عملية الأربعين.. خيبة أمل كبرى رغم النجاح العملياتي
شنّ حزب الله “عمليّة الأربعين” الانتقامية ضد الكيان الصهيوني، بعد 27 يومًا كاملة من اغتيال القائد العسكري الأعلى رتبةً في الحزب (فؤاد شُكر)، عاش خلالها الكيان حالة انتظاريّة ذات تأثيرات سلبية عليه فاقت أثر العملية نفسها.
ورغم تحقيق حزب الله نجاحًا عملياتيًا ملموسًا على عدّة صعد يفصّلها هذا المقال، فإن أثر العملية وحجمها لم يكن متناسبًا مع حجم الجريمة الإسرائيلية باغتيال قيادي تاريخي ويحمل الرتبة العسكرية الأولى لحزب الله، وسط معركة مستمرة منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، إضافة إلى سياقها المرتبط بحرب الإبادة في قطاع غزّة، وارتباطها بمجريات العملية التفاوضية القاسية التي تقودها المقاومة الفلسطينية، مما أرخى بظلال سلبية على جبهة غزة، سواء على مستوى أمد المعركة وزخمها الدامي، أو مسار المفاوضات، ومن المرجّح أن يطال الأثر السلبي قواعد الاشتباك وموازين الردع في المعركة برمّتها.
نجاح عسكري
استهدفت العملية قاعدة غليلوت العسكرية في ضواحي تل أبيب بعدد غير معروف من المسيّرات كهجوم رئيسي، وكانت مصحوبة بثلاثمئة وأربعين صاروخ كاتيوشا كهجوم ثانوي استهدف إغراق منظومات الدفاع الجوي المعادية؛ لإتاحة المجال لعبور المسيّرات. وقد مثّلت العملية نجاحًا عسكريًا واستخباراتيًا لحزب الله، خاصة في ظل التيقظ الإسرائيلي عالي المستوى، وذلك على ثلاثة أصعدة:
أولًا: العمى الاستخباري
كشفت العملية عن حالة من العمى الاستخباري للمحتلّ، رغم قدراته الاستخبارية العالية، ويده الطولى في العمل الأمني، سواء كان ذلك على صعيد تقدير حجم ضربة حزب الله، أو الهدف المنشود استهدافه، أو توقيتها، أو حتى القدرة على الكشف الدقيق عن حركة المقاتلين، وأماكن تذخير إطلاق الصواريخ والمسيرات.
ثانيًا: سلب القدرة على الإنذار المبكر
أن تعبر عشرات المسيرات، وتتجاوز كافة الدفاعات الجوية، وأن تصل إلى عمق الكيان، وتقصف ضواحي تل أبيب في ظل استنفار لم يسبق له مثيل في الجبهة الشمالية، لهو سلب كبير لقدرة المحتلّ على الإنذار المبكر، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القاعدة المستهدفة تتبع لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان”، والتي تسند لها مهمة الإنذار المبكر، كأمّ المهام المسندة إليها.
فشل الضربة الاستباقية
رغم أن إسرائيل علمت بتحرك مقاتلي حزب الله، وظنّت أنها استوثقت من قدرتها على إجهاض أي عمل عسكري عدائي، ورغم التجهيز عالي المستوى لقدراتها النارية وسلاح الجو، وتحريك مائة طائرة مقاتلة خلال أقل من ساعة، فإنها لم تستطع إجهاض العملية، ولا تحييد المقاتلين، ولا الحد من قدرة حزب الله على تحقيق هدفه من العملية، وتبين بعدما انجلى الغبار، أن المواقع المستهدفة ومرابض الصواريخ، لم تكن كما ظن المحتل، بل كانت أمرًا آخر لا قيمة إستراتيجية له.
تمثل المأزق الأكبر بالنسبة للكيان في اضطراره للكذب لتقديم سردية نصر مقنعة لجمهوره وحلفائه، عبر تضخيم مبالغ فيه ومثير للسخرية – حتى من جمهوره الداخلي – لإنجازات ضربته الاستباقية، والتي تبيّن بعدها بساعات أنها ليست سوى كذبة أراد الكيان تسويقها لصناعة صورة نصر زائفة.
أيضًا، كرّست هذه الجولة القصيرة ومنخفضة الوتيرة، صورة التبعية للكيان، وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه، وأعادت طرح سؤال سيادة إسرائيل واستقلالها، وقدر احتياجها إلى حشد كل هذا القدر الهائل من القوة الأميركية والغربية لحمايتها عند كل تهديد عليها، مهما بلغ حجمه – حتى وإن لم يكن تهديدًا وجوديًا -، كونها دولة صغيرة ضعيفة عاجزة عن الدفاع عن نفسها.
خيبة الأمل
أما على صعيد الأثر السلبي وخيبة الأمل لهذه العملية، فقد تمثلت في مسارين أساسيين، هما:
أولًا: مسار المفاوضات
مع انسداد الأفق السياسي للحرب، ووصولها مرحلة خطيرة من المراوحة في المكان، والاعتياد القاتل على الإبادة المستمرة، والتماهي منقطع النظير على المستوى الإقليمي والدولي مع كافة الانتهاكات التي تجري، ومع انخفاض وتيرة الضغوط على نتنياهو للوصول إلى صفقة، سواء كان ذلك على صعيد الضغط الميداني، أو ضغط عائلات الأسرى، أو الخلافات الداخلية في الحكومة، أو الضغط الدولي ومجلس الأمن والمحاكم الدولية، تمثلت الفرصة الذهبية لإحداث تحول جوهري في مسار الحرب، في تعزيز موقف المقاومة التفاوضي عبر تشكيل ضغط عسكري إقليمي حقيقي على الكيان، من خلال تصعيد وتيرة الاشتباك مؤقتًا، واستخدام قدر مكثف ومدروس من القوة لإنهاء الحرب، أو التلويح بالقوة بشكل صحيح عبر استخدام جزء منها، بالتوازي مع جولات التفاوض المكوكية التي تجري بين القاهرة والدوحة.
كان المأمول أن يمثل رد حزب الله بداية لمرحلة جديدة من الاشتباك في جبهة الشمال، تنتهي بها مرحلة الإسناد – ولو مؤقتا – وتتحول فيها الجبهة من ساحة اشتباك تكتيكي إلى ساحة اشتباك إستراتيجي لعدة أيام. إذ إن من شأن ذلك تقويض موقف المحتل العملياتي، وبالتالي السياسي، عبر استهداف مراكز المدن، وتوسيع دائرة النار، وإدخال عدة مئات ألوف آخرين من المستوطنين في دائرة النزوح والغضب والحنق، والشك في حلم أرض الميعاد.
ولكن جاءت نتائج العملية – وما أعقبها من تأكيد الأمين العام لحزب الله، بأن هذا هو الرد على اغتيال فؤاد شُكر، ويمكن أن يعود الناس في لبنان لممارسة حياتهم بشكل طبيعي- باردة ضعيفة. بل مثّلت خيبة أمل كبيرة عند المقاومة وجمهورها، ولم تمنح المقاومة أي رصيد إضافي إيجابي في خضم موقفها التفاوضي الصعب، بل ربما أضعفت موقفها التفاوضي، كونها أفقدتها ورقة تلويح حزب الله بالقوة التي امتلكتها طيلة 27 يومًا.
بعد فقدان المقاومة ورقة القوة هذه، من المرجّح أن ينخفض زخم الجولات التفاوضية، ويزداد التعنّت الإسرائيلي أكثر، وهنا تصبح الحاجة لردّ إيراني على اغتيال إسماعيل هنية أمرًا أكثر إلحاحًا، بل عاجلًا، ويتطلب شكلًا أكثر قوة من عملية حزب الله، وإلا فستكون جبهة غزة أمام انسداد أفق حقيقي للوصول لنهايةٍ لهذه الحرب.
ثانيًا: ميزان الردع وقواعد الاشتباك
كشفت العملية – بالإضافة إلى طريقة إدارة مشهد المعركة برمّته – عن خلل كبير في طريقة المناورة لحزب الله، وإدارة الحرب مع المحتل، وبيّنت القدر الهائل من الأغلال التي يقيّد بها حزب الله مساحات المناورة والاشتباك لديه، مما أتاح المجال واسعًا أمام المحتل لتبني إستراتيجية هجومية عنيفة وعدائية، وجعلته يذهب معه لوثبات كبيرة، من اغتيال الشيخ صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية، إلى اغتيال ثلاثة من كبار قادته العسكريين في جنوب لبنان (الحاج جواد، وأبو طالب، وأبو نعمة) وانتهاء بفؤاد شُكر.
ينطلق المحتل في تقدير موقفه هذا من سابق علم لديه بأن حزب الله، ومن قبله إيران – التي اغتال زعيم المقاومة إسماعيل هنية في عقر دارها، ووسط مراسم تنصيب رئيسها- لا يريدان الانجرار لحرب شاملة، وأن هذه الجبهات رسمت لنفسها سقفًا صارمًا في هذه المعركة لا يتجاوز (الإسناد)، وأن النوايا التي كشف عنها الأمين العام لحزب الله في خطاباته المتكررة، وأكد عليها مرارًا، أتاحت للمحتل الذهاب بعيدًا في تكسير قواعد الاشتباك معه.
بل يمكن القول إن هذه العملية لم تكرّس ميزان الردع لصالح حزب الله وإيران، وإنما كرّست ميزان الردع لصالح المحتل، بل إن ضعف الرد على اغتيال قادة الحزب الثلاثة في وقت سابق، وعدم الرد على اغتيال العاروري في قلب الضاحية – باعتباره عدم خرق لقواعد الاشتباك -، هما اللذان دفعا المحتل للذهاب إلى ضربات أكثر جرأة وعدائية.
لم تكن العملية على قدر الشخصية التي اغتالتها إسرائيل، ولم يأتِ الردّ موازيًا لقواعد الاشتباك التي خرقها الكيان، من استهداف للضاحية، إلى استهداف لمدنيين، بل جاءت أقل بكثير من مستوى الخشية التي عاشها الكيان منذ ليلة الاغتيال، وكشفت العملية أن إسرائيل والإدارة الأميركية كانتا تخشيان حزب الله، وردّه المرتقب، أكثر بكثير مما قدّر حزب الله لنفسه، الأمر الذي من شأنه تشجيع المحتل على وثبة أكبر، وكسر جديد لقواعد الاشتباك، ربما تطال رأسًا أكبر من رأس فؤاد شُكر.
كان تقدير الموقف المنطقي يفضي إلى أن وتيرة الضربات الإسرائيلية الأخيرة، وطبيعتها، سواء كانت في جنوب لبنان، أو في قلب الضاحية، تزيد بشكل كبير من خطر التصعيد الأكثر خطورة، وأنها تمثل إذلالًا خطيرًا لحزب الله، وبعد بلوغ ذروتها بساعات تجاوز الأمر إلى حد إذلال إيران، واستهداف سيادتها وهيبتها وأمنها القومي وشرفها، مما أكد تقدير الموقف المنطقي أننا سنكون أمام رد فعل قاسٍ من حزب الله أولًا، ثم من إيران ثانيًا، ومن الجبهات الأخرى التي تدعمها كذلك، وأنها تمتلك الشرعية والمبرر لذلك، وجرى – لأجل هذا التقدير- حشد قدر هائل من القوة لاحتواء التصعيد المرجّح.
لم يقرأ حزب الله هذا الحشد على أنه أداة لاحتواء للتصعيد لا لتوسعته، وأن الحرب الإقليمية ما زالت بعيدة، وأن كوابحها كثيرة، وأن المحدد الأميركي الإستراتيجي يقضي بأنّ الحرب الإقليمية خط أحمر؛ بل قرأه على أنه تهديد وجودي له، فاختار تنفيذ نوعية من الضربات التي يمكن ابتلاعها، فجاء الردّ على شكل عملية حسّنت وضعية الاحتلال الإقليمية تكتيكيًا؛ وعزّزت جزئيًا من قدرة نتنياهو وموقفه التفاوضي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
رابط المصدر