في أطراف ليبيا: الضروب السياسي بين رجاء التغيير وجلابيب الفوضى
بأرضٍ متد المُواج، وتضم بحرًا يروي قصص شعوبٍ متتابعًة عليه، نتأمل المنظررجل سياسي ليبي ينبثق بتضاربات وتحديات.. ضمن بقايا الماضي وشبح الحاضر، تبرز صفحة معقدة للوضع الحالي، حيث تتشابك شظايا المصالح وتتصادم الرغبات.
ليبيا، بأراضيها الشاسعة وثرواتها البترولية الهائلة، كادت تكون نعمة لأبنائها، لكنها تحوّلت إلى نقمة تثير جشع المتنافسين، بين طموحات داخلية من جهات متنافسة لا تملّ عن السعي نحو السيطرة على موارد البترول، وطموحات خارجية من دول تسعى لتأمين مصالحها على حساب استقرار ليبيا
صورة متشعّبة وألوان متضاربة
ليبيا اليوم ليست كالبارحة كانت. بعد زوال عاصفة الربيع العربي صممت برج القذافي العالي، اعتقد الجميع أنّ البلاد بدأت تتجه نحو الحرية والديمقراطية. ومع ذلك- ككل المواسم- له الربيع نهاية.. انحسر بتسليم البلاد إلى فصل الشتاء القاسي، حيث غابت شمس الأمان، وعمت عواصف الفوضى.
الحكومة الحالية، حكومة الوحدة الوطنية إدارة عبد الحميد الدبيبة، تجد نفسها مواجهة تحديات عديدة في ترسيخ نفوذها على مساحة المناطق الليبية بأكملها، ومع ترقب الشعب وتحريك المليشيات، يظهر القادة وكأنهم يسيرون على مشفى الجمر، يخافون السقوط في أي لحظة.
فوضى السلاح وقدرة الدولة
من بين المشاكل الكبرى التي تواجه ليبيا اليوم، انتشار السلاح بين أيدي المليشيات والجماعات المسلحة، هذا الانتشار الفوضوي قد حول البلاد إلى ساحة للفوضى، حيث لا قانون ولا نظام.. حكومات تتبدل، وقادة يتحولون، لكن السلاح يظل الرئيس الواحد، يُفرض شطر القوة.
إن الهيبة التي ينبغي أن تتحلى بها الدولة قد غابت في ظل تلك الفوضى؛ فالسلطة الفعلية ليست في أيدي الحكومة المنتخبة، بل في أيدي من يمتلك القوة النارية، ويسطّر نفوذه على الأرض. فهذه الفوضى الأمنية تعيق أي جهود لإعادة بناء الدولة وتعزيز الاستقرار.
ثروات البلاد بين طموحات الداخل والخارج
ليبيا، بمساحاتها الواسعة وثرواتها البترولية الضخمة، كانت تُعدُّ نِعمةً لأبنائها، إلا أنها تحوّلت إلى لعنةٍ تستفيد شهوات الجشعاء. بين الرغبات الداخلية لقوى متنافسة لا تفرّ من السعي للهيمنة على موارد البترول، والرغبات الخارجية لدول تُسعى لتأمين مصالحها على حساب استقرار ليبيا، نجد البلاد تتقلب في دوامةٍ لا تنتهي من التصفية.
الرجاء في التغيير كان يومًا ما وازنًا بعد فترة من الظلم، حيث جاء عام 2011 محملاً بآمال كبيرة في إعمار دولة جديدة، ولكن سريعًا ما تبدّد ذلك الأمل في زوابع الفوضى والصراع الداخليّ.
السلطانة الوطنية.. القواميس المُهدَّدة
المجتمع العالمي، بقوته الكبيرة وتنظيماته، يلعب دورًا مزدوجًا في الساحة الليبية؛ حيث بين تصريحات الدعم وفعاليات السلام، نجد التدخلات العسكرية هنا وصفقات السلاح هناك، وتحالفات تأسست على النفع لا المبادئ تجعل من ليبيا ساحة صراع بالوكالة.
تدرك الشعوب الليبية الآن أن الحلول لن تأتي من الخارج، إذ تسعى الدول الكبرى في الأساس لمصالحها، حتى لو كان ذلك على حساب دماء الأبرياء ومعاناة الشعوب.. هذا الوعي يجب أن يكون بداية الطريق نحو استعادة سيادة ليبيا.
الانقلاب.. بين الأمل والتراجع
الأمل بالتحول نشأ بعد سنوات من الاستبداد، حيث جاء عام 2011 ليحمل آمالًا كبيرة في بناء دولة جديدة، ولكن سرعان ما تبدل هذا الأمل في ظلال الفوضى والنزاعات الداخلية؛ فبعد أربعة عشر عامًا من الثورة، نجد أنفسنا أمام منظر سياسي مشوَّه، حيث تتنافس القوى على السلطة، وتجفف الموارد الوطنية بدون رؤية واضحة للتثبيت. التحالفات المتغيرة، الصراعات المستمرة، والفساد المستشري، جميعها عوامل تقوض القدرة على البناء، وتعيق تشكيل مؤسسات قوية ومتكاملة.
بناء مستقبل ليبيا يتطلب مجهوداً كبيراً وتضحيات جسيمة.. ينبغي أن توجد إرادة سياسية حقيقية، تنبع من رغبة صادقة في إنهاء معاناة الشعب وتحقيق الاستقرار، ويتطلب الأمر دعما دوليا مخلصاً
المصالحة الوطنية.. المفتاح المفقود
بوجه هذا المنظر المليء بالانقسام والتنوع، تبرز المصالحة الوطنية كحل ملح لا غنى عنه؛ إذ لا تمثل مجرد شعارا بل تعد ضرورة ملحة لإنقاذ ليبيا من أزماتها العميقة. يتطلب معالجة مسألة المصالحة الوطنية جهودا أكبر من مجرد مفاوضات، بل تتطلب استجابة حقيقية لطلبات جميع الأطراف، وبناء جسور من الثقة لإرساء أساسات قوية للسلام. إن المصالحة الوطنية ليست ترفا، بل تعد العمود الفقري الذي يقوم عليه بناء ليبيا المستقبل. لذلك، يكمن السبيل الوحيد نحو استعادة الوحدة في الشعب الليبي واستقرار البلاد في التوصل إلى توافق حقيقي وشامل بين الأطراف المتصارعة.
بناء ليبيا الجديدة يستلزم تضحيات وجهودا شاقة.. يجب أن تكون هناك إرادة سياسية صادقة، تنبع من رغبة حقيقية في وقف معاناة الشعب وتحقيق الاستقرار، ويتطلب الأمر دعما دوليا صادقا، يركز على تعزيز المؤسسات وزيادة القدرات الوطنية.
يقف شعب ليبيا اليوم عند مفترق طرق تاريخي، بين ماض تنعشه الصراعات وحاضر يحتوي على تحديات عدة، إلا أن هناك فرصة ما لبناء مستقبل أفضل. على الليبيين أن يدركوا أن الحلول لن تأتي من الخارج، بل ينبغي أن تنبع من إرادتهم وعزيمتهم على تحقيق المصالحة الوطنية وإعادة بناء دولتهم.
في النهاية، يجب التذكير أن ليبيا تستحق الأفضل.. هذا البلد الذي يزخر بتاريخه وثقافته وثرواته، يتعين أن يكون وطنا مزدهرا يسوده السلام والاستقرار، حيث يتمتع أبناؤه بالحرية والكرامة. لتحقيق هذا الحلم، ينبغي علينا العمل معا بروح التعاون، تجاوزا لخلافاتنا، وتحدينا نحو مستقبل مشرق.
الآراء المطروحة في المقال لا تعكس بالضرورة موقف شبكة الجزيرة التحريري.