سيرة الأديان الفقهية المفقودة.. صاحب المذهب الأوزاعي قدره ملحدو لبنان والمحدث الليث فقدوه المصريون والمُؤرخ الطبري احتجزوه الحنابلة في منزله
“المذاهب في هذه الأمة المباركة [ليست] محصورة في أربع، والعلماء من الجماعة لا يُحْصَوْن زُحمةً، وكلٌّ له معتقد من الصحابة والتابعين والآتباع وهكذا دواليك”.
تلك نتاج هام في الاختلاف الديني ذكره الأمام جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ / 1505 م) في كتابه “الحاوي للفتاوي”. وهذا المقال يحاول تقديم قراءة معرفية في تاريخ بعض الفرق الفقهية التي اندثرت مع مرور الزمن من حياة الناس، على الرغم من بقاء تأثيرها العلمي والاجتهادي في التفكير الإسلامي ومبادئه وتياراته.
وعلى الرغم من أن الفرق الفقهية الأربعة الباقية اليوم تشكل أساس فقه الإسلام في الفضاء السني التاريخي لمعظم أمة الإسلام؛ إلا أن قضية الفرق الفقهية المندثرة لا زالت تحمل معانٍ كبيرة في التجربة العلمية الإسلامية. وأهم هذه المعاني هو تفسير النصوص الشرعية وتطبيقاتها الظرفية، فرغم تقييد هذا التفسير بالعديد من القواعد الشرعية، إلا أن ذلك لم يمنع ازدهار تجربة التفريع الفقهي والفتوى المذهبية على مدى العصور.
وتشير التجربة الفقهية الإسلامية إلى أن ظهور مذهب واندثار آخر يخضع لقوانين موضوعية وعلمية يمكن رصدها ودراستها وتحليلها، ومن الخطأ الفادح تقييد عوامل ذلك بقرار سياسي يتخذه حكومة مهما كانت سلطتها ونفوذها، على الرغم من أهمية تأثير السياقات السياسية في صعود وانحدار الدول وما يرتبط بها من تفضيل لجماعة علمية على أخرى، أو اعتماد مذهب ونبذ آخر أو حتى حظره!
كان من الطبيعي للغاية تنامي الحركة الفقهية في القرون الهجرية الأولين كونهما قرون الانفجار الروحي الإسلامي الكبير، وانتشار الفتوحات المصاحبة لنشر الصحابة والتابعين للعلوم، وما نتج عن ذلك من تنوُّع المراكز العلمية في بلاد الحجاز والكوفة والبصرة وخراسان والشام ومصر والمغرب الإسلامي، ونشوء الكثير من المدارس العلمية.
الحقيقة أن الاندثار الذي نشير إليه هنا هو اندثار التكوين كمذهب وفق شروط وطبقات ومراحل تكوين الفرق الفقهية المعروفة، أي اندثار المذهب والتيار؛ لأن آراء كثير من علماء الفرق المندثرة ومواقفهم بقيت محفوظة ومنقولة وظلت دوما ملهمة للعقل الفقهي والفكري عموما، فصوابية معظم تلك الفرق ومصداقية شيوخها أمر بديهي عند أتباع الفرق المتبقية، بل اختيرت غالبا خياراتهم على غيرها في مدونات الفقه المقارن خاصة في عصرنا الحالي.
ونظرًا لكثرة الفرق السُنية المندثرة، تقوم دراستنا هذه على استكمال ما جاء في النتيجة المركزة والمركزية في موضوعها والتي قدمها الإمام السيوطي وبدأنا بها حديثنا هذا، حيث قال:
“وكان في القرون الكثيرة نحو عشرة فرق مقلدة أئمتها مدونة كتبها، وهي: [الفرق] الأربعة المشهورة، وفرق سفيان الثوري (ت 161هـ / 778م)، وفرق الأوْزاعي (ت 157هـ / 774م)، وفرق الليث بن سعد (ت 175هـ / 792م)، وفرق إسحق بن راهَوَيْه (المحدِّث الحافظ ت 238هـ /852م)، وفرق ابن جرير (الطبري ت 310 هـ /923 م)، وفرق داود (الأصفهاني ت 272 هـ / 886 م)، وكان لكل من هؤلاء أتباع يفتون بقولهم ويقضون، وإنما انقرضوا بعد الخمسمئة لموت العلماء وقصور الهمم!!”
وسنركز – في هذا المقال – على هذه الفرق الستة التي ذكرها السيوطي، لأنها كانت أشهر الفرق المندثرة ذكرا والأطول عمرا وأبقاها تأثيرا، بتفاوت كبير بينها في نطاق الانتشار وعمق الآثار وسرعة الاندثار. على الرغم من أننا سنحل محل فرقة الإمام ابن راهويه بفرقة أخرى كانت أكبر منها وأشهر، وهي فرقة معاصرته أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي (ت 240 هـ / 855 م).
وستكون معالجتنا للموضوع على شكل جزئين؛ جزء نعرض فيه هذه الفرق وفقا لتسلسل وفيات أئمتها: معرفين بإيجاز بأئمتها ومكانتهم وشهرة تلاميذهم، ونرسم – في كل ما تسمح به البيانات – خرائط انتشارها تاريخيا وجغرافيا؛ ثم يأتي بعد ذلك جزء نقدم فيه أهم ما استنتجناه من أسباب داخلية وعوامل خارجية وضعت هذه الفرق على مسار التراجع والاندثار!!
رئاسة مرحبة
صاحب الفرق الأوزاعي هو: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الهمداني، إمام دمشقي الميلاد والنشأة بيروتي الوفاة. ويكفي لتوضيح مكانته العلمية ترجيح الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ / 796 م) فتوى للأوزاعي على فتواه هو نفسه، إذ يروي أبو زرعة الدمشقي (ت 281هـ / 894 م) تراجع مالك عن فتواه تلك قائلا: “أصاب الأوزاعي”! حتى الإمام مالك اعتبر الأوزاعي أرجح من سفيان الثوري وأبي حنيفة (ت 158هـ / 775م) – عندما سُئل عنهم – معتبرهما “من بين الأفضل”.
وذكر ابن أبي حاتم (ت 327 هـ / 939 م) – في “الجرح والتعديل” – للأوزاعيرسائل كثيرة في مصلحة المسلمين العامة متوجهة للخلفاء. كان ينطق بالحق أمام الولاة دون تردد، يحكي ابن أبي حاتم قصة عن أمير الشام عبد الله بن علي العباسي (ت 147هـ/764م) الذي أجاب على سؤال حول دماء بني أمية قائلاً: “ما يحلّ لك!”. رد على دعواه بتأكيد أن الخلافة وصية من رسول الله ﷺ لبني هاشم قائلاً: “لو كانت الخلافة من رسول الله ﷺ لما رضي علي (ت 40هـ/661م) بالحكم الثنائي”.
ذكر ابن أبي حاتم مواقف مؤثرة في محافظة الولاة على أهل الذمة في لبنان، وقد أظهرت هذه المواقف وحدة وطنية تامة في جنازته؛ حيث يذكر أن “خرجت أربع أمم في جنازته بدون أي اختلاف، وحمله المسلمون، وخرجت اليهود من جهة، والنصارى من جهة، والقبط من جهة”!!
يذكر ابن عساكر (ت 571هـ/ 1176م) في ‘تاريخ دمشق‘ بأن الأوزاعي بدأ الفتوى عندما كان عمره 25 عاما في سنة 113هـ/732م! قيل إن له كتبًا مميزة لكنها للأسف تضاهى في زلزال كما سنرى. أشاد الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- بتراث الأوزاعي الفقهي؛ مؤكدًا أن “لديه مسائل كثيرة جيدة يتميز بها [عن الفقهاء]، وهي موجودة في الكتب الكبرى، وكان لديه مذهب مستقل معروف قام به فقهاء الشام وفقهاء الأندلس، ثم اندثر”!
أما عن انتشار مذهب الأوزاعي؛ انتشر أولاً في الشام ثم انتقل إلى الأندلس قبل منتصف القرن الثاني/الثامن الميلادي. ذكر الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘: “كان مذهب الأوزاعي موجودًا في الأندلس حتى القرن الثاني والعشرين، ثم انقلب الوضع وازدهر مذهب مالك..، وكان مذهب الأوزاعي أيضًا معروفًا في دمشق حتى القرن الرابع والثلاثمئة”. وهكذا، استضافت الشام مذهبه ونقلته بيروت معها؛ لكنه بدأ يتلاشى تدريجيًا، تاركًا ذكرى جنازته التي تتذكر كلما ذُكِر التعايش الديني!!
أما الأندلس؛ فكانت تقرأ فيها المذهب الأوزاعي قبل تولي بني أمية حكمها في سنة 138هـ/756م، وهذا الواقع استمر بعدها حتى عهد هشام الرضا (ت 180هـ/797م) الذي بدأ حكمه في سنة 172هـ/889م؛ إذ يحدد لنا ابن الفرضي (ت 403هـ/1013م) في ‘تاريخ علماء الأندلس‘ بداية انتشار المذهب الأوزاعي بالأندلس من خلال زهير بن مالك البلوي (ت نحو 239هـ/865م) الذي “كان فقيهًا على مذهب الأوزاعي، كما كان عليه أهل الأندلس قبل حكم بني أمية”.
وفيما يتعلق بانتهاء وجود هذا المذهب هناك، يشير القاضي عياض المالكي (ت 544هـ/1149م) في ‘ترتيب المدارك‘: “أجبر أمير الأندلس.. هشام بن عبد الرحمن [الداخل] بن معاوية (= هشام الرضا).. الناس بالانسجام مع مذهب مالك، وجعل القضاء والفتوى عليه”. ومن تلاميذ الأوزاعي الأندلسيين صعصعة بن سلام (ت 192هـ/808م) الذي دخل بهذا المذهب إلى الأندلس، وواصله زهير البلوي المذكور سابقاً.
بينما استمرت المذهب الأوزاعي في بلاد الشام حتى منتصف القرن الرابع/العاشر الميلادي، ويقول ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في ‘مجموع الفتاوى‘: “والأوزاعي إمام أهل الشام وظلوا على مذهبه حتى القرن الرابع”! كان آخر مفتين بها القاضي أحمد بن سليمان ابن حَذْلَم (ت 347هـ/959م)، حيث يذكر ابن عساكر أنه “آخر من كان له دور في جامع دمشق يعلم بهج منهج الأوزاعي”.
ازدواجية مربكة
فيما يتعلق بمذهب الثوري؛ فقد أسسه سفيان بن سعيد الثوري الذي كان محدِّثًا موثوقًا وفقيهًا بارعًا من الكوفة، لدرجة قال عنه الإمام سفيان بن عيينة (ت 198هـ/814م): “لم أر رجلًا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري”! ووصفه العِجْلي (ت 261هـ/875م) -في ‘الثقات‘- بأنه “ثَبْتٌ في الحَدِيث فقيه صاحب سنة
وَمَتَّبَع، وَكَانَ مِن أقوى النَّاس بِبَيان شَدِيد عِنْد سُلْطَان يُتَقَى”!!
قام الخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ/775م) برغبة في جَعل الثوري قاضيا، لكنه رفض وفرَّ من الكوفة أواخر 155هـ/772م ليظل مختفيا عن السلطة متنقلا سراً بين العراق والحِجَاز حتى توفي في البصرة 161هـ/778م. وذكر النديم (ت 384هـ/1047م) -في ‘الفهرست‘- عددًا مِن كُتُب الثوري، ولكن الذهبي أخبرنا -في السِّيَر- بأنه نصح بحرق كُتُبه بعد وَفاته!
ومِن الكوفة حيث نما مَذْهَب الثوري أوَّلا؛ انتقل هذا المَذْهَب إلى جارتها عاصمة الخِلافَة بَغداد مُجسّدًا في تلميذه عُبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي (ت 182هـ/799م) الذي يخبِرُنا الخطيب البَغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- بأن تلاميذ الثوري أرادوا “تَبْنيسه في حَلْقَة سفيان فأبى”.
ووفقا لابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘الباعث الحثيث‘- فقد ظلَّ سفيان الثوري قرونًا مُعترفًا بِه ضمن “أصحاب المذاهب الخمسة المَعْتَبَرَة”، لكن بحلول مطلع القرن الخامس/الحادي عشر الميلادي انقرض مَذْهَبُه من بَغداد، فابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) يَقُول -في ‘المُنتَظِم‘- إن عبد الغَفار بن عبد الرحمن الدِّينَوَري (ت 405هـ/1015م) “كان آخر مَن أفْتى على مَذْهَب سفيان الثوري بِبَغداد في جامع المنصور، وكان إليه النظر في الجامع والقيام بأمره”.
ومِن تلامذته النعمان بن عبد السلام البكري (ت 183هـ/800م) الذي كان عابدًا زاهدًا مُحَدِّثًا مُتَفَقهًا، وهو الذي أُدْخَلَ مَذْهَب الثوري إلى أَصْفَهَان؛ حسب أبي نعيم الأصفهاني (ت 430هـ/1040م) في ‘تاريخ أصفهان‘. كما وَصَلَ هذا المَذْهَبُ إلى مَنْطِقَتَيْ شيراز وجرجان الواقعتين اليوم في إيران.
وظهر المَذْهَب السفياني بخراسان وتحديدا عاصمتها نيسابور؛ فكان مِن أعلامه هناك “الإمامُ الزاهد القدوة الصادق أبو أحمد النَّيْسابوري الجُلودي (ت 368هـ/979م) راوي ‘صحيح مسلم‘… [الذي] خُتم بوفاته سماع كتاب مسلم…؛ وكان يُوَرِّق بالأجرة ويأكل مِن كَسب يده، وكان ينتحل (= يتَّبَع) مَذْهَب سفيان الثوري (ت 161هـ/778م) ويعرفه”؛ طبقا للإمام الذهبي في ‘سِير أعلام النبلاء‘. ويفيدنا الصريفيني (ت 529هـ/1135م) -في ‘المُنتَخَب‘- بأن آخر النيسابوريين السفيانيين هو الحافظ محمد بن عبد العزيز الحِيرِي (ت 451هـ/1060).
وانتشر في الدِّينَوَر التي كانت بشمال غربي إيران اليوم؛ حيث يذكر الإمام السمعاني (ت 562هـ/1166م) -في ‘الأنساب‘- أنه “اشتهر بهذه النسبة (= الثوري) جماعةٌ مِن أهل الدِّينَوَر يَنْتَسِبُون لِمَذْهَب سفيان” الثوري.
وظهر مَذْهَبُه كذلك بالشام أسوة بمَذْهَب الأوزاعي؛ فكان له هناك تلامذة صاروا أئمة، ومِن أجلهم: الصوفي الشهير بشْر الحافي (ت 227هـ/842م)، وَالمُعَافَى بن عُمْران الأزدي الموصلي (ت 184هـ/801م) الذي “كَانَ الثَّوْريّ يُسَمِّيه الياقوتة”؛ وفقا لابن حبان (ت 354هـ/965م) في ‘الثقات‘. ومَن السفيانيين الشاميين القاضي الحافظ مكيّ بن جابار الدِّينَوَري (ت 468هـ/1076م)؛ طبقا لابن عساكر.
وبقي مَذْهَب الثوري قائمًا مُتَّبعًا في الأمصار طوال قرون، حتى إن شمس الدين الغزي (ت 1167هـ/1754م) يضع لنهايته حدًّا زمنيًا شبه دقيق؛ فيقول -في ‘ديوان الإسلام‘- إنه “بقي مُقَلِّدوه إلى قريب الخمسمئة”، ولعله تواصل بعدها لأن المُحَدِّث عبد الرحمن بن حمد الصوفي الدوني العراقي (ت 501هـ/1106م) “كان سفيانيَّ المَذْهَب”؛ كما يحكي عنه أبو طاهر السِّلَفي (ت 576هـ/1180م) في ‘معجم السفر‘. بل إن ابن تيمية يَتَحَدَّث -في ‘الفتاوى‘- عن وُجُودِه في عصره، فيذكر أنه “باقٍ إلى اليوم بأرض خراسان”!!
وبهذا يظهر جَلِيًّا أن مَذْهَب الثوري أَضَاعته النِزاعات الزهدية لطلابه، عِلاوَةً على مُطَالَبَات السُلطة له في آخر عُمْره العِلْمِيّ؛ مما حدّ من عَطائِه وحرمه التعليمَ بِحُرِيَّة والاستكثار مِن الطلاب، وأربك تواصل أجيال المَذْهَب وتَرَاكَم تَرَاث العِلْم والنظر الفَقَهِي فيه.
إهمال مُضَيِّع
مِن أَبْزَر المَذاهب المُندَثَرَة مَذْهَبُ الليث بن سعد القلقشندي المصري (ت 175هـ/792م)، الذي كان إماما كثير الحِفْظ للحديث والآثار وحاز مَكَانَةً عِلْمِيَّةً كبيرة، عبَّرَ عنها بإِخْتِصَار عبد الله بن وهب (ت 197هـ/813م) تلميذ مالك بِقَوْلِهِ: “كلُّ ما كان في كُتُب مالك [من عبارة]: «وأَخْبَرَنِي مَن أرضَى مِن أهل العلم»، فهو [يَعْنِي بِهِ] الليثَ بْن سعد”! وقال الشافعي (ت 204هـ/820م): “الليث أفقَه مِن مالك بن أنس إلا أنه ضيعه أصحابه”؛ حسب رواية أبي الشيخ الأصفهاني (ت 369هـ/977م) في ‘طبقات المحَدِّثِين بِأَصْفَهَان‘.
أما تَصانِيفه فيقول الذهبي عنها: “وهو إمام حُجَّة كثير التصانيف”! إلا أنها اندُثِرَت وبقي مِنْها كُتِيب
صِغارٌ مَدونٌ ضَمِن كِتَاب ‘الفوائد‘ لِـابن منده (ت 475هـ/1082م)، كَذلك نُشرَ جُزءٌ مِن أمالَيِّه تَحت عُنوان: ‘مَجلسٌ مِن فَوايِد الليث بن سَعَد‘. وَمِن تَلاميذ الليثِ ابنُهُ شُعَيب (ت 199هـ/815م) الَّذي يُصَفُهُ ابن يُونُس الصَّدَفِي (ت 347هـ/959م) -فِي تاريخِه- بِأَنَّهُ كَانَ مُحَدِّثًا فَقِيهًا مُفْتِياً، وَحَفِيدُهُ الفَقِيهُ الَّذِي كادَ أَن يتَجَلَّى عبْدُ الْمَلكِ بنُ شُعَيب (ت 248هـ/863م).
وَمِن تَلاميذهُ كَذَلِكَ كاتِبُهُ: عبد الله بنُ صالِح الجَهْنِيّ (ت 222هـ/838م)، وَحَماد بنُ صفْوان بنِ عُتاب الغافقي الَّذِي يَقولُ السُّمْعاني إنَّهُ “كَانَ جَلِيسا لليثِ بنِ سَعَد وَكانَ يُحَفِّظُ مَذهبـ[ـه]”! وَإسحاقُ بنُ بَكر بنِ مَضَر (ت 228هـ/843م) الَّذِي “كانَ يُفْتِي فِي حَلْقَةِ الليثِ بِقَوْلِه”؛ كَذَلِكَ فِي ‘تاريخِ ابن يُونُس‘. وَبِهذا اندَثرَ فِقْهُ الليث، وَإنْ بَقِيَت سيرَتُهُ العِلْمِيّة وَالاجتِمَاعِيّة مُبَثُّوثَةٌ فِي بُطون الكُتُب فَقِيهًا وَقُدوةَ اجتِماعِيّة مُؤثِّرَةٍ.
أمّا مَذهَبُ أبي ثَوْر؛ فَصَاحِبُهُ هُوَ: إبراهيم بنُ خالِد الكُلْبي (ت 240هـ/855م) الَّذِي قالَ الخَطِيب البَغْدادي إنَّهُ “كانَ أحَدَ الثِقات المأمونين، وَمِن الأئِمّة الأعلام فِي الدِّين، وَلَهُ كُتُب مُصَنّفَة فِي الأحكام جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الحَدِيث وَالفَقْه”. وَقالَ فِيهِ الإمامُ أَحْمد بن حَنبَل (ت 241هـ/856م) أقْوالًا عَدِيدَةً يُقَرِّظُهُ فِيهَا، مِنْها جَوابُهُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَن مَسألة فِي الفَقْه: “سَلْ -عافاكَ اللَّه- غيرَنا! سَلْ الفُقَهاءَ، سَلْ أبا ثَور”!
وَكانَ أبو ثَوْر يَنْتمي إلَى المَذْهَب الحَنَفي ثُمّ لَقِي الشّافعي حينَ زارَ العِراق فَأَخَذَ عَنهُ؛ وَفِي ذَلِكَ يَقولُ الخَطِيب البَغْدادي: “كانَ أوَّلا يَتَفَقَّه بالرأي وَيَذْهَب إلَى قَوْلِ أَهْلِ العِرَاق (= الحنفيّة)، حتّى قَدِمَ الشّافعي بَغْدادَ فَاخْتَلَفَ إلَيهِ وَرَجَعَ عَن الرّأي إلَى الحَدِيث”. لكِن أبا ثَوْر سَرعان ما تَميّز بِمَذْهَب خاص به عَن كلا المَذْهَبين السابِقين؛ فَهذا النَديم يُفِيدُنا بأنَّهُ “استَحْدَث لنَفْسهُ مَذْهَبًا مُشتَقّا مِن مَذاهِب الشّافعي”، وَلَعَلَّهُ يُقصِدُ بِذَلِكَ مُذهَبيْ الشّافعي القَدِيم بالعِرَاق وَالجَدِيد بمِصْر.
وَقَد وَصَفَهُ الحافِظُ ابنُ عَبد البَّر الأَنْدَلُسي (ت 463هـ/1071م) -فِي ‘الانتقاء فِي فَضائِل الثَلاثة الأئِمّة الفُقَهاء‘- بِأَنَّهُ “لَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثيرَةٌ يَذْكُرُ فِيها الاخْتِلافَ وَيَحْتَجُّ لِاخْتِيارِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَذْكُورِينَ فِي الْفُقَهاءِ”. ثُمَّ أَوْضَحَ أَنَّهُ كانَ “أَكْثَر مَيْلا إِلَى [آراء] الشَّافِعِيِّ.. فِي كُتُبِهِ كُلِّهَا”.
وَرُبَّما كانَ هذا التَّقَارُب مَع الشّافِعيّة مِن أَسْباب ارتِباك مَذهَب أَبي ثَوْر فِي التَّصَنيف بَيْنَ الحنَفيّة وَالشّافِعيّة وَالاستِقْلاليّة؛ وَهوَ ما جَعلَ الإمامُ النَّوَوي (ت 676هـ/1277م) يُفَصِّل الأَمْر -فِي ‘تَهَذِيب الأَسْماء وَاللغات‘- قائلًا: “وَمَع هذا الَّذي ذَكَرْته مِن كُونِ أبي ثَوْر مِن أَصحاب الشّافِعي، وَأَحَد تلامِذته وَالمَنْتَفَعينَ بِهِ وَالآخِذِين عَنهُ، وَالنّاقِلينَ كِتابَهُ وَأقْوالَهُ؛ فَهوَ صاحِب مَذهَب مُسْتَقِلّ، [فـ]ـلا يُعَدّ تفرُّدُهُ وَجْهًا فِي المَذهَب”. وَأَوْضَح النَّوَوي أَنَّ قَوْلَهُ هذا هوَ قَوْل “الأئِمَّة المُصَنِّفين فِي اخْتِلاف مَذاهِب العُلَماء”، وَاصِفًا مَذهَب أبي ثَوْر فِي كَثير مِن المَسائِل بِأَنّهُ “قَوِيّ أَو أَقْوَى مِن مَذهَب الشّافِعي دَليلاً”!
وَمِن كبار تَلامِيذهِ: عُبَيد الله بنُ مُحَمَّد بنِ خَلَف البَزّاز (ت 293هـ/906م) الَّذِي يَقولُ ابنُ الجوزي -فِي ‘المُنْتَظِم‘- إنَّهُ “كانَ عِندَه فقه أبي ثَوْر”، وَمِنهم الصُّوفي المَعْرُوف الجُنيدُ بنُ مُحَمَّد البَغْدادي (ت 298هـ/910م) الَّذِي كانَ مِن الذين جَمعوا بين الفقه وَالتَّصوف وَالحدِيث، وَكانَ يُخْبِر عَن تَوَثُّقِ عِلاقَتهُ بشَيْخِهِ أبي ثَوْر فَيَقُولُ: “كُنتُ أُفْتي فِي حَلْقَة أَبي ثَوْر الكُلبي الفَقِيه وَلي عَشْرون سَنَة”!! وَمِنهم الحَسَنُ بنُ سُفْيَان الشَّيْباني النَّسائي (ت 303هـ/906م) الَّذي يُصَفُهُ ابن عُساكِر بِأَنَّهُ كانَ “أَدِيبًا فقيهًا أَخْذ الأدب عَن أَصْحاب النَضر بنُ شمَيْل (ت 204هـ/820م) وَالفَقْه عَن أبي ثَوْر”.
وَباعتِبار جَمْع أبي ثَوْر بَين آراء أبي حَنِيفَة وَالشّافِعي؛ فَإنّهُ يُمكِن القَوْل إنْ مَذهَبه كانَ ثَمَرَة تَلاَئُم مَدْرَستي الرَّأْي بالعِراق وَالرواية بالحِجاز، وَنَتَجًا عِلمِيًا لِتَلاَقُح مَنْهَجَين فَقهيّين مُتنوعَين؛ لِكِن مَذهَبه لَم يَدُم تارِيخًا طَويلا، إذ يَرى الإمام الذهبي -فِي ‘السِّيَر‘- أَنَّهُ “انقطَعَ أتْباع أبي ثَوْر بَعْد الثَلاثمئة”. وَأمّا جُغْرافِيًّا؛ فَقَدْ انْتَشَرَ مَذهَب أبي ثَوْر خارِج مَوْطِنه العِراق انْتِشارًا مُحدودًا، فَكانَ “أَكثَر أهل أذربيجان وَأرمينيا يَتَفَقَّهونَ عَلَى مَذهَبه”؛ كما يُخبِرنا النّاَدِمُ الَّذِي أَوردَ عُنَوانَ مُصَنَّفات مِن تَراثهِ الفَقهي.
ظاهِريّةٌ مَميّزة
مُؤَسِّس مَذهَبِ الظاهِر/الظاهرية هُوَ: داوُد بنُ علي الأصْفَهاني (ت 270هـ/884م)، وَهوَ المَذهَب الَّذِي يَقُول بِالأَخْذ بظُواهِر نُصوص الشَّرْع وَنَبْذ إدخال القياس الفِقهيّ ضَمن أُصول الأحْكام الشَّرْعيّة،
وكان صاحبه داود الأول الذي بروز في تصاحب الانتحال الظاهري ورفض القياس في الأحكام، وفقًا للخطيب البغدادي. كان هذا الأمر يمنح هذا المذهب استقلاليته الفكرية، مما أدى إلى تعقيد البنية الفكرية للمذهب وعلاقته المعرفية بباقي المذاهب والتيارات الفقهية العامة بشكل عام.
وقد وصف الذهبي في ‘السير’ الإمام البحر الحافظ، العالم المميز في زمانه، رئيس أهل الظاهر، الذي استمد علمه من إسحاق بن راهويه وأبي ثور الكلبي، ويقال إنه كان لديه مجلس يضم أربعمئة من طلاب العلم، وكان من متعصبي المذهب الشافعي، وانتهى الأمر بأن أصبح رائد العلم في بغداد.
ترك داود كتبًا مفصلة حول مختلف جوانب الفقه، وخلف وراءه تلاميذ من بينهم ابنه الإمام الكبير أبو بكر محمد بن داود الذي جسد مذهب وآراء والده، كما جاء في كتابه ‘الانتصار من أبي جعفر’. ومن بين هؤلاء التلاميذ عبد الله ابن المغلس الظاهري الذي انتشرت معلومات داود في الأقطار والبلاد.
ظهر مذهب الظاهرية في الغرب الإسلامي حيث برزت شخصيته في الأندلس، حيث كان له تبعين هناك بزمن وجوده في المشرق. كان من أولئك الذين نشروا المذهب في تلك المنطقة عبد الله بن قاسم القيسي، الذي وصفه الإمام ابن حزم في ‘رسالة فضل الأندلس’ بأنه قائد يحتذى به في الظاهرية وصحبته.
من الشخصيات البارزة في المذهب الظاهري بالأندلس القاضي المنذر البلوطي الذي دافع في كتبه عن المذهب في بيئة الأندلس المالكية، ورغم تخصصه في الفقه إلا أنه كان يميل إلى آراء المعتقدات، حسبما قال ابن الفرضي. وأشاد أبو الحسن النباهي بفن إبداعي في العلوم وتفوقه في مذهب أبي سليمان داود الظاهري، حيث كان يفضل مذهبه ويحتج به في حالات القضاء.
ومن بين الأندلسيين من احتضن المذهب الظاهري بشكل مؤقت الحافظ ابن عبد البر؛ فكما ذكر الذهبي كان من أتباع المذهب في بادئ الأمر، ورغم تألقه في المالكية كان يميل غالبًا إلى آراء الظاهرية أو الشافعية، وتؤكد الروايات أنه كثيرًا ما كان يميل إلى مذهب الشافعي. وعلى الرغم من علاقته الطيبة والشخصية بابن حزم، إلا أن ابن حزم لم يؤكد اعتناق ابن عبد البر للظاهرية.
مشروع حزمي
وكان الإمام ابن حزم هو من ورث إرث أئمة الظاهرية القدامى بالأندلس، وقد وصفه الذهبي بأنه كان قائدًا في علوم الإسلام، حيث ترك كتبًا ذات تأثير كبير في الفقه والأصول والفرق، منها ‘المحلى بالآثار’ و’الإحكام لأصول الأحكام’ و’الفصل في الملل والنحل’، وكانت هذه الكتب تجسد مشروعه الفكري والشرعي.
من تلاميذ الإمام ابن حزم زعماء كالقاضي صاعد بن أحمد الطليطلي والحافظ الحميدي الأزدي وأحمد ابن حزم حفيد ابن حزم نفسه والصوفي ابن عربي الحاتمي والذي وصفه الصفدي بأنه كان من الظاهرية في العبادات والنظريات.
ومن بينهم أيضًا الإمام النحوي أبو حيان الأندلسي الذي زاد ابن حجر بالقول إنه كان ظاهريًا ومنتميًا إلى المذهب الشافعي عندما كان في مصر، وكان تلميذه أبو البقاء يصر على أنه كان ظاهري. وأشار أبو حيان إلى أنه كان من المستحيل أن يتخلى عن مذهب الظاهر فيما اعتنى به عقله.
عاشت الظاهرية فترة ازدهار في عصر الموحدين في المغرب والأندلس، خاصة في عهد المنصور يعقوب الموحدي الذي أبدى اعجابه بابن حزم وكتبه العظيمة التي تركت بصمة واضحة في علوم الفقه والأصول والفرق، شكلت مشروعها الفكري والشرعي.
على قبره ثم نقول: “جميع العُلماء شبهاء لابن حزم”! ربما كان هذا الانبهار هو الذي دفعه للـ”انتقام” ضد ابن حزم من منافسيه فـقهاء المالكية البارزين الّذين امتلكوا النفوذ حين اغووا حكام الأندلس ليحدّوا عليه، وحتى أحرقوا كتبه. ثم أمر المنصور ذلك في سنة 591 هـ / 1195 م بحرق كتب أفرع الفقه المالكي، ليس فقط في الأندلس بل في بلاد المغرب أيضًا. كما وثق تلك الأحداث المؤرخ عبد الواحد المراكشي (ت 647 هـ / 1250 م) في كتابه ‘المُعجِب’.
وعلى الرغم من قلة انتشار الظاهرية، فإن الإمام ابن حزم الأندلسي منحهم -في ‘رسالة في جُمل فتوح الإسلام’- الهيمنة الفقهية على الدولة الغزنوية في عصره، فوصف الدولة بأنها “عظيمة في الهند، وهي الآن مسكونة بالمسلمين ويقصدها طلاب الحديث والقرآن، والذي يسودها -والحمد لله رب العالمين- مذهب الظاهر”!! ويبدو أن الظاهرية استمرت بوجودها بشكل عام في المشرق الإسلامي، حتى أن ابن تيمية أكد أن “مذهبهم مازال قائمًا حتى الآن”! أي في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي.
وقد أيده الذهبي بهذا حين وصف في ‘السِّيَر’ حضور الظاهرية كمذهب يتمسك به في عصره: “أصبحت الناس الآن في الدنيا على خمسة مذاهب، والخامس: هو مذهب الداودية”، لكنه أوضح أنه لم يبقى إلا “قليل من أتباع الداودية”. بالإضافة إلى ذلك، ذكر ابن خلدون (ت 808 هـ / 1406 م) في ‘المقدمة’ وصفًا لوضع الظاهرية في نهاية ذلك القرن: “قام مذهب أهل الظاهر اليوم بتعليم دروسها”!!
ومن الجوانب التي تستحق الاهتمام عند الحديث عن أهل الظاهر: ثنائيتهم المعرفية؛ حيث قام ابن حزم وأبو بكر محمد بن داود الظاهري بكتابة العديد من الأعمال في المحبة والشجاعة. ويتجلى هذا الثنائي أيضًا في تلاقي الظاهرية الفقهية مع علوم الكلام، مما يشمل تفسيرات في القواعد الأساسية، كما هو الحال مع المنذر البلوطي الظاهري الذي انحاز لآراء المتكلمين في المعتقدات؛ كما ذكر سابقًا. وأيضًا ابن حزم الذي ختم الذهبي تفضيليته المنهجية بالقول في ‘السِّيَر’: إنه يوجد “فرع ظاهري في الفروع وليس في الأصول”! وتشمل ذلك أيضًا ثنائية ابن عربي في “ظاهريته” الفقهية و”باطنيته” الصوفية!!
وبالنظر للوضع الجغرافي لانتشار مذهب الجريرية، نحن لم نصل بعد إلى تحديد واضح له، ولكن المؤرخ تاج الدين ابن الساعي (ت 674 هـ / 1273 م) أفاد بأنه تمت انتشاره بشكل ملحوظ،
تقول كتاب ‘الدر الثمين في أسماء المصنّفين’ إن الطبري كان له مذهب في الفقه اختاره لنفسه، وأصبح أحد قادة الأئمة..، وخرج بكلامه جماعة من أهل العلم، وانتشرت معرفته في الآفاق!
وبالنسبة للحدود الزمنية لمذهبه، يبدو أنها لم تمتد كثيرًا بعد وفاته؛ ويقدم لنا الذهبي تقديرًا عامًا لها فيذكر في ‘السير’ أن مذهب ابن جرير استمر إلى ما بعد الأربعمئة. وبهذا تأخرت العصبية المذهبية وأثّرت على المذاهب الفقهية المستقلة عن المذاهب الأربعة السنية، ومنعت وجودها وحرمت الأمة من مدرسة أصولية وفقهية متميزة.
مسائل هيكلية
يتضمن كل مذهب عناصر اقامت عليها: الإمام وتلاميذه من الناحية الهيكلية، ومن الناحية المعرفية هناك المبادئ والمنهجية التي يبنى عليها المذهب: توثيق روايات الإمام وأسسه، واستخلاص قواعده وتنظيمها، ثم تأليف الكتب الحافظة لها والمبنية على الفروع، وتعزيز الأساليب المنظمة لعملية التحليل والتدريس، وتسهيل طرق الاختيار وآليات إصدار الفتوى المذهبية؛ كل هذا هو ما يمنح المذهب شخصيته المستقلة، وصورته الأساسية التي يستمد منها ويتوسع في الأقاليم والمناطق مدارس متعددة.
وفي ذلك يقول الإمام الزركشي (ت 794هـ/1392م) في ‘البحر المحيط’ معارضا لعدم الانصياع للمذاهب غير المؤسسة منهجيا: “يقلده الأئمة الذين توثقت مذاهبهم، واتسعت حتى ظهرت منها تقييد مطلقها وتخصيص عامها، على خلاف غيرهم حيث أوردت الفتاوى المجردة، ربما كان لها اكمالا أو تحديدا أو تخصيصا..، تأخير التقليد لهم فقط عن عدم تمكن نقل حقيقة مذهبهم”.
بناء على ذلك؛ واجهت بعض المذاهب تحديات في هذه الأسس الحافظة وأدت إلى عقبات في انتشار المذاهب الفقهية نموا واستمرارا؛ على سبيل المثال قد لا يكون الأساس المعرفي للمذهب قويا، أو يمكن أن يوضع المذهب في مواجهة مع بقية المذاهب، كما حدث في رفض ظاهروية القياس الفقهي مما جعلهم عُرضة للانتقاد المبكر بسبب توجب القياس فقهيا، حيث اضطر داود الظاهري نفسه للقياس ولكنه وضعه كاستنتاج غير مصدري لا ديني؛ أو بعبارة الخطيب البغدادي: “رفض القياس في الأحكام قولا واضطر إليه فعلا، فأطلق عليه حُجة”.
وانتقد القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي (543هـ/1149م) في ‘العواصم من القواصم’ الظاهرية بسبب تمسكهم بظاهر النص ومطالبتهم بتطبيق حكم الله بالحقيقة، مماثلا للخوارج بسبب هذه الفكرة، حيث قال إنهم “استقرت على موقف ليس منها وتحدثت بلغة لم يفهموها، استوعبوها من أصدقائهم الخوارج عندما أصدروا حكمًا.. يوم صفين (سنة 37هـ/658م)، قالت: لا حكم إلا لله! وكانت أول بدعة واجهتها في رحلتي [إلى المشرق سنة 485هـ/1092م].. تطبيق الباطن، وبعد عودتي [إلى الأندلس سنة 496هـ/1103م] وجدت تطبيق الظاهر قد ملأ المغرب”!!
وأدى هذا الصراع المعرفي بدوره إلى طرح سؤال فقهي هام يتعلق بمكانة الظاهرية العلمية ومدى احترامهم في المشهد الفقهي الشامل؛ وهو: إذا اختلفت الظاهرية مع بقية الفقهاء في قضية ما، هل يمكن التوصل إلى اجماع رغم هذا الاختلاف أم لا يمكن ذلك بسبب اختلافهم مع بقية الفقهاء في جوهر مسألة الاستنباط الفقهي؟ وقيمة السؤال تكمن في اعتبار الظاهرية فقهاء يحترم قولهم أم لا؟
ونقل الزركشي في ‘البحر المحيط’ تباين الفقهاء في هذه المسألة الأصولية، موضحًا عدم احترام الجمهور والمحققين لاختلاف الظاهرية الفقهي لهم؛ يبرر ذلك بقوله: “وبالمؤكد الظاهرية عندما جلبت قواعد تختلف عن قواعد السابقين، أفضى بهم إلى التعارض مع مجمع الشريعة، وعندما تجرأوا على ادعاء أنهم على الحق وأن الآخرين على الباطل منبوذون من أهل الانقلاب والعقد”! وعلى الرغم من توسط الزركشي فقهاء الاعتبار فقبول خلافهم فيما لا يستند على قواعدهم “التي قدمت دليل قاطع على عدم جدواها”.
تقشير وتأمل
يختلف مصادر انتشار التوجهات الفكرية وازدهارها من بعضها إلى بعض، حيث تحاول العوامل المختلفة التي تؤدي إلى انكماشها واختفائها بين الجانب الشخصي والموضوعي والظرفي. وفي أعلى قائمة تلك الأسباب تأتي الحالات النفسية التي لا يمكن تجاهل تأثيرها على توثيق الإرث المعرفي الفكري وتنقله للأجيال وتراكمه المنهجي ؛ فقد تتسبب الأزمات النفسية في إدمان بعض الأئمة بالتجاهل لما كتبوه وعلّموه، مما يعرض تراثهم للتلاشي.
ومن ذلك ترك الأوزاعي مصنفاته بعد حادثة احتراقها التي يحكيها ابن عساكر قائلاً: “احترقت كتب الأوزاعي في زمن الرجفة، [وكانت] ثلاثة عشر قُنداقا؛ فجاء رجل بنسخها [فـ]ـقال: يا أبا عمرو، هذه نسخة كتابك وإصلاحك بيدك! فلم يعرض لشيء منها حتى فارق الحياة”!! والرجفة المقصودة هنا هي زلزال ضرب سواحل الشام سنة 130هـ/748م.
وأرى أن الأوزاعي مرّ بمرحلة انطوت فيها على الزهد فخرج رهبانيا في إحدى ثغور الجهاد الشامية ؛ فذكر ابن عساكر عن تلميذه الوليد بن مزيد البيروتي قوله: “سمعت الأوزاعي يقول: جئت إلى بيروت أرابط فيها”! وعند استمرار هذا الموقف الزاهدي الذي عرضت له؛ أذن برواية كتبه قائلاً: “عليكم بكُتُب الوليد بن مزيد فإنها صحيحة” ؛ وفقًا لابن عساكر. ومن تاريخ ولادة ابن مزيد سنة 126هـ/744م؛ يرجح لدينا تأخير تلمذته على الأوزاعي عن تاريخ الزلزال المذكور، وعليه فإن الأوزاعي قد جاز أولوية تبليغ العلم بعد تجربته لتلك المرحلة الزاهدية!
وما يعرض للأئمة من أوضاع فإن تلاميذهم بها أكثر؛ فقد يكون بعض التلاميذ قنوطون بالزهد والالتزام الشخصي بما تعلموه، وهو ما لاحظه الإمام ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) معللا به ما كاد يلحق مذهب مجموعته الحنابلة من انقراض؛ فقال -فيما نقله عنه ابن الجوزي في ‘مناقب أحمد بن حنبل‘- “إن هذا المذهب إنما جوره أصحابه..؛ فإنه نقص فيهم من يعلم بقسمٍ من العلم إلا ويخرجه إلى التقديس والزهد لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن الانشغال بالعلم”!!
وبتطبيق ذلك على المذهب الأوزاعي؛ نجد أن محمدا ابن الإمام الأوزاعي (ت بعد 190هـ/807م) كان زهيد عابد، ولم يروِ عن أبيه إلا الآثار الخلقية؛ حسب ابن عساكر. وهو ما تكرر مع مذهب الثوري الذي كان رمز الزاهدين، وكذلك تلميذه بشر الحافي حين ترك رواية الحديث قائلاً حسب الخطيب البغدادي: “الحديث اليوم شريحهٌ من تطلب الدنيا ولذةٌ..، وإن لي كتبا كثيرة ذهبت.. وإني لأحبٌ بدفنها وأنا حيّ صحيح”! والأمر نفسه حصل لمذهب أبو ثور؛ فالجنيد البغدادي -الذي كان يفتي في حضرة رمزه أبو ثور- تصوف واشتغل بعلم التصوف عوضًا عن نقل مذهب رمزه!!
وقد تساهم قلة عدد التلاميذ المجتهدين وضعف الهمم في من بعدهم وقلة الانضباط والتوثيق في ضياع المذهب. ويمكن تمثيل ذلك أيضًا بالمذهب الحنبلي الذي كاد يندثر لولا ارتفاع همة أحد أتباعه السابقين ممن أخذ عن تلامذة مؤسس المذهب؛ إذ نجد أن أبا بكر الخالل (ت 311هـ/924م) هو أول من وثّق علومه في آخر عمره بعد بداية القرن الرابع/العاشر الميلادي.
فالخطيب البغدادي يقول إن الخالل هذا “كان من الذين كرسوا اهتمامهم لتجميع علوم أحمد بن حنبل وطلبها وسافر لطلبها، ووثقها عالية ومنخفضة، ووضعها كتابًا، ولم يكن من الأشخاص الذين يتبنون مذهب أحمد كليًا لهذا السبب. ويؤكد على ذلك الذهبي في ‘السِّير‘ بقوله: “ولم يكن قبله (= الخالل) للإمام مذهب مستقل، حتى اتبع هو نصوص أحمد ووثّقها وبرهنها بعد الثلاثمئة”.
تحدّي قادم
وفي المقابل ، كان مذهب الأوزاعي معرضًا لقِلة التلاميذ وضعف هممهم ، إذ بلغ عدد الذين عرفوا فتاويه عشرة أشخاص فقط ، ولم يصل ما ورد عنهم من فتاويه نسبة 10٪ ؛ وفقًا للبيانات السابقة لابن عساكر. إن هم أصحابهم تضَّر من توثيق المعلومات ومناقشة القضايا وإيجاد الاجتهاد ، ولذلك يحكي ابن عساكر أن مفتي أهل الشام المعاصر للأوزاعي الإمام سعيد بن عبد العزيز التنوخي (ت 167هـ/784م) كان يلوم أصحاب الأوزاعي ويقول لهم: “لماذا لا تجتمعون؟! لماذا لا تتذكرون؟!”.
وعندما انتقل مذهب الأوزاعي
انتقلت إلى الأندلس واجهت مشكلة الاهتمام العلمي نفسها؛ إذ يقول القاضي المصعب بن عمران عنه ابن الفرضي -في ‘تاريخ علماء الأندلس‘- أنه “راوية من الأوْزَاعِيّ وغيره من الشاميين، وروى عن المدنيين، وكان لا يقلد مَذْهَباً ويقضي بما رآه صَوَاباً”، وحدث نفس الشيء مع الليث بن سعد ووصفه الشافعي بقوله وفقا للذهبي: “اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِلَّا أَنَّهُ ضَيَّعَهُ أَصْحَابُهُ”.
قد يؤدي الانقسام في البلدان إلى إنحسار المذاهب؛ لأن هذا التباعد يعوق التراكم المعرفي والترويج للمذهب بنشره والدفاع عنه، ويجب أن يكون له مركز يعززه. ولاحظنا توزيع أصحاب الثوري بين مدن مختلفة، وكذلك توزع أتباع أبي ثور بين عدة مدن أيضا.
قد يؤدي انقراض المذاهب إلى زوالها عند وفاة تلاميذ مؤسسيها قبل انتقال العلم إليهم؛ كما حدث مع مذهب الأوزاعي في الشام ومذهب الثوري والظاهرية. ومحاولة إحياء المذهب الاندثار بدون وجود الشيوخ قد يعتبر بمثابة ابتداع حسب ابن خلدون.
تؤثر اهتمامات البيئة العلمية على نضج التلاميذ وقدراتهم الاستيعابية، ويمكن ربط تقصير تلاميذ الليث بن سعد بالنقص في التراكم العلمي الضروري للتحصيل العلمي، وضرورة التدوين الصحيح للروايات المذهبية.
المنازعات الفقهية قد تؤدي إلى عزل المذهب والهجوم عليه؛ كما حدث بين الحنابلة والطبري. ويمكن أن تسوء العلاقة بين الفقيه وبقية الفقهاء والجمهور بسبب سلوكه العدائي وأسلوبه القاسي في الرد.
حسابات سلطوية
تؤثر اهتمامات البيئة العلمية على نضج التلاميذ وقدراتهم الاستيعابية ووعيهم بأهمية العالم وقيمة علمه ونشره؛ ومن هنا يمكن إرجاع تقصير تلاميذ الليث بن سعد لافتقاد المصريين في تلك الحقبة إلى التراكم العلمي اللازم للتحصيل، وإتقان التدوين المحصِّن للروايات المذهبية من التلاشي.
فرغم كثرة تصانيف الليث حتى وصفه الذهبي بأنه “إمام حجة كثير التصانيف”؛ فقد ظل المصريون طول القرن الأول/السابع الميلادي ميّالين لروايات الفتن والملاحم وفضائل الأعمال، حتى ظهر يزيد بن أبي حبيب النوبي (ت 128هـ/746م) وهو من شيوخ الليث.
وفي المقابل، قد تؤدي منازعات البيئة الفقهية إلى عزل المذهب والإجهاز عليه في مهده؛ كما وقع بين الحنابلة -متحالفةً مع الظاهرية- والطبري، رغم أنه كان -بشهادة الإمام المحدّث ابن خزيمة- مظلوما في هذا الخلاف.
وقد تسوء العلاقة بين فقيه ما وبقية الفقهاء ومع الجمهور بسبب هجومه عليهم، وحدّة أسلوبه في الرد؛ فتنقطع.
تصل علوته بسائر الفقهاء وعامة الجماهير ويُخضع للحصار الظالم، وفي ضوء التبادل الهجومي والتعصب الديني لا يستطيع مذهب الصمود وتحقيق الاعتماد الاجتماعي الضروري للانتشار والتجديد. وابن حزم قدّم نموذجا على ذلك؛ حيث اقترنت هجوميته في مواجهة خصومه، وقد صور لنا ابن بسام الشَّنْتَرِيني (ت 542هـ/1147م) حالته بتحدٍ، وصرح قائلاً: “لم يعطف تصريحه بما يمتلكه بتساهل..، بل قاوم اعتراضاته بحزم..، وضرب بها كما يضرب الصخر..، فصده قلوب..، حتى استنكره فقهاء عصره فاستنكلوا من كراهيته، ورفضوا قوله واتفقوا على ضلاله، وشنفوا عليه وحذروا حكّامهم من فتنته، ونهوا جماهيرهم عن التقرب منه وتلقي دروسه، فينفجر الملوك بإقالته.. من بقاعهم”!!
لم تخل مسيرة المذاهب المتلاشية من تأثيرات السياسة وأمزجة الحكام المتقلبة نحو العلاقة بين الحكام والمفتين؛ فعانى العباسيون من سفيان الثوري بشكل لم يستطعوا معه التكيف، ويرسم الخطيب البغدادي جزءًا من هذا، حيث يقول: “أمر [الخليفة العباسي] أبو جعفر المنصور الخشّابين -عند خروجه إلى مكة (حاجًّا 158هـ/775م)- بالتصدي لسفيان الثوري، فأُعدِم ذلك، ودعي [للإعدام]: سفيان”! ثم نجى من الموت بسبب وفاة المنصور المفاجئة في مكة!!
أما الأوزاعي، فقد هرب من دمشق عندما احتلها العباسيون، وعند لقائه بأميرهم عبد الله بن علي العباسي تصدى له -كما ذُكر سابقاً- بجرأة في ابادة بني أمية ونهب ثرواتهم، وبعد ذلك اضطرّ إلى الاقامة في بيروت مدافعاً عن نفسه حتى فارق الحياة. وربما كانت هذه أيضا سبباً آخر لعدم اهتمامه بنشر المعرفة ايماناً بالتزامه.
وقد أدى ظهور شخصية علمية مؤثرة لدى القيمة الأموية في الأندلس كيحيى بن يحيى الليثي المالكي (ت 234هـ/849م) إلى انحسار مذهب الأوزاعي هناك؛ نظراً لأن القيمة كانت تعين القضاة بمشورة الليثي، فانحدر الناس -حرصاً على مصالحهم في الغالب- نحو فقه الإمام مالك باعتبارهم مرجعهم؛ كما يصرح الذهبي. ووصل الأمر فيما بعد الى ما خلاصته القاضي عياض بقوله ان الأمير المستنصر الحَكَم (ت 366هـ/977م) ارسل رسالة تضمنت: “كلّ مَن انحرف عن مذهب مالك فإنه ضعف قلبه، وأظهر له سوء اعماله”!!
وبتأثير هذا المذهبي لدى القيمة؛ فسر ابن عقيل الحنبلي تفوّق المذهبين الحنفي والشافعي على نظيرهما الحنبلي؛ فقال -وفق ما نقل عنه ابن الجوزي في ‘مناقب أحمد بن حنبل’- ان “هذا المذهب (= الحنبلي) فُتن بأعضائه؛ لأن أتباع أبي حنيفة والشافعي عندما برع أحد منهما اخذ بالقضاء وغيره من الولايات، فكانت الولاية سبباً في تعلمه وانشغاله بالعلم؛ أما اتباع أحمد فقد نقص فيهم من يعلم بجزء من العلم إلا ويأخذه الى العبادة والزهد”!!
المؤثرات المحيطة
وهذا التوجه الحكومي لصالح مذهب معين؛ هو نفسه الذي تعرض له مذهب الظاهري في الأندلس متمثلا في مشروع ابن حزم الذي فارق الحياة وحيدا ومنبوذا بأمر من امير إشبيلية المعتضد بن عباد (ت 461هـ/1069م)! بالاضافة الى خلافاته مع الفقهاء؛ كان ابن حزم متجها نحو بني أمية بانتماؤه لهم بشدة مما أثار استياء ملوك الطوائف، كما ينقل الشنتريني واضحا الجانب السياسي في تحدياته: “وكان من المؤثرات المتنامية تشبعه لأمراء بني أمية السابقين والمتبقين بالمشرق والأندلس، واعتقاده بصحة إمامتهم، وانحرافه عن غيرهم من قبيلة قريش”.
كما ان تغيرات السياسة والتوازنات النسبية في مراكز السلطة تنعكس على المدن والهندسة المعمارية فيها؛ اذ تواجد عاصمة لدولة ما في نطاق معين يمنحها استقرارا وتمكينا ورخاء يعكس على المذهب السائد فيها، كما وواكبنا في المذاهب التي ظهرت مع تأسيس الدولة العباسية وقوتها، كالحنفية في العراق والمالكية في الحجاز.
وعلى الجانب الآخر؛ فان مذهب الأوزاعي -والذي يعتبر بشكل أساسي مذهب أهل الشام- تزامنت نشأته مع نهاية الدولة الاموية التي كانت مركزها دمشق، فطوى العمران والنشاط العلمي عنه مع تحوله الى العراق، مما أدى الى ما شهدته ابن خلدون من انقطاع لسلسلة التعليم عن منطقة معينة “بذوبان عمرانها ونقصان الدول فيها، والذي يترتب عن ذلك من نقص الصناعات وانقراضها”.
ويرى ابن خلدون بأن نجاعة مذهب أبي حنيفة تعود الى ان “منهجه تختص بالعراق والدار السّلام (= بغداد)، وكان تلاميذه عباد الخلفاء من بني العباس”. وعلى الجانب المقابل؛ يشير الى ضعف مذهب مالك في العراق بقول
“وبعد فقدان [أبي بكر] البراهين (زعيم المالكية في العراق توفي عام 375هـ/986م) وكبار رفاقه بسبب مُلاحقتهم، وانتقال النخبة القضائية بعيدًا عن مسيرتهم ليتجهوا إلى مذهب الشافعي وأبي حنيفة؛ تضاءلت شعبية مذهب المالك في العراق، وانقبض الطلب على اتباعه من قبل الناس ذوي السلطة والمرأي.”
وفي ضوء هذا السياق، يفسر ابن حزم انتشار مذهبي المالكية والحنفية في دوائرهما؛ حيث يقول -كما رُوي عن تلميذه الحميدي في ‘جذوة المقتبِس’- أنهما “مذاهب انتشرت في بداية حكمهما بالسلطة والحكم”، مضيفًا: “وكان الناس مُتسابقين نحو الدنيا والحكم، فاندفعوا نحو ما يأملون في تحقيق أهدافهم به”!! ويلمح الحميدي أيضًا إلى تأثير الإمام سحنون المالكي (توفي عام 240/855م) على أهل القيروان والمغرب خلال فترة حكمه القضائي، حيث كان لمذهب الحنفية حضورٌ قويٌ في تلك الأوقات مما زاد من تألقه وسط القيروانيين والمغاربة.
وتصدى مذهب الأوزاعي وغيره في الأندلس لمنافسة شديدة من قبل مذهب المالك الذي حسمته السلطة لصالحه؛ ويروي القاضي عياض المالكي نتيجة تلك المنافسة قائلًا: “اعتم الناس في الأندلس هذا المذهب، وحموهم بالقوة من أجله دون غيره بشكل شامل، وجلبوا معهم إلى هناك بعضًا من مذاهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وداود، لكنهم لم ينجحوا في نشرها واندثروا مع مرور الزمان بسبب عدم اهتمام البعض بها”!!
ويبدو أيضًا أن الظروف الجغرافية وطرق رحلات طلبة العلم تلعب دورًا في تأثيرهم بنقل المذاهب؛ حيث ظهر مذهب المالك بشكل واسع في المغرب والأندلس بسبب انتهاء رحلات الأندلسيين في المدينة المنورة، ممّا يعني عدم حاجتهم لمرورهم في الشام الذي يحتضن مذهب الأوزاعي. وبالإضافة إلى ذلك، تقتبس البلدان التي تشترك اجتماعيًا المذاهب من بعضها البعض؛ فالبدوية -على حد تعبير ابن خلدون- تعتبر عامل مشترك بين الحجاز ومذهب المالك وبيئة الأندلس والمغرب، مما ساعد على انتشاره وتفوقه على حساب مذهب الأوزاعي، على الرغم من تواجد الأخير بالفعل في الأندلس وبين المهاجرين الأوائل القادمين من الشام!!