تقام الانتخابات المحلية هذه المرة في سياق سياسي متشنج ومعقد، حيث يسعى الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي أكد أن هذه الانتخابات ستكون الأخيرة بالنسبة له، لاستعادة السيطرة على بلديات رئيسية مثل إسطنبول وأنقرة التي خسرها حزبه في انتخابات عام 2019. من جهة أخرى، تستغل المعارضة هذه الفرصة لتعزيز حضورها وتعزيز مواقعها، بهدف الحفاظ على نفوذها الحالي وتعزيز مركزها استعدادًا للمعركة الرئاسية القادمة.
تحظى الاستطلاعات الرأي التي تُجرى قبل الانتخابات في تركيا بأهمية كبيرة للأحزاب السياسية والجمهور، حيث تُعتبر نتائجها أداة ذات أهمية بالغة. في بعض الأحيان تؤثر على قرارات الناخبين واتجاهاتهم، وفي أحيان أخرى توفر للسياسيين نظرة مسبقة حول الاتجاهات العامة والتغيرات المحتملة في نتائج الانتخابات، وهو ما قد يفتح الباب أمام اتفاقيات وتحالفات جديدة.
من خلال النظر إلى الاستطلاعات التي أجرتها مراكز الأبحاث الرصينة في تركيا، والتي كانت توقعاتها للانتخابات الرئاسية السابقة أقرب للصواب، نجد تقاربًا في نسب التأييد للمرشحين، خاصة في مدينة إسطنبول التي تشهد منافسة حامية بين مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو ومرشح تحالف الشعب مراد قوروم.
وصف الباحث الاكاديمي في جامعة أنقرة “جنك سراج أوغلو” – في حديثه لموقع الجزيرة نت – النتائج الأخيرة التي أظهرتها الدراسات الاستطلاعية بـ “سباق المفاجآت”، متوقعًا وجود تطورات غير متوقعة يوم الأحد قد تزعج كلا الطرفين.
نتائج الدراسات الاستطلاعية
أظهر متوسط نتائج 14 دراسة استطلاع رأي أجرتها مجموعة متنوعة من المراكز خلال مارس/آذار الجاري في مدينة إسطنبول تصدّر المرشح إمام أوغلو بنسبة 42.8%، تليه مراد قوروم بنسبة 39.7%، في حين نجح مرشح حزب المساواة الشعبية والديمقراطية الكردي في تأمين المركز الثالث، متجاوزًا توقعات أحزاب أخرى مثل الرفاه الجديد والجيد.
وقام سراج أوغلو بالتعليق على هذه النتائج قائلاً “نظرًا لتعقيد الوضع في إسطنبول وتنوع اتجاهات الناخبين من الناحية الأيديولوجية، من الصعب التنبؤ بشكل دقيق. وعلى الرغم من توقعاتي الشخصية بحدوث مفاجآت في إسطنبول، يجب الإشارة إلى تراجع مصداقية مراكز الاستطلاع، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2023، التي أظهرت تقدم كمال كليجدار أوغلو على الرئيس أردوغان بفارق يزيد عن 3%، وهو ما لم يحدث”.
وفي سباق الوصول إلى بلدية أنقرة، أظهرت نتائج الاستطلاعات التي أجرتها أبرز 4 مراكز للبحوث الاستطلاعية في المدينة تقدّم مرشح حزب الشعب الجمهوري، منصور يافاش، بنسبة 47%، متفوقًا على مرشح تحالف الشعب تورغوت ألتينوك الذي حصل على 37.6%. ذكرت نتائج مركز “أريا” للاستطلاعات جدلاً، حيث توقعت فوزًا ساحقًا ليافاش بنسبة 60% مقابل 30.5% لألتينوك.
كانت الحالة مشابهة في مدينة إزمير، معقل المعارضة، حيث تصدّر مرشح حزب الشعب الجمهوري، جميل توغاي، بنسبة 43.8% مقابل 34.9% للمرشح المتنافس، وفق متوسط نتائج 6 مراكز استطلاع في المدينة.
ولاء ولايات الهزة الأرضية
ويرى سراج أوغلو أن التوقعات القوية بالفوز للقوى المعارضة، في العاصمة وإزمير، تعود للدعم الكبير والتقبل الواسع الذي يتمتع به (يافاش) رئيس بلدية العاصمة الحالي، بالإضافة إلى الظروف الديموغرافية المواتية للقوى المعارضة في إزمير.
ومع ذلك، يلاحظ الباحث أن حصول تحالف الشعب على حوالي 32% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يشير إلى أن قناعات الناخبين الأتراك قد تتغير بسرعة، حتى في المناطق التي تسيطر عليها القوى المعارضة.
وتشير نتائج الاستطلاعات إلى تقدم ملحوظ لتحالف الشعب بزعامة حزب العدالة والتنمية الحاكم على حساب حزب الشعب الجمهوري فيما بات يُعرف بـ “ولاءات الهزة الأرضية” وهي كهرمان مرعش وأديامان وإيلازيغ وغازي عنتاب وكيليس وملاطية وعثمانية وشانلي أورفا.
يُذكر أن أصوات سكان تلك الولايات التي توجهت لتحالف الجمهور بالانتخابات المحلية عام 2019 لم تتغير بعد وقوع الهزة الأرضية، حيث احتل الرئيس أردوغان المرتبة الأولى في جميعها خلال انتخابات الرئاسة 2023.
إثبات المصداقية
ومع اقتراب موعد الانتخابات المحلية، تكثف شركات الأبحاث من إعلاناتها لنتائج الاستطلاعات، مما أثار حالة من النقاش والجدل العام حول مدى موثوقية وصحة هذه النتائج. وتأتي هذه الدراما من النقاشات في أعقاب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة، حيث كشفت نتائجها عن اختلافات كبيرة بين توقعات الشركات والواقع الانتخابي، مما دفع بضوء على التحديات التي تواجه هذه الصناعة وأثار تساؤلات حول مستقبلها في تزويد بيانات موثوقة.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول المحلل السياسي بوراك بولوت “يُجدد كل دورة انتخابية النقاش حول مصداقية استطلاعات الرأي ودقتها، وهذا النقاش يزداد بعمق عند مقارنة نتائج الانتخابات بتوقعات هذه الاستطلاعات. الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2023 قدمت مثالاً واضحاً عن الفجوات الواسعة بين توقعات استطلاعات الرأي والواقع الانتخابي الذي شهدناه”.
ويشير إلى عدة عوامل تسهم في هذه الفجوة، بدءًا من القضايا المنهجية إلى النقائص في تصميم الاستطلاع، ومرورًا بمشاكل تحديد العينات “ليس القيود المالية ونقص الخبراء والموظفين المؤهلين هي التي تعوق جودة هذه الاستطلاعات فحسب، بل العلاقات المثيرة للشبهات بين بعض مؤسسات الاستطلاع والأحزاب السياسية تثير الشكوك حول موضوعية نتائجها”.
ويؤكد أيضًا على الدور الكبير الذي تلعبه استطلاعات الرأي في تشكيل الوعي الاجتماعي وتأثيرها على العملية الانتخابية، مشيرًا إلى أن “محاولات التلاعب المستمرة التي نشهدها في كل دورة انتخابية تثير أسئلة كبيرة حول مصداقية ودقة البيانات التي تقدمها هذه الاستطلاعات”.
ويُختم بولوت حديثه بتأكيد أهمية الشفافية في تقديم منهجيات الاستطلاعات، ويدعو إلى “إنشاء آليات رقابة فعّالة من قبل المجتمع المدني والضغط العام لضمان نزاهة استطلاعات الرأي وبالتالي تعزيز الثقة في نتائجها”.