة الصَّغيرَة‘؛ ثم قال إنَّ “هَذَا الْكتاب كان مقالة قصيرة يُحمد فيها [جالينوس] الرياضة بالكرة الصَّغيرَة ولعب الصولجان، ويعرض على جميع أنواع الرياضة”!

أما ابن النفيس فنسب إليه تيمور باشا –‘في لعب العرب‘- تعليقه في كتابه ‘الموجز في الطب‘: “لعب الصولجان هو رياضة للروح والجسم، للفرح بالانتصار والغضب من الهزيمة”. ويظهر من كلام المؤرخين أن العرب استلهموا هذه اللعبة من الفرس، إذ ذكر أحد المؤرخين أنها كانت تُلعب أمام الملك الفارسي أرديشير بن بابك (ت 242م).

وكانت الكُرة اللعبة المفضلة لدى الخلفاء والملوك والأمراء؛ ذكر في كتاب ‘كنوز الذهب‘ لسبط ابن العجمي (ت 884هـ/1479م) أن أول خليفة لعب الكُرة كان هارون الرشيد (ت 193هـ/809م)، وورث ابنه محمد الأمين (ت 198هـ/814م) حبها له حتى أن الاهتمام بها كان من بين أولوياته في الحكم، كما ذكر الإمام السيوطي (ت 911هـ/1506م) في كتابه ‘تاريخ الخلفاء‘ حيث قال إن الأمين “عند توليه الخلافة، فعل قام ببناء ميدان للعب الكُرة بجوار قصر المنصور”.

بوابة للتقدم

ومن الأمراء الذين أعجبوا باللعبة كان مؤسس الدولة الطولونية في مصر الأمير أحمد بن طولون (ت 270هـ/883م)، واستمرت الشغف بها في مصرالأمراء المتحمسون للعب الكرة في التاريخ

بعد مرور قرون طويلة، عندما نقل المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي (توفي 1470م) – في كتاب “النجوم الزاهرة” – تفاصيل حياة هذا الأمير، قال إن ابن طولون أقام قصرًا ضخمًا فيه ميدان للعب الكرة، وسمي القصر بـ “الميدان”.

من بين الأمراء والقادة الذين لعبوا الكرة بعد العصور الأولى، كان السلطان نور الدين زنكي الشهيد (توفي 1173م) من أكثر الشخصيات اهتمامًا وحماسًا لهذه الرياضة، ووفقًا لمؤرخ حقبته أبو شامة المقدسي (توفي 1266م) في كتابه “تاريخ الروضتين”، كان من أمهر الناس في لعب الكرة والتحكم بها بشكل مميز.

إن اهتمام هذا السلطان العظيم بلعب الكرة لم يثنه عن أداء واجباته الدينية أو التزامه بالجهاد أو إدارة شؤون حكمه ورعاية شعبه، بل كان يعتبرها جزءًا من نشاطه اليومي وتدريبًا للخيول على السرعة والتحكم. وذكر الذهبي في “تاريخ الإسلام” أنه “كان يصوم كثيرًا ويؤدي العبادات ليلًا ونهارًا، وكان يلعب الكرة بكثرة”، حيث كان يفهم الحاجة لها في تدريب الخيول في ظل التهديد المستمر من الأعداء.

إقبال الأمراء على اللعب الكرة

بالرغم من أن نور الدين كان يروج للعب الكرة كتمرين عسكري وتحضير لمواجهة الأعداء الصليبيين، إلا أن بعض الأمراء رأوا في هذه الرياضة تسلية أثناء فترات الفراغ، ومن بينهم الأمير المملوكي علاء الدين الصالحي (توفي 1291م) الذي كان يلعب الكرة بانتظام مع أولاد صفد، كما يشهد الصفدي في “الوافي بالوفيات”.

بعض الأمراء استخدموا لعب الكرة كوسيلة لتفريغ التوترات والتفكير خلال شهر رمضان، حيث يروي ابن خلّكان في “وفيات الأعيان” تفاصيل عن السلطان المملوكي المظفَّر حاجي (توفي 1347م) الذي كان يلعب الكرة يوميًا مع زملائه في شهر الصيام لتقضية وقت النهار.

يعكس اهتمام الأمراء بالألعاب بصفة عامة، رواية ابن تَغْري بَرْدي عن السلطان المملوكي المظفَّر حاجي، حيث كان يختلط مع عشاق الألعاب ويشاركهم فيها في أيام حكمه.

(=المصارعة) و(=المنافسة بالسيوف).. وعدوان الـ(=رياضة)، ونِطاح الكـ(=الأغنام)، ومصارعة الديوك..، وأهلبَ بإطلاق اللعب بذلك بالفاس ومصر”.

تسجّل لعبُ الكرة خطورة عالية، وكثيرٌ من الأحيان يؤدي إلى وفاة الرياضيين؛ وتروي قصة الحموي ابن واصل (ت 697هـ/1301م) في ‘مفرج الكروب‘، قصة وفاة نجم الدين أيوب (ت 568هـ/1172م) والد صلاح الدين، ثم يكمل: “كان [نجم الدين] مهووسًا باللعب بالكرة والجري السريع، فرأى الناس كل من يمتلك هذه الصفات كان محتملاً أن يموت بسبب سقوطه من فوق حماره”، وكذلك كان الوضع!

وفي السجلات تجد الكثير من قصص وفيات الأمراء والقادة بسبب سقوطهم من فوق الخيول أثناء لعب الكُرة، مثل السعيد بركة (ت 678هـ/1279م) ابن الظاهر بيبرس (ت 676هـ/1277م) الذي “اسمه نجمع بسبب لعبه بالكرة في ملعب الكرة، حيث تَقنطرَ عن خلف حماره ونتج عن ذلك حمًّى شديدة، وظل في حالة مرضية لفترة طويلة قبل وفاته”؛ حسب رواية ‘المختصر في تاريخ البشر‘ لأبي الفداء الأيوبي (ت 732هـ/1332م).

توفي بعض الرياضيين جراء سقوط الحيوان فوقهم أثناء اللعب كما حدث مع يلبغا الصالحيّ (ت 747هـ/1346م) أحد أمراء الكامل شعبان ابن الناصر قلاوون (ت 747هـ/1346م)؛ ففي نيل الأمل، يروي ابن شاهين الملطي (ت 920هـ/1515م) أن “الكامل سلطانٌ لعب بالكرة في الملعب مع الأمراء، واصطدم يلبغا الصالحي مع آخر وسقطا معًا من فوق خيولهما، وسقط حمار يلبغا فوق صدره ما أدى إلى قطع نخاعه وموته على الفور”!

رقّة وعنف

وعلى الرغم من صعوبة وقوة لعبة الكرة وخطورتها، لم يخل تاريخ الإسلام من لعبة كرة نسائية؛ وفقاً لما أخبرنا به المؤرخ ابن تَغري بَرْدي الذي نقل من أحداث سلطان مصر المملوكي الصالح إسماعيل ابن الناصر قلاوون (ت 746هـ/1345م) وقال “ركب نساؤه الخيول العربية وتنافسن، وأحيانًا كان يلبسن الحرير بأكمله ويلعبن بالكرة، وكانت لهن مثل هذه التجارب في المواسم والأعياد وأوقات النزهة”!!

ويطلعنا ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) على المرحلة الأولى للألعاب النسائية التي كانت تمارس -على الأقل على مستوى المحاكاة- خلال فترة العباسيين؛ فيذكر إنه في أيامهم “استحدث آلات من الخشب مُسرجة على شكل خيول معلّقة بأطراف أقمشة يرتدينها النسوان، ويمثلن جلوس الخيل والهرولة والتسابق بها، وكانت هذه الألعاب منظمة للمناسبات والأفراح والأعياد وساعات الفراغ والترفيه. وكانت هذه العادة منتشرة في بغداد ومدن العراق وانتشرت من هناك إلى بقية البلاد”.

واشتهر أطفالنا بلعب الكرة، وكثيرة هي القصص التي تروي حوادثهم في كتب التاريخ والسير؛ ومن القصص المثيرة هي التي نقلها الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- بقوله: “قال القاضي عبد الصمد في «تاريخه»: سمعت محمد بن عوف (ت 272هـ/885م) يقول: كنت ألعب في الكنيسة بالكرة وأنا مراهق، فدخلت الكرة إلى المسجد فتساقطت بالقرب من المعافى بن عمران -أي الحمصي بعد 200هـ/815م- فدخلتُ لأخذها، فقال: من أنت؟ قلت: ابن عوف! قال: أبوك كان من أصحابنا ومن المتعلمين لدينا، ومن الطبيعي أن تتبع سلوك والدك! فذهبت إلى أمي وأبلغتها، فقالت: نعم يا بني! فألبستني ثوبًا وإزارًا، ثم ذهبت إلى المعافى محضرًا معي قلم وورقة”!!

وفي حالة كرة، تتطلب اللعبة القوة والجسارة وتشوبها بعض المخاطر؛ ومن الألعاب التي كان العنف غالبًا عليها وجزءًا من تجمع المنظمين لها، مثل لعبة اللبخة التي كانت تُدعى عند البعض بهذا الاسم بسبب استخدام لبخ “اللبخ”، وهي اللعبة الشعبية المعروفة اليوم بـ “التحطيب”.

وقد ورد ذكرها من قبل ابن تغري بردي خلال أحداث عام 746هـ/1345م، محدداً تاريخ نشأة اللعب بها؛ فأشار إلى أن السلطان الكامل شعبان (ت 747هـ/1346م) ذهب إلى منطقة “سرياقوس وحضر الأوباش ليلعبوا اللبخة، وهي عصي كبيرة كانت يلعبون بها في تلك الأيام، وعندما لعبوا بها أمامه قتل أحد رفاقه، فمنح السلطان العفو لبعضهم وجزأ الكبار منهم بخبز في العساكر، وظل السلطان يلعب بالكرة كل يوم ويتجاهل الأمور الهامة، مما أثار ثورة المماليك واحتلوا مؤسسات الشعب وقطعوا الطريق”!!

وبالقرب من تلك الألعاب العنيفة، تأتي رياضات القوى وحمل الأثقال التي أصبح لها حضور في تراثنا، حتى بين الحكام.والمُسَؤُولون الكِبَار، كما الأمير علم الدين سنجر الحلبي (ت 692هـ/1293م) الذي كان يُمارس هذه الألعاب يوميًا بَعد إنْتِهَاء عَمَلِه الحُكومي! يقُولُ لنا الإمام بدر الدين العيني (ت 855هـ/1451م) -في ‘عقد الجمان‘- أن هذا الأمير “كَان من أكبَر الأمراء.. وسَيَطَرَ على الشام..، وقيل: بأنه.. كَان إذا هبَطَ من الخِدمَة (= العَمَل الرَسْمي) إلى بَيْته لَم يَنْزِل عن فَرَسِه حَتى يُقدِّم له قُنطاراتَه مَملوءة بِالرصاص لِيَلْعَب بِها وهو رَاكِب، ثم يَأْتي إلى فَرْدةَ تِبْنٍ يَطْعُنها ويَرْفَعها مِن الأرض، ثم يُنزِل ويأخُذ عَمُودًا حَدِيدًا زِنْتُه قُنطار (= 40 كيلو غرام تقريبًا) ويَلْفُ بِه يَمِينًا ويُسَارًا”!!

ألعاب عقلية

لَم يَنْقُص الأَلْعَاب في الحَضَارَة الإسلامية إلى أنواعها المُعْتَمَدَة على القُوَّة البَدنِيّة، بَل إنَها عَرَفَت كَذَلِك أَنواعًا مِن الرِياضَات الذهنية تَأْتي في مُقَدِّمَتِها لعبة الشطَرنج الّتي تُوَرِثُها المُسْلِمُون عَن آخَرين؛ فَقد تَحَدَّثَ الجاحِظ -في ‘الرِسائِل‘- عن ثقافات الهِنْد فَقَال إن “لهُم الشطرنج، وهي أشرف لُعبة وأكثرها تَدْبِيرًا وفِطِنَة”!! ويَرَى المُؤَرِّخ ابن خلكان أن الشَطرنج اخْتِرَاع هندي، فيُقال إنَ اسم “الّذي قامَ بِوضعه: صَصه بن داهِر الهِنْدي، واسم المَلِك الّذي قام بِوضعه له: شِهْرام”!

وقَد اهتمّ الْمُسْلِمون -مِنذ القَرْن الأوّل- بِلَعبة الشطرنج حتى شَمَلَ ذلك عُلَماؤهم وصالِحاؤهم ناهيك بِخَلَفائهم وعامّتهم؛ ويَكْفي هُنا أَن نَعْلَم أَنّ أَوَّل نَواة للنَوادي الثقافية في الحضارة الإسلامية كانت في دار لاصِقَة بالحرم المَكي نَهايَة القَرْن الأوّل، وكانَ ضَمن أَدوات التَرْفِيه فِيها ألعاب بَيْنها الشطرنج!

وعَن ذلك يُحَدِّثنا المُؤَرِّخ القَرْشي الزُبَيْر بن بكار (ت 256هـ/870م) -فِي كِتابه ‘جمهرة نَسَب قريش وأخبارها‘- فَيَقُول إن عَبد الحكم بن عَمرو بن عبد الله بن صَفْوان الجمحي “اتخذ بيتًا فِيه شُترنجات (= شَطرنجات) ونَردات (= لُعبة الطاولة) وقِرْقات (= جَمع قِرق: لُعبة طاولة مَذكورة آنَفا)، ودَفاتِر فِيها مِن كُل عِلم، وجَعَلَ فِي الجِدار أَوتادًا فَمن جاءه عَلَّق ثِيابه على وَتَد مِنها، ثم جَرّ دَفترًا فَقَرأه، أو بَعض ما يُلُعَب بَه فَيَلْعب مع بَعْضهم”!!

بَل إن بَعْض أئمة التابعين بَلَغُوا مِن مَهَارَتِهم فِي الشَطرنج أن أحَدًهم “كان يَلْعَب بِها إسْتدْبَارًا”، بِمَعْنَى أَنّه يُوَلِّي ظَهْرَه لِطَاوِلَتها ومُنافِسه فِي اللُعب بِها ثُم يُعَطِي أَوَامِره بِنَقْل قِطَعه عَلى رَقْعَتها دون أَن يَنْظُر إليها!! ويُفَسِّر لَنا ذلك الإمامُ الْمُحدِّث البيهقي (ت 458هـ/1067م) يُخْبِرُ -في ‘مَعرِفة السُنَن والآثار‘- بِسَنَدة قَائلًا: “سَمِعت الشافِعي يَقُول: لَعَب سَعِيد بن جُبير (ت 95هـ/714م) بالشطرنج مِن وَراء ظُهره فِيَقُول: «بأَيش دَفَع كَذَا؟» قَال: بِكَذَا، قَال: «أَدفَع بِكَذَا»..!! أَخْبَرنا الشافِعي قال: كان مُحَمَد بن سيرين (ت 110هـ/729م) وهِشَام بن عُرْوة (ت 146هـ/763م) يَلْعَبَان بالشطرنج إسْتدبارًا..، ورُوِينا عَن الشعبي (ت 106هـ/725م) أَنّه كان يَلْعَب بِه”!!

وبَعْد العَصْر الأوّل؛ تَعَمّق المُسْلِمون فِي تِمَارينِ لعبة الشَطرنج حتى بَرَع فيها بَعْضهم إلى دَرَجَة أنّه صَار يُضَرَب بِها الأَمثَال فيها، بَل ونُسِبَ إليه اخْتِرَاعِها مِن الأصل! فَالمُؤَرِّخ ابن خلكان يَقُول -فِي تَرْجَمَته للأديب أبي بكر الصولي (ت 330هـ/942م)- إنّه “كَان أوحدَ [أهل] وقته فِي لعب الشَطرنج، لَم يَكُن فِي عَصْره مِثله فِي مَعْرِفَته! والنَّاس إلى الآن يُضَرِبُون بِه المَثَل في ذلك فيَقُولون لِمَن يُبالِغون فِي حُسن لُعبه [بها]: فُلان يَلْعَب الشَطرنج مِثل الصولي!! ورأَيْتُ خُلُقًا كَثيرًا يَعْتَقِدُون أَن الصولي المُذكور هو الّذي وضَع الشَطرنج، وهو غَلَط”!!

ومِن مَن أََهَم المََهَرة فِي لُعبتها أَيضًا الطَبِيب الأندَلُسِي أَبو بكر بن أبي الحسن الزهري الإشبيلي (ت نحو 620هـ/1223م)؛ فَقَد وَصَفَه ابْن أبي أصَيْبِعة -فِي ‘عيون الأنباء‘- بِأَنّه “كان فِي مُبَدَأ عَملِه مُحَبًّا لِلشَطرنج كَثير اللُّعب بِه، وجاد لُعبُه فِي الشَطرنج جدًا حتى صار يُصَف بِه..، فِكانوا يَقُولُون: أبو بكر الزهري الشَطرنجي”! ومِن الطَرِيف أَن هذا اللُّقَب -المُحَبَّب إلى كَثير مِن مُحتَرِفي هذه اللعبَة العقلية- كان يُغَضِّب الزهري هذا، فَتَرَكَ الشَّطرنج واستَعاض عنها بِتَعَلم الطِبّ قائلًا لِنفسه: “لَا بُدَ أن أَشْتَغِل عَن هذا بِشَيء غَيره مِن العِلم لِأُنتعت بِه ويَزُول عَني وصِف الشَطرنج”!!

أنشطة منزلية

ومِن أَهْلِ العِلم مَن كَان يُوفّر الشطرنج لمُرْتادي بَيته مِن طُلاب العِلم وغيرهم لِيَلْعبونها فِي حَضْرَته خلال أوقات الفَراغ؛ فَقَد ذُكِرَ ابن الأثير -فِي ‘الكَامِل‘- أن فَخر الدين مبارك شاه بن الحسن المروروذي (ت 602هـ/1205م) “كان حَسن الشعر بالفارسية والعربية..، وكان لَهُ دارُ ضَيافةٍ فِيها كُتُب وشَطرنج، فَالعُلماء يطالعون””الكتب، والجهال يلهون بلعبة الشطرنج”!

وهناك مثال آخر عن ذلك في العلامة بهاء الدين ابن النحاس الحلبي (ت 698هـ / 1300م)، الذي وُصِف بأنه “شيخ العربية في أرض مصر..، لا يزال يستضيف الطلاب وأصدقاءه في منزله..، يجد الزائر فيه أشخاص يتحدون بلعبة الشطرنج، وهناك من يقرأ، وكل شخص في عالمه دون منازع، ويظل سعيداً حتى يحين وقت التدريس عنده (= التدريب) حيث ينقلب الوضع”!!

تاريخياً، كان هناك من يلعبونها في فرق تتبادل استضافتها في منازل أعضائها؛ ومن بينهم العالم محمد بن محمد بن محمد الكناني السمنودي الشافعي (ت 879هـ / 1474م) الذي ورد من الإمام السخاوي (ت 902هـ / 1497م) -عبر ‘الضوء الساطع‘- أنه كان ينتمي إلى “المشي على قانون كبار الحكام وإدمان لعب الشطرنج، حيث كانوا يوزعون أيامهم بين بعضهم؛ فكانت أيامه مع هذه الجماعة وأيامه الأخرى مع تلك الجماعة”!!

ويبدو أن السمنودي هذا لم يلتزم بالقواعد الرياضية على الرغم من منصبه ودوره، حيث “غالبًا ما يفوز اذا ما لعب بكلمات تتجاوز الحدود، ولا يبالي بمن هو كبير أو صغير، وكلما زادت كلماته زاد رضا جمهوره عنه”!!

ولا يمكن نسيان دور الجماهير في هذا السياق، حيث كانت تعتبر بلعبة الشطرنج لعبة للطبقة النخبوية، وكانت تجتمع غالبًا مع الخلفاء والأمراء؛ فذكر ابن خلكان في ترجمته للصولي -الذي سبق ذكره- أن الخليفة العباسي المكتفي (ت 295هـ / 908م) دخل على الخليفة بحضور أحد اللاعبين بالشطرنج، وبعد أن لعبوا جميعًا أدهش الخليفة الملاحظ لعب الصولي، فقام بدعمه وتشجيعه، حتى أظهر لكل الحاضرين مهارته، واجتمعوا في تأييده وإلتفافه له”!!

التطور والتحدي

وكما كان الرهان شائعًا في السباقات الفروسية ومسابقات الإبل والتحدي بالأسهم بين المسلمين كما تم ذكره من قبل؛ ظهر الرهان أيضًا في مسابقات أخرى مثل الشطرنج على الرغم من تحريمه من قِبَل العلماء؛ فكان أبو الحسن الشابُشْتي (ت 388هـ / 999م) يشير في كتابه ‘الديارات‘ إلى أنه قد دخل على أبي أحمد عُبيد الله بن عبد الله بن طاهر (ت 300هـ / 913م)، ووجد أنه يلعب بالشطرنج مع أشخاص آخرين ويُطلب منهم الرهان!

وبالفعل، كانت للشطرنج أحجام وأشكال مختلفة؛ فذكر المؤرخ المسعودي (ت 346هـ / 957م) -في ‘مروج الذهب‘- أن الشطرنج عند الهنود يأخذ شكل حيوانات مثل النمور وغيرها، بحيث تكون قطع الشطرنج مثل الشبر أو أكثر!

ومن المحتمل أن كان الشطرنج الهندي الكبير هو مصدر إلهام للسلطان التيمور لنك (ت 807هـ / 1405م) لإنشاء شطرنج عملاق مُميز؛ فذكر ابن تَغْري بَرْدي -في ‘المنهل الصافي‘- أنه كان يلعب بالشطرنج الصغير ثم انتقل إلى الشطرنج الكبير، حيث كان يمتلك قطعًا تفوق في الحجم على الشطرنج الصغير بكثير!

كما كان الناس في الماضي يتفننون في ألعاب مختلفة -باستثناء الشطرنج- التي ظلت تستمر حتى اليوم، حيث كان هناك “حُواة” يتقنون التهريج لتسلية الجمهور مقابل أجر يُقدم لهم؛ فقد روى سبط ابن الجوزي -في ‘مرآة الزمان‘- قصة الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ / 941م) الذي شهد رجلا يقوم ببالة حية ويقول: “من يعطيني درهمًا حتى آكلها؟” مما دفع أبا حاتم ليحذر ابنه من خسارة أموالهم”! وفي وقت لاحق، ذكر المقريزي (ت 845هـ / 1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أنهم كانوا يتجمعون في منطقة ميدان “رحبة باب اللوق” بالقاهرة، حيث كانت تجتمع مختلف الطبقات الاجتماعية مثل الحرفيين وحُواة”!!

وكانت من بين الألعاب الشائعة صيد الحمام والطيور، حتى كان الخلفاء والحكام معروفين بشغفهم بذلك مثل الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ / 715م) الذي كان مهووسًا بصيد الحمام، وفقًا لما ذكره سبط ابن الجوزي. وكذلك الخليفة المستكفي بالله (ت 334هـ / 946م) الذي كان يستمتع بصيد الطيور واللعب بها في الحدائق”!

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version