ضعف الإنسان وتَبَدُّل أحواله
ولكن الموتة الأحدث أوقفتني – هذه المرة – أمام آية خِلتُ أنني أقرؤها للمرة الأولى على بداهتها، مستعيدًا فيها شريطًا من الذكريات محورُه الثابت هو تَغيّر أحوال الإنسان. تقول الآية: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقكم من ضعف، ثمّ جَعَلَ من بَعد ضَعْف قوّة، ثمّ جَعَلَ مِن بَعد قوّة ضعْفًا وَشَيْبَةً. يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وهُو الْعَلِيمُ القَدير)، وهذا الضعف الذي يُحيط بالإنسان من مبدئه إلى منتهاه وإن تخلله قوةٌ، تؤكده آية أخرى فتقول: (وخُلق الإنسان ضعيفًا)، وآية ثالثة فتقول: (وَمنكم مَن يُردّ إلى أَرذل العمُر لكيلا يَعلم من بَعد علمٍ شَيئًا). تلحّ هذه الآيات الثلاث على وصف الضعف الذي يَلف الإنسان لفًّا، وتقرر حقيقة أن أحواله في تغير مستمر.
وإذا وسعنا الدائرة قليلًا، فسنجد آيات كثيرة في القرآن تتناول جوانب مختلفة من الإنسان كالجوانب الوجودية والنفسية والخُلقية وغيرها، وكأنها – بمجموعها – تكتب سيرة للإنسان تختلف عن نمط السير التي يكتبها الإنسان عادة عن نفسه، وإذا ما حملنا (أل) الواردة في لفظ “الإنسان” – في هذه الآيات – على الجنس أو النوع، فستكون هذه السيرة هي سيرة النوع الإنساني، وإذا حملناها على (أل) العهد وقصرناها على سياقات مخصوصة لتلك الآيات فستكون هذه السيرة هي سيرة نمط أو نوعٍ معين من أنواع البشر.
أحد ملامح هذه السيرة المختلفة – كما تبدو في القرآن – هو أنها تتناول جوانب نفسية الإنسان وتَذَبذب انفعالاته السلوكية، وتكشف عن طبائعه وأخلاقه في أحواله المتبدلة باستمرار. فمن الآيات التي تتحدث عن جوانبه النفسية: (وإذا مسّه الشّرّ كان يئُوسًا) (إنّ الإنسان خلق هلوعًا)، ومن الآيات التي تتحدث عن طبائعه وأخلاقه: (خلق الإنسان من عجل) (وكان الإنسان عجولًا)، (وإذا مسّ الإنسان الضّرّ دعانا لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا) (ولئن أذقنا الإنسان منّا رحمةً ثمّ نزعناها منه إنّه ليئُوسٌ كفورٌ) (إنّ الإنسان لظلومٌ كفّارٌ) (وكان الإنسان كفورًا) ( إنّه كان ظلومًا جهولًا) (فإذا مسّ الإنسان ضرٌّ دعانا ثمّ إذا خوّلناه نعمةً منّا قال إنّما أوتيته على علم) (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسّه الشّرّ فيئوسٌ قنوطٌ) (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسّه الشّرّ فذو دعاء عريض) (قتل الإنسان ما أكفره) (كلّا إنّ الإنسان ليطغى) (وكان الإنسان قتورًا) (وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا).
ولكن الآية المفتاحية – لنسمِّها آية الضعف – التي استدعت مني كل هذا التأمل في سيرة الإنسان التي يرسمها القرآن، ترسم خطًّا بيانيًّا لوجوده الدنيوي، وتفصح عن أن وجود نوع الإنسان معجونٌ بالضعف؛ سواءٌ لجهة مادة إيجاده أم لجهة المراحل والتبدلات التي يمر بها خلال عمره القصير، وأن قوته العارضة محاطة بضعفين؛ ضعف البداية وضعف النهاية الذي تُختم به حياته الدنيوية التي انطوت على كبدٍ (لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) و(يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إنَّكَ كَادحٌ إِلَى ربّكَ كَدحًا فَمُلَاقِيهِ).
ولكن ما ملامح هذا الضعف الذي يَسِم سيرة نوع الإنسان؟
من الناحية اللغوية والنحوية نلاحظ أمرَين في الآية: أولهما أن الضَعف والضُّعف لغتان في العربية وقراءتان في الآية، وثانيهما: أن كلمة “ضعف” تكررت بصيغة التنكير. ويمكن لهذين الأمرين اللغويين أن يشكلا مفتاحًا لفهم الضعف وأبعاده المتراكبة كما سنوضح. فالضُّعف بالضم هو لغة قريش، والضَّعف بالفتح هو لغة تميم، والمعنى العام لكلا اللفظين هو أنهما خلاف القوة، ولكن كثيرًا من اللغويين ميز بين اللفظين لجهة المعنى، وأن الفرق بينهما ليس مجرد فرق لفظي، وذلك أن الضَّعف – بالفتح – يكون فيما يخص العقل والرأي، والضُّعف – بالضم – يكون في الأمور الجسدية. وقد ذهب بعضهم إلى تفسير الضعف هنا تفسيرًا قرآنيًّا، وأنه يُحيل إلى مادة الخَلق، وهي النطفة وأنها (ماء مَهين).
أما تنكير ضعف فقد خرج هنا عن القاعدة التي قررها النحاة، وهي أن النكرة إذا أعيدت نكرةً كان معنى النكرة الثانية غير معنى النكرة الأولى، وآية الضعف مثالٌ من أربعة أمثلة تخرج عن تلك القاعدة النحوية؛ لأن الضعف هنا هو نفسه وإن تكرر بصيغة التنكير؛ فهو يحيل إلى الضعف بوصفه نوعًا لا فردًا، فيشمل ألوانًا متنوعة من الضعف كما سنوضح، كما أن القوة التي تتوسط بين ضعفين هي للنوعية أيضًا.
وكون الضعف الذي يُحيط بالمسار الوجودي للإنسان في هذه الحياة ضعفًا نوعيًّا، يفتح آفاقًا دلالية رحبة لمفهوم الضعف في القرآن، وخصوصًا إذا استحضرنا الآية الأخرى التي تقول: (وخُلق الإنسان ضعيفًا)، بحيث يصبح الضعف ملازمًا لخَلق الإنسان وتقلب أحواله الوجودية، ويمكن أن نتحدث هنا عن أربعة مستويات للضعف:
- الأول:أن ضعفه هو بالمقارنة بالملأ الأعلى، وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى: (أَأنتم أَشَدُّ خَلقًا أَم السّماءُ).
- الثاني: الضعف البنيوي، أي باعتبار الإنسان بنفسه استقلالًا من دون ما يقوّيه من فيض الله ومعونته، ومن ثم زاد الإمام الراغب الأصفهاني نوعًا من الفضائل سماه “الفضائل التوفيقية” ثم تابعه على ذلك الإمام أبو حامد الغزالي، وهذا النوع أحد الإضافات الإسلامية على مصفوفة الفضائل اليونانية. وإلا فإذا “اعتُبر الإنسان بعقله وما أعطاه الله من القوة التي يتمكّن بها من خلافته في أرضه ويتبلّغ بها في الآخرة إلى جواره – تعالى – فهو أقوى ما في هذا العالم”، كما قال الراغب.
- الثالث: الضعف باعتبار كثرة حاجات الإنسان في وجوده الدنيوي، ومن ثم يفتقر بعض الناس إلى بعض، ومن هذا الباب جرى علماء الإسلام على القول: إن الإنسان مدنيّ بطبعه (نسبة إلى المدينة)، أي أنه اجتماعيّ، ومن ثم جرت تقويته بالعبادات والشعائر الجماعية (كالجماعة والجمعة والعيدين وغير ذلك) من جهة، وبمنظومة من الأحكام الفقهية والأخلاقية التي تنظم علاقته بغيره وتصون حقوقه وحقوق غيره من جهة أخرى. ومن هذا الباب يمكن رد الفقه الإسلامي – بكل تفصيلاته – إلى منظومة ثلاثية هي: حقوق العباد، وحقوق الله، والحقوق المشتركة بين الله والعباد، ويمكن إضافة رابع لها وهو حقوق الحيوان.
- الرابع: الضعف باعتبار مبدأ الإنسان ومنتهاه، وآية الضعف هي نصّ في هذا النوع من الضعف الذي يتعلق بتبدل أحوال الإنسان بحسب الجسم والروح والمكان والزمان. فخَلق الإنسان من نطفة أو من ماء مَهين يؤكد مبلغ الضعف في نشأته منذ البداية (خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُطفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)، كما أن الشيبة التي قُرنت بالضعف الأخير الذي يَعقب القوة، إيماءٌ إلى أن هذا الضعف لا قوة بعده، وأن بعده العدم، ولهذا شاع أن الشيب نذير الموت وهو نهاية أحوال الإنسان وتبدلاته، وهو ما أشار إليه القرآن في موضع آخر بعبارة “أرذل العمر” بدل الشيبة (وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلَى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَيلا يَعلَمَ مَن بَعدِ عِلمٍ شَيئًا)، حيث يحصل للإنسان – في هذه السن – ضعف القوى البدنية والعقلية والنفسية، ولهذا قال: (لِكَيلا يَعلَمَ مَن بَعدِ عِلمٍ شَيئًا)، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يدعو: اللهم أعوذ بك من البخل والكسل والهرم، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات.
ومن المهم أن هذا الضعف الذي يحيط بالإنسان من كل جانب في سيرته الوجودية في الحياة الدنيا، قُدّم في آية الضعف على أنه دليلٌ على أمرَين:
- الأول:أنه دليل على علم الله – تعالى – وكمال قدرته التي لا يلحقها إعياء ولا ضعف ولا نقص بوجه من الوجوه، وقد أظهر الله – تعالى – هذا الدليل من خلال ذكر أحوال الإنسان التي تنتمي إلى دلائل الأنفس، ومن خلال أحوال الريح التي جاء ذكرها قبل ذكر أحوال الإنسان والتي تنتمي إلى دلائل الآفاق وهي قوله: (اللَّهُ الَّذِى يُرسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا)، كما لفت إلى ذلك غير واحد من المفسرين منهم الإمام فخر الدين الرازي.
- الثاني:إمكانية البعث يوم القيامة، وتقريب حصوله إلى عقول منكريه؛ لأن تعدد صور إيجاد المخلوقات وكيفياته من ابتدائها عن عدم، أو من إعادتها بعد انعدامها، بتطور ومن دونه، مما يزيد إمكان البعث وضوحًا عند منكريه، كما قال الشيخ الطاهر بن عاشور.
ورغم أن الآية تقرر حقائق قد تبدو بديهية؛ إذ إنها تتصل بسنن الله في الأنفس، إلا أن الغاية من تقريرها والإفصاح بها أمران:
- الأول: التذكير بالضعف والوعظ به أيضًا؛ لأن نزوع الإنسان نحو النسيان والطغيان والتسلط قد يُنسيه ضعفه وأن أحواله لا تستقر على حال، لا في القوة ولا في المكان والمكانة، ولذلك كان من حكمة الله – سبحانه – أن يُري العبد ضعفه، وأن قوة العبد تتوسط بين ضعفين، ولولا تقوية الله له لما وصل إليها، بل لو استمرَّت قوة الإنسان في الزيادة لطغى وبغى وعتا.
- الثاني: الإخبار عن الدنيا بأنها دار زوال وانتقال، لا دوام فيها ولا اسقرار، والحثّ على التعقل وترك التهور، ولهذا قال – عز وجل -: (أَفَلا يَعقِلُونَ)؛ أي يتفكرون في سيرتهم وتبدل أحوالهم ثم صيرورتهم إلى مرحلة الضعف الأخير والشيبة، وذلك أنهم إنما خُلقوا لدار أخرى لا زوال لها ولا انتقال منها ولا محيد عنها.
رابط المصدر