عذّبه الأسد الأب وشهد الابن هروبه.. محمد برو وقصة العدالة المتأخرة لنصف قرن

Photo of author

By العربية الآن

عذّبه الأسد الأب وشهد فرار الابن.. محمد برو وعدالة تأخرت نصف قرن

محمد برو بثيمة فنجان حبر المصدر: الجزيرة - ميدجورني
محمد برو بثيمة فنجان حبر (الجزيرة – ميدغورني)

هذا اللقاء تأخر في كتابته لشهور، حيث حمل من الألم أكثر مما يمكن تحمله في العمل الصحفي، ومن الكآبة ما يعيق الضوء عن البروز، ومن العبثية ما يضل فيه الهادي.

سلمني محمد برو، الرجل الستيني الذي دخل السجن في طفولته وخرج منه في الثلاثين، كتابه الذي يحمل مذكراته في سجن تدمر. أخذته بيميني ووضعت الكتاب في مكتبي دون أن أجرؤ على فتحه.

كان لي اهتمام غريب بقراءة أدب السجون خلال سنوات الجامعة، لكن ما عجزت عن تحمله هذه المرة هو آلام صديق قريب ألتقيه كلما زرت إسطنبول. هنا صار الألم شخصياً لا مجرد رواية.

طلبت منه أن نجتمع لأسمع قصته بلطف، دون أن أتطرق لتفاصيل الرعب التي تكتنزها حكايته كمراهق اعتقد السجانون أنه أصغر من أن يُقتل وأكبر من أن يُطلق سراحه، وظل يتألم لأكثر من عقد.

شرعت بتسجيل اللقاء صوتياً، لكنني ترددت في تفريغه بسبب قسوته بشهرته وألمه. وهذا تحذير للقارئ الذي يزعجه التصوير الدموي للأحداث؛ عليك بالتوقف هنا.

أجلس اليوم في بهو فندق الشيراتون بحلب لأكتب هذه المادة قرب مكان اعتقالك، دون الالتفات خلفي خوفاً من رجال الأمن. لقد انتهى البعث، ومات حافظ الأسد، وهرب بشار. وأنا الآن بجوار “باب الفرج” أكتب قصتك. هذه عدالة شعرية تستحق التوثيق، وقد أصبح الألم قابلاً للتداول بعد أن حصلنا على نهاية سعيدة.

“كل السجون في العالم مكان للحبس يطل على الحياة، إلا سجون الأسد فهي نوافذ على الجحيم.”

الحياة في سجون تدمر

في ساعة متأخرة من ليل أغسطس/آب عام 1980، وفي قلب صحراء تدمر، كانت سيارة نقل السجناء مزدحمة بالسجناء الذين تكدسوا في صندوقها مثل سمك السردين.

رائحة العرق والدماء والخوف كانت تزكم أنف الشاب المدفون بين أجساد السجناء، والذي لم يكمل تعليم الثانوية. كان يُنقل إليهم شتائم الجنود وعصيّهم، مما أضاف من الرعب إلى الموقف. وصف تقرير منظمة العفو الدولية في عام 2001 السجن بأنه “مصمم لإنزال أكبر قدر من المعاناة والإذلال والخوف بالنزلاء”.

رافعًا نظري، رأيت لافتة بالكاد واضحة كتب عليها بخط رديء “الداخل مفقود والخارج مولود”. كانت إشارة لرغبتهم في تدمير الروح بأكثر الطرق إيلاماً.

اجتمع حولهم السجّانون لخدمة الفوج الجديد؛ 100 سجين من مختلف الأعمار، بين شيخ ستيني وطفل لم يبلغ السادسة عشرة بعد.

انطلق أحد السجّانين بكابل حديدي وسقط به على جسد شاب مفتول العضلات، مما أدى إلى بدء حفلة التعذيب. كان خلدون زميل برو في الثانوية وأكبر منه سناً، وجسد ضخامته كان يشجع الجلاد على تعذيبه بطريقة وحشية.

قرر خلدون أن يتحمل التعذيب دون أن يصرخ أو يظهر ضعفه، لكن هذا كان بمثابة تحريض على مزيد من العنف من الجلاد، الذي استمر في ضربه بعنف حتى توقف جسد خلدون عن مقاومته.

دخل المدير ورأى ما حدث، فتعجب من هول الجريمة وتلا ذلك الأسئلة التي بدت صرخات ضعيفة بقيت بلا إجابة.

كان واضحاً أن الحياة داخل جدران هذا السجن لا تساوي شيئاً أمام سجان أرعن.

لقاء مؤثر في 2024

كتبت لمحمد برو (أبي سلام) في الساعة 1:57 م “لقد وصلت إلى المقهى”.

رد بسرعة “قريب، في الطريق إليك”.

في الساعة 1:59، دخل المقهى رجل طويل ذو لحية حليقة وشارب مهذّب، يظهر عليه الزمن بمظهر متأنق.

كان أبو سلام في عمر نظام البعث الذي انتهى، إذ يبلغ من العمر 61 عامًا. وقف في وسط المقهى المزدحم ورماني بنظرة اعتراف، ثم طلب قهوة اسبريسو كما اعتاد على ذلك.

“نعيمًا، يبدو أنك قادم من الحلّاق!”## حكاية محمد برو: من الطفولة إلى الاعتقال

### نشأة محمد برو
“لا أتذكر آخر مرة زرت فيها الحلاق، لأنني لا أسمح لأيدي الغرباء بالاقتراب من وجهي، فهذا من اختصاص أم سلام. فالزوجة الصالحة قادرة على تزيين وجه زوجها كما تزين الأطباق التي تملأ بها بطنه”، هكذا ابتدأ حديثه بنبرة تجمع بين الجد والمرح، وهو يقترب من فنجانه ويدفع كرسيه للخلف لينعم بمساحة أكبر.

ابتسمت وسألته: “متى ولدت؟”.

“في عيد العمال عام 1963″، قال.

“في الفاتح من مايو؟” سألت متعجبًا.

“عذرًا، هذا تاريخ اعتقالي. ولدت في التاسع من يونيو!” رد بحدة.

### أصوله وتراثه
“لسنا عائلة حلبية في الأصل، بل إن أصولنا تركية من حارم، ووالدتي من منبج. انتقل والدي إلى حلب، وكان جدي من غازي عنتاب. لو كانت لدينا ورقة تثبت ذلك، لتمكنّا من الحصول على الجنسية التركية بسرعة”، أوضح محمد بصوت يحمل شعور الإحباط من البيروقراطية التركية التي واجهها على مدى عشر سنوات.

#### معنى “برو”
وبالنسبة لاسمه الثاني “برو”، قال إنه تصغير لإبراهيم. وعندما أمضى طفولته في حي الميدان بحلب، حيث يعيش المسيحيون والأكراد، لم تُفصل بين الأعراق، بل كانت العلاقات طيبة وعائلية.

### 1963: عام التحولات السياسية
في مارس 1963، قام حزب البعث السوري بانقلاب عسكري على الرئيس ناظم القدسي، ليبدأ نظام من القمع والاستبداد. وخرج السوريون إلى الشوارع تحت وطأة حالة الطوارئ التي دخلت حيز التنفيذ، والتي استمرت حتى عام 2011.

### ذكريات من المدرسة
“أذكر حادثة واحدة حين دخل أزلام النظام إلى المدرسة وضربوا المدرسين الناصريين. لا يزال منظر المدير وهو يتعرض للضرب ماثلاً أمامي”، قال محمد.

#### تأثير النظام على السوريين
“أثرت عدة تغيرات على حياة السوريين بعد حكم حافظ الأسد، لكن بالنسبة لي كانت حياتي على وشك التغير بسبب كومة أوراق اسمها ‘النذير’!”، وأوضح أنه كان يحمل المجلة التي هي بمثابة سلاح في زمن الاستبداد.

### المجلة واعتقال الأصدقاء
“كانت ‘النذير’ توزع ليلاً، واحتوت على فضائح النظام وعمليات الطليعة المقاتلة. لم أكن على علاقة بأي تنظيم، ولكنني كنت متحمسًا لها ووزعتها على زملائي، حتى استدعانا المدير”، وتحدث عن كيف اعتقل أصدقاؤه السبعة من المدرسة بسبب ذلك.

### تجربة الاعتقال
“استيقظت فجرًا على صوت البارود مرارًا على خاصرتي، ورأيت أكثر من 30 عنصرًا من المخابرات يدخلون منزلي. حاول والدي إقناعهم بأخذي إلى قسم الشرطة”.

عند دخوله للفرع، قال له الضابط: “أرجو أن تعترف، نحن لا نريد أن نؤذيك احترامًا لوالدك. لقد اعترف أصدقاؤك بكل شيء”.

“لكنني لم أعترف على شيء، بل أكدت أنني فقط أخذت المجلة ووزعتها”، وتذكر كيف كانت غرفة التحقيق مليئة برائحة الدم والقيح.

### القمع والاعتقالات الجماعية
“في 1980، تم الاعتقال بناءً على الشبهات. كان الهدف تفكيك المجتمع السني في حلب. مثال على ذلك، في يوليو من نفس العام، أخذ أحد الشباب رهينة لإطلاق سراح أخيه المطلوب، ولكن بدلاً من إطلاق سراحه، قُتل في الشارع!”.

محمد برو، من هنا نعيش تفاصيل حياته، حيث يُظهر معاناته ومعاناة الشعب السوري تحت نظام قمعي.

رابط المصدر

# 13 عامًا مرت!

لقد سعى النظام السوري إلى إرهاب السوريين، ونجح في ذلك. حتى اليوم، عندما يجتمع السوريون ويذكرون النظام، يتحدثون بهمس وكأن جندي مخابرات يراقبهم.

## آمال غير متوقعة

لم يكن في بال أبي سلام أنه بعد أشهر من حديثنا، سأكتشف كتابه في مقاهي حلب وأناقش الوضع السياسي للفصائل الثورية في شوارع الشام دون أي خوف.

## ما الذي فعلوه بكم؟

قال أحد المعتقلين: “بعد 18 يوماً من التحقيق نقلونا إلى سجن حلب المركزي وكانت المعاملة معقولة. ولكن بعد فترة، بدأت حفلات التعذيب”.

عندما سألته عن سبب التعذيب رغم أنهم لا يبحثون عن معلومات جديدة، أجاب: “التعذيب في السجن هو للانتقام وإشباع نزواتهم. كانوا يعذبوننا، يأخذوننا عراة إلى ساحة مليئة بالحجارة الحادة والشوك.”

## نتائج التحقيق

نُقلنا إلى تدمر في صيف 1980. بعد شهر، نقلونا إلى المحكمة في سيارة مصفحة، وكم كان الوضع قاسياً عندما صفونا في انتظار تعرضنا للضرب.

“لماذا هذا العنف؟” سألت. فأجاب: “هذه طبيعة الأمور، هم يعبرون عن ولائهم بطريقة مؤلمة للجميع”.

تحدث عن القاضي الذي كان يجلس وراء طاولة ردئية، حيث كان يتم اتهامة المعتقلين بطريقة آلية، وأكد أنه تم الحكم عليه بالإعدام بتهمة كتم المعلومات.

## أسئلة حول العنف

“لا أستطيع فهم هذا العنف. هل كل هذا لخدمة هدف ما؟” سألت باستغراب. قال: “حافظ الأسد كان يبحث عن السيطرة على عقول الشعب وإقناعهم بالخوف من حكومته. حتى العمليات والإعدامات كانت تُصوّر له”.

## عدد السجناء في تدمر

وفيما يتعلق بعدد السجناء، أوضح: “كان يعبر عن سياسة الباب الدوار، حيث يتم إعدام 400 سجين واستبدالهم بسجناء جدد”.

## أسوأ الفترات في السجن

عندما سُئل عن أشد فترة مر بها، أجاب: “كانت في عام 1982 عندما حدثت تعديلات في إدارة السجن. كنا نُجلد بشكل قاسٍ حتى وصل عدد الجلدات إلى 500 يوميًا”.

## كيف يتقبل الإنسان التعذيب؟

يقول: “لا يعتاد الإنسان على التعذيب، ولكن الهول الذي يصاحب العذاب هو الأكثر تأثيراً. السجان الجيد يعرف كيف يحافظ على هذا الهول يلعب دوراً مهماً”.

## الإيمان كوسيلة للبقاء

على الرغم من كل هذه الصعوبات، قال: “كان هناك إيمان قوي بين المعتقلين. كنا نقرأ 5 أجزاء من القرآن يومياً”.

## العزلة وعدم التعاطف

سألته: “لماذا لم يتعاطف معكم أحد؟” فأجاب: “الإدمان على التعذيب جعل بعض الجلادين يتجاوزون الحدود المسموح بها. كان السجن قاسياً، وكنا نرى عمليات الإعدام من خلف الأبواب”.

تذكر السجان الوحيد الذي أبدى بعض التعاطف، وكيف كانت كلماته بالنسبة لهم مصدر أمل.# التحولات في حياة السجناء: تجربة محمد برو

بعد ثماني سنوات من الإقامة في سجن تدمر، تم نقل محمد برو مع مجموعة من السجناء إلى سجن صيدنايا، ليبدأ فصل جديد من حياته.

## المقارنة بين سجون تدمر وصيدنايا

صعوبة المقارنة بين سجن صيدنايا وسجن تدمر واضحة. فبينما تم تأسيس صيدنايا لاستقبال الزيارات الرسمية ومنظمات حقوق الإنسان، كانت تدمر مكانًا يتمنى فيه السجناء الموت. ففارق الطعام في السجنين كان شاسعًا، بينما كان هناك فتات من بيضة في تدمر، كان بإمكان السجناء في صيدنايا تناول بيضة كاملة وحبتين من الزيتون.

## الأيام الأخيرة من النظام

في عام 1993، أُفرج عن محمد برو ليبدأ رحلة جديدة في العالم الخارجي. وفي الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، سقط نظام البعث في سوريا، مما أظهر العديد من السجون والمقابر الجماعية، إحداها تحتوي على 100 ألف جثة، ولا يزال هناك أكثر من 300 ألف شخص مفقود.

## رسالة إلى أبي سلام

بعد الانتهاء من كتابة مقاله، قرر برو إرسال رسالة إلى أبي سلام في حلب، معبرًا عن سعادته وسؤاله عن شعوره تجاه هروب الأسد من سوريا.

## ردود الأفعال بعد انهيار الأسد

وصل رد أبي سلام، قائلاً إنه يجب أن يلتقوا لتناول العشاء في مطعم وانيس وأنه يجب أن يحضر الفاتورة. استذكر أبو سلام حياته التي نشأ فيها مع كراهية نظام البعث، وتذكر كيف شعر عند وفاة حافظ الأسد قبل 24 عامًا.

تحدث برو عن خيبة الأمل التي شعر بها لدى سماع خبر وفاة حافظ الأسد، حيث كانت توقعاته باندلاع فرحة واسعة في البلاد لم تتحقق، بل خيمت أجواء من الحزن والترقب.

## التحولات الحالية

اليوم الوضع مختلف تمامًا، فبشار الأسد لم يمت، بل فر مع معاونيه، وسقط نظامه، مما يفتح أفقًا جديدًا للحياة في سوريا. ورغم أن الفرح الحالي ينطوي على ألم وخسائر مئات الآلاف من الشهداء، إلا أن برو يدرك أن هذه اللحظة من الفرح لن تتكرر في السنوات المئة القادمة.

إعلان
المصدر : الجزيرة

رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.