ووجد الدبلوماسي الأمريكي هنري كيسنجر أن المفاوض الفيتنامي لي دوك ثو كان عنيداً جداً، بينما كان كيسنجر يسعى للحصول على نوع من الاستسلام من الفيتناميين، حيث كانت قاذفات “بي 52” تقصف فيتنام الشمالية بقوة بلا سابق وبدون رحمة، في حين أن ثو كان يطالب بسلام يضمن كرامة الفيتناميين وتضحياتهم وينتهي بتوحيد فيتنام.
في صباح يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 1972، هاتف كيسنجر الرئيس ريتشارد نيكسون ليُطلعه على الوضع في فيتنام، حيث أخبره بأن المزيد من قاذفات “بي 52” قد شنت هجمات على شمال فيتنام، ولكن الخسائر الفيتنامية الكبيرة لم تُقنع ثو بتخفيف موقفه خلال المفاوضات، كما يتضح من التسجيلات والوثائق المتعلقة بالعلاقات الخارجية الأمريكية من أكتوبر/تشرين الأول 1972 إلى يناير/كانون الثاني 1973 الموجودة في أرشيف وزارة الخارجية.
تحمل ريتشارد نيكسون (1969-1974) تبعات حرب فيتنام الثقيلة من سلفه ليندون جونسون (1963-1969) التي ازدادت تعقيدًا خلال عامين من عهده.
كان اهتمامه مركزًا على مسار المفاوضات في باريس والتطورات الجديدة، بينما كان يشغل باله شبح فضيحة ووترغيت ونعوش الآلاف من الجنود القتلى القادمين من فيتنام، بالإضافة إلى المظاهرات في الجامعات وحركة الحقوق المدنية، وكان يبحث عن مخرج من مستنقع فيتنام.
لم يقدم له مستشار الأمن القومي الأميركي إجابة شافية، حيث أخبره أن ثو لا يزال متشددًا بالنسبة للاقتراحات الأمريكية حول تفاصيل وقف النار، ويحتاج إلى رادع أكبر لتقديم تنازلات، فسأل نيكسون كيسنجر عن مقترحات للضغط عليه ليذعن للشروط الأمريكية فجاء الرد المباشر من كيسنجر “المزيد من قاذفات بي 52”.
رعب “أعياد الميلاد”
كانت قاذفة القنابل الاستراتيجية الأميركية الكبيرة “بي 52 ستراتوفورتريس” هي العمود الفقري للقوة الجوية الأمريكية ورمز قدرتها النارية الكبيرة، وتم استخدامها بشكل مكثف في قصف هانوي عاصمة فيتنام الشمالية، لكن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق غايات كيسنجر التفاوضية.
تسجل أحداث حرب فيتنام أن الأسابيع الثلاثة الأخيرة من ديسمبر/كانون الأول 1972 شهدت قصفًا مكثفًا وغير مسبوق على هانوي ومدينة هايفونغ (شمال شرق فيتنام في خليج تونكين) شمل المواقع العسكرية والبنية التحتية والموانئ وخطوط السكك الحديدية والغابات التي تحصن بها مقاتلو الفيت كونغ، ولم تستثنِ المباني السكنية مما أدى إلى خسائر بشرية كبيرة في صفوف المدنيين.
على مدى 12 يوماً في نهاية ديسمبر/كانون الأول 1972، شاركت في عملية “لاين باكر الثانية” أكثر من 200 قاذفة أمريكية من طراز “بي 52″، نفذت 730 غارة وأسقطت أكثر من 20 ألف طن من القنابل على هانوي.
كان الهجوم عنيفًا ووحشيًا، وكان يهدف إلى “هز الفيتناميين في عمقهم”، كما ذكر كيسنجر.
كانت “لاين باكر” الاسم الرمزي للحملة الجوية التي أمر بها الرئيس نيكسون بعد تعليق مفاوضات السلام في باريس، وتم تنفيذ المرحلة الأولى من 9 مايو/أيار إلى 23 أكتوبر/تشرين الأول 1972، بهدف قطع الإمدادات عن قوات فيتنام الشمالية والفيت كونغ ودفعها لوقف هجماتها على فيتنام الجنوبية المعروفة باسم “نغوين هوي”، تلتها عملية “لاين باكر 2” في 18 ديسمبر/كانون الأول بعد تردد الوفد الفيتنامي بشأن تفاصيل وقف إطلاق النار.
اعتبرت عملية “لاين باكر 2” واحدة من أعنف عمليات القصف في التاريخ، حيث فاقت غارات الحلفاء على هامبورغ (يوليو/تموز-أغسطس/آب 1943) وقصف الولايات المتحدة لطوكيو (مارس/آذار 1945)، وعرفت في الولايات المتحدة باسم “تفجيرات عيد الميلاد” بينما أطلق عليها الفيتناميون “11 يوماً وليلة”، وقد تم محو مساحات شاسعة من هانوي، وشهد العالم أكثر الصور رعبًا ودموية التي نشرتها وسائل الإعلام.
كان ريتشارد نيكسون وكيسنجر يرغبان في أن تكون عمليات ديسمبر/كانون الأول “حملة صدمة ورعب” باستخدام أقوى الأسلحة التقليدية الأمريكية وأكثرها تدميرًا، بهدف إجبار قوات جبهة التحرير الوطني على الخضوع وتسريع خروج الجيش الأمريكي من ورطة فيتنام.
تمت عملية الترويع، لكن الخسائر التي تكبدتها القوات الجوية الأمريكية خلال عملية “لاين باكر 2” كانت أيضا غير مسبوقة، حيث تم إسقاط 15 طائرة “بي 52” بواسطة نظام “إس 75 دفينا” السوفياتي، قُتل على أثر ذلك 33 طيارًا أمريكيًا، مما أثار غضب الرئيس نيكسون الذي كان يخشى أن تؤثر هذه الخسائر الفادحة على التأثير النفسي الذي يرغب في تحقيقه على الفيتناميين.
ورطة الدخول والخروج
بدأ التورط الأمريكي في حرب فيتنام بعد هزيمة القوات الفرنسية في معركة ديان بيان فو (مارس/آذار-مايو/أيار 1954) على يد الجنرال فو نغوين جياب وكتائب الفيت منه (الرابطة الوطنية لتحرير فيتنام)، وبعد مؤتمر جنيف للسلام الذي حضرته الولايات المتحدة دون أن توافق على مخرجاته.
شملت المساعدات الأمريكية نظام سايغون الموالي لها في فيتنام الجنوبية ضد الفيت كونغ (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام)، وذلك خوفًا من امتداد الشيوعية إلى مناطق نفوذها في آسيا.
وابتدأ ذلك بتقديم الأسلحة والعتاد والتدريب، ثم إرسال 400 جندي في عام 1961، ليصل العدد بعد ذلك إلى 525 ألف جندي، قتل منهم أكثر من 58 ألف جندي، وتعرض 150 ألف آخرون للإصابة.
وكانت الخسائر الأمريكية الأخرى ضخمة، حيث قدرت حينها بنحو 120 مليار دولار.
مع ظهور آثار فظائع “تفجيرات عيد الميلاد” أو تعقيدات سير المفاوضات، عاد لي دوك ثو إلى طاولة المفاوضات في باريس حيث استمرت المناقشات مع الوفد الأمريكي برئاسة كيسنجر، وتم توقيع اتفاق السلام في 23 يناير/كانون الثاني 1973، وبدء تنفيذه في 28 من نفس الشهر.
نص الاتفاق على انسحاب القوات الأمريكية من جنوب فيتنام بعد شهرين، والاعتراف بالمنطقة منزوعة السلاح بين الشطرين على أنها مؤقتة، إطلاق سراح الأسرى من الطرفين خلال 15 يومًا، بقاء 145 ألف جندي من شمال فيتنام في الجنوب، وإنشاء لجنة دولية لمراقبة تنفيذ الاتفاق.
وفي نهاية مارس/آذار 1973، أنهت الولايات المتحدة سريعًا وجود آخر جندي أمريكي في فيتنام، لكن قوات الفيت كونغ واصلت عملياتها نحو توحيد شطري فيتنام، حتى تمكنت خلال معارك استمرت نحو عامين من دخول العاصمة الجنوبية سايغون يوم 30 أبريل/نيسان 1975، والتي سُميت لاحقًا مدينة “هو تشي منه” تكريمًا للزعيم الفيتنامي الراحل (1890-1969).
نوبل الملغمة بالدماء
تُشير التقديرات الرسمية إلى أن خسائر الحرب من الجانب الفيتنامي وصلت إلى نحو مليوني شخص قتيل، وثلاثة ملايين مصاب وضعيف، و12 مليون لاجئ، ودُمرت البنية التحتية والاقتصاد بشكل ملحوظ.
استخدمت الولايات المتحدة أسلحة فتاكة وأخرى محظورة دوليًا، وشنّت عمليات قصف شرسة أحرقت قرى ومدن بأكملها.
تشير بعض المصادر إلى أن الجيش الأمريكي ألقى نحو 352 ألف طن من النابالم على فيتنام خلال الفترة من 1963 إلى 1973، دون أن يتمكن من هزيمة قوات الفيت كونغ المدعومة من الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية.
خرجت الولايات المتحدة من حرب فيتنام بهزيمة اعتبرت مذلة، لكن كيسنجر أحرز جائزة نوبل للسلام – التي تم ترشيحه لها في أكتوبر/تشرين الأول 1973 – مناصفة مع الدبلوماسي الفيتنامي الشمالي لو دوك ثو، بسبب جهودهما في التفاوض على اتفاقيات باريس للسلام، بينما وافق كيسنجر، فإن ثو رفضها.
أثارت جائزة كيسنجر -وأيضًا لمفاوضه الفيتنامي- الكثير من الجدل وانتقادات واسعة، حيث رفض اثنان من الأعضاء الخمسة في اللجنة هذا القرار واستقالا.
كان الاعتراض واسع النطاق حتى بين المثقفين والأكاديميين في الولايات المتحدة والغرب، حيث اعتبروا كيسنجر جزءًا من آلة الحرب الوحشية التي مهدت الطريق لمفاوضات لم تؤدِ فعليًا إلى إنهاء الحرب، بل نقلتها أيضًا إلى كمبوديا المجاورة.
في الولايات المتحدة، كان العنوان الرئيس لافتتاحية صحيفة نيويورك تايمز في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1973 هو “جائزة نوبل للحرب”.
دفعت تلك الضغوط والانتقادات كيسنجر إلى عدم الذهاب لاستلام جائزته، خوفًا من مظاهرات ضده قد تضر بصورة نجم الدبلوماسية اللامع التي سعى إليها من خلال الحرب.
عبر عملية “لاين باكر 2” و”المزيد من قاذفات بي 52″، مُهدت الطريق لكيسنجر لإنهاء مفاوضات جنيف وحصوله على جائزة نوبل التي أكسبته لقب نجم دبلوماسي لامع.
أما لو دوك ثو، المحارب الفيتنامي القديم – الذي أصبح مفاوضًا – فلم يكن يرغب في الفوز بجائزة من هذا القبيل، حيث قال إنه سيفكر في قبولها “عندما تتوقف أصوات البنادق ويعود السلام إلى جنوب فيتنام فعلاً”.
رابط المصدر