سوق البلد في بيروت.. مساحة تتجاوز البيع وتعيد الحياة والتواصل
31/12/2024
بيروت- على أنقاض الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي، تستعيد بيروت روح الأعياد، متجاوزة الأحزان والخسائر. فقد استعادت أسواق وسط المدينة بريقها، لتصبح نقطة التقاء للبنانيين من جميع المناطق، حيث تتلاحم فيها قصص الصمود والإصرار على الحياة.
ورغم الأزمات التي تعانيها المدينة، وخاصة الحرب الإسرائيلية الأخيرة، فقد زُينت شوارعها بأضواء الميلاد والأعلام اللبنانية، وأصبحت أسواقها القديمة تعج بالألوان والفرح. أشجار مضيئة وزينة براقة أعادت الحياة إلى شوارع بيروت، واستعادت المدينة بَهاءها الذي طالما افتقدته.
سوق البلد
في هذا السياق، عادت أسواق الميلاد، المعروفة بـ “سوق البلد”، لتستعيد تقليداً غاب لسنوات بسبب الأزمات الاقتصادية وجائحة كورونا. يعيش الزوار تجربة متكاملة، حيث يمكنهم تذوق الأطعمة اللبنانية التقليدية والاستمتاع بعروض فنية وموسيقية تقدمها فرق شبابية، مما يضفي حيوية وأملاً على الأجواء.
في السوق، تنتشر الخيم المزينة التي تعرض مجموعة متنوعة من المنتجات اللبنانية: المؤن المنزلية، المأكولات المحلية، المشروبات، الكتب، الملابس، وزينة العيد، حيث تروي كل زاوية قصة صمود بيروت وإصرارها على إعادة الحياة إلى شوارعها.
يستذكر يحيى شرف الدين، صاحب خيمة معروفة بتقديم المنتجات البيتية والفلافل، تجربته في “سوق البلد” القديم، حيث قال: “سوق البلد محبوب من الجميع، ونحن مرتبطون به ارتباطا وثيقا. رغم الظروف الصعبة، يصر الناس على دعمنا، فقد كان هذا السوق دائماً رمزاً للاستمرارية في لبنان. نسأل الله أن يعم السلام” .
وأوضح شرف الدين أنه يحرص على تقديم أفضل المنتجات مثل المعكرونة الطازجة واللوزية، بالإضافة إلى أقراص التمر والمنتجات الصحية التي تتناسب مع ذوق جميع الزبائن.
ويستذكر شرف الدين تحديات فترة الحرب قائلاً: “كانت الأيام صعبة، والخوف كان حاضراً. فقد كنا نعيش تحت تهديد الغارات التي قد تضرب في أي لحظة”.
تحدٍّ وأمل
قصص صمود في سوق بيروت خلال الأعياد
تتجاوز قصص الصمود في بيروت حدود أصحاب المحلات، لتشمل أفراداً يحملون إرادة لا تُهزم. إحدى هؤلاء هي السيدة إيمان، التي تكرّس وقتها في حياكة الصوف وبيع منتجاتها التي أعدتها خلال الحرب. تتحدث إيمان قائلة: “بيروت، رغم جراحها، ترفض الانكسار. أعيادها تتحول في أسواقها إلى رسالة أمل وصمود، لتظهر مرة أخرى أن هذه المدينة قادرة على النهوض مهما كانت التحديات”.
وتؤكد إيمان ذلك بقولها: “نحن نؤمن بوطننا إيماناً عميقاً. كنا على يقين أننا سنعود إلى السوق. حتى وإن دُمرنا، سنقف مجددًا ونثبت للعالم أننا نعود أقوى بعد كل مرة نتحطم فيها”.
وعن حركة البيع في السوق، تعبر إيمان بحيرة قائلة: “الأوضاع صعبة على الجميع، لذا نحرص على تعديل أسعار البضائع لتكون مقبولة وفي متناول الجميع. موسم الأعياد والهدايا فرصة رائعة لنُبادل الفرح والدفء، ومن الجميل أن نكون يداً واحدة في هذه الظروف”.
عودة الحياة إلى السوق
بينما ينشغل الشيف ريكاردو داغر ببيع الخروب ودبس الخروب وصناعة الحلويات، يعبر عن سعادته ويقول: “أنا سعيد جداً، نشعر أننا نعود إلى الحياة بعد كل الدمار والخراب الذي عايشناه. نحن شعب يحب الحياة ولا شيء يمكن أن يوقفنا”.
ويزيد ريكاردو: “الحرب تركت أثراً كبيراً علينا، لكن اليوم نلاحظ حركة تجارية جيدة. الناس بدأت تشتري وهناك حركة نشطة في السوق، نتمنى أن تكون هذه الأعياد بداية لمستقبل أفضل”.
قصص من قلب المعاناة
وفي زاوية صغيرة من السوق، يجلس مصطفى الحسن خلف طاولته البسيطة، التي امتلأت بقطع الصابون المصنوعة يدوياً وأشكال الشمع المزينة. يروي مصطفى قصته بابتسامة تخفي وراءها ألماً عميقاً: “قبل الحرب، كان لدي مصنع صغير في النبطية، وكنت أصنع الصابون والزيوت الطبيعية. الحرب دمرت كل شيء: المصنع، المنزل، وحتى الأمان الذي كنا نعيشه”.
ومع ذلك، لم يستسلم مصطفى، بل بدأ من الصفر. ويقول: “في البداية كان الأمر صعباً، لكن العمل أعطاني سبباً للتمسك بالحياة. كل قطعة أصنعها تحمل جزءاً من روحي، وأعتبرها رسالة أمل بأننا نستطيع البناء من جديد مهما كانت الخسائر”.
ويضيف: “السوق هنا ليس فقط مكاناً للبيع، بل هو مساحة للتواصل والعودة إلى الحياة. الأجواء تعيد لي الإيمان بأننا قادرون على تجاوز أصعب المحن”.
أمل في العام الجديد
من جهتها، تقول رانيا حمادة، القادمة من الهرمل إلى سوق بيروت: “نحتاج إلى لحظات من الفرح لنهدأ نفسياً قليلاً. أتمنى أن يكون العام الجديد مليئاً بالسلام والفرح والراحة”.
وتتابع رانيا، وملامح وجهها بين الدموع والابتسامة: “لقد خسرت منزلي بالكامل، لكن علينا أن نكون أقوياء ونصمد أكثر”.
بينما كان كريم الأحمد يتجول في السوق، بدت ملامح وجهه تجمع بين الحنين والتفاؤل. قال: “بيروت هي مدينة الحياة، وأجواء السوق تعيد لي ذكريات الطفولة. نحن بحاجة إلى هذه اللحظات التي تملأ الروح بالفرح وتعزز الأمل”.
ثم أضاف بابتسامة خفيفة: “مررنا بالكثير من الصعاب، لكنني أؤمن أن الفرح جزء من المقاومة، ورغم كل شيء سنستمر في البحث عن الجمال في تفاصيل حياتنا”.