كيف نقرأ “الجهاد” في المصادر الإسلامية؟
وقد يسمّى الجهادُ “السِّيَر”، وهو جمع سيرة وهي الطريقة سواءٌ كانت خيرًا أم شرًّا، ولكن كلمة “السِّيَر” صارت معنى اصطلاحيًّا عند الفقهاء يعبّرون بها عن الطريق المأمور بها في أمور الغزو قبل نشوء الدولة الحديثة، وربما وسّع بعضهم مدلول الكلمة ليشمل تفاصيل التعامل مع المحاربين (سواء كانوا من الكفار المحاربين أم من المسلمين البغاة)، أو غيرهم من المستأمنين والمرتدّين عن الإسلام.
أما مدونات الحديث، فهي تجمع الآثار النبوية وغيرها، وقد خَصصت كتب رواية الحديث فصلًا خاصًّا – يسمونه كتابًا – يجمع الأحاديث والآثار النبوية الواردة في موضوع الجهاد، كما نجد في صحيح محمد بن إسماعيل البخاري (ت. 256هـ)، وصحيح مسلم بن الحجاج (ت. 261هـ)، وفي كتب السنن الأربعة، وهي سنن أبي داود السِّجِستاني (ت. 275هـ)، وسنن أبي عيسى التِّرْمِذي (ت. 279هـ)، وسنن أبي عبد الرحمن النَّسائي (ت. 303هـ)، وسنن أبي عبد الله بن ماجَهْ (ت. 273هـ). وهذه الكتب – جميعًا – سُميت الكتب الستة، وقد جمعت معظمَ ديوان الحديث النبوي، وفي كل كتاب منها فصلٌ خاص بالجهاد.
أما كتب الفقه، فجميعها – ومن مختلف المذاهب – تشتمل على فصل (أو كتاب) خاص عن الجهاد والسير، وربما استعمل بعضهم تعبير “كتاب الجهاد” فقط، أو تعبير “كتاب السير” فقط.
وأما كتب السياسة الشرعية والأحكام السلطانية، فتبحث الجهاد بوصفه مهمة من مهمات الإمامة أو السلطة وما يتعلق بجانبه التنظيمي والإجرائي.
وثمة كتبٌ مفردة خُصصت لأحكام الجهاد وفضائله، وقد بدأ هذا النوعُ – مبكرًا – منذ منتصف القرن الثاني الهجري مع عبد الله بن المبارك (ت. 181هـ)، أي أنه نشأ مع ظهور التصنيف في العلوم الإسلامية من حديث وفقه وتفسير وغير ذلك.
وإذا أمعنا النظر في الجهاد – كما تُظهره هذه الحقول المختلفة بوصفه موضوعًا بحثيًّا (أو مبحثًا) – وجدنا أنفسنا أمام ثلاث مسائل:
- الأولى: أن الجهاد – كما يظهر في كتب رواية الحديث – يجمع بين الجانب التاريخي المتمثل في توثيق وقائع تاريخية تتعلق بمغازي النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين الجانب المعياري الذي يقدم نصوصًا تقويمية وتوجيهية تتصل بالجهاد. ويمكن التمييز فيها بين ما يتصل بأحكام الجهاد وبين ما يتصل بآدابه وفضائله، كأحكام القتال ومن يقاتَل، ووجوب الوفاء بالعهد، وتحريم الغدر، وأحكام الخديعة، واستحباب الدعاء بالنصر، والشجاعة والصبر، والتعوذ من الجبن، ومراتب الناس في الجهاد، ودرجاتهم في الآخرة، وغير ذلك.
وقد مزج عدد من العلماء بين أحكام الجهاد وبين فضائله، كما نجد في كتب ابن المبارك وابن أبي عاصم والعز بن عبد السلام. في حين أن بعضًا آخر أفرد “فضل الجهاد والمجاهدين” بالتصنيف، كما فعل أبو العباس أحمد المقدسي (ت. 623هـ).
- الثانية: أن كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية تقدم الجانب التنظيمي المتعلق بالسلطة المنظِّمة للجهاد والتي تحتكر ممارسته؛ لأن الجهاد ليس فعلاً فرديًّا، ولا هو فعلُ مجموعةٍ أو حزبٍ؛ إذ إنه كان – باستمرار – فعلَ الجماعة المسلمة في دار الإسلام التي يتولى أمرها الإمام السياسي، ولم تحظَ المحاولات الفردية أو الضيقة التي تنتسب إلى الجهاد بالشرعية الفقهية (كالخوارج، والبغاة).
- الثالثة: أن تعقيدات الجهاد، وثراء ممارسته تاريخيًّا، بالإضافة إلى اتساع الفتوح الإسلامية ونشوء تنظيمات السلطة، كلُّ ذلك جعل الجهاد يتأرجح بين منظورين للفعل الجهادي، هما: العبادة والمعاملة، ويمكن أن نقف على هذا من خلال قراءة تحليليّة لموقع الجهاد من بنية كتب الفقه وكتب الحديث وطريقة تصنيف مباحثها.
ففي كتب الفقه، نجد المذاهب تختلف في تصوُّرها للفعل الجهادي، فتنقسم بين من يرى أن الجهاد من العبادات ومن يرى أنه من المعاملات.- فالمنظور الأول يرى أن الجهاد عبادة، ومن ثم نجد كتاب الجهاد ملاصقًا لأبواب العبادات، كما هو الحال عند فقهاء المالكية وطائفة من فقهاء الحنابلة الذين يضعون كتاب الجهاد بعد كتاب الحج مباشرة. ونجد هذا عند القاضي عبد الوهاب البغدادي (ت. 422هـ)، واللخمي (ت. 478هـ) من المالكية، بل إن ابن جُزَيّ (ت. 741هـ)، كان صريحًا هنا حين قسم جملة كتابه إلى قسمين: العبادات والمعاملات، ثم جعل كتاب الجهاد ضمن أبواب قسم العبادات، وعلى هذا جرى خليل بن إسحاق المالكي (ت.776هـ) في مختصره الشهير وشرّاحه من بعده. ونحوَ ذلك نجد عند علاء الدين المِرْداوي (ت. 885هـ) ومنصور بن يونس البُهوتي (ت. 1051هـ) من فقهاء الحنابلة، وقد تبع البهوتيُّ في هذا موسى الحجّاويَّ (ت. 968)، وتقي الدين بن النجار (ت. 972هـ)، فمَشوا – في هذا – على طريقة المالكية.
- والمنظور الثانييُدرج كتاب الجهاد ضمن أبواب المعاملات، فيتوسط كتبَ الحدود والجنايات والبيوع، كما هو الحال عند فقهاء الحنفية والشافعية، وفريق من الحنابلة أيضًا. نجد هذا عند محمد بن الحسن الشيباني (ت. 179هـ) وشمس الأئمة السرخسي (ت. 483هـ) وبرهان الدين المرغيناني (ت. 593هـ) وغيرهم من الحنفية.
ونجده كذلك عند أبي إسحاق الشيرازي (ت. 476هـ)، وأبي حامد الغزالي (ت. 505هـ)، وأبي زكريا النووي (ت. 676هـ) والرُّوْياني (ت. 502هـ) وغيرهم من الشافعية، وعند محمد بن مفلح (ت. 763هـ) وإبراهيم بن محمد بن مفلح (ت. 884هـ) من الحنابلة.
ورغم أنّ مدونات الحديث الستة المذكورة سابقًا معدودةٌ في كتب الرواية التي مهمتها جمع الأحاديث النبوية أصالةً، إلا أننا يمكن أن نستنبط من طريقة تبويبها وتصنيف الأحاديث فيها معاني فقهية تأويلية، وبناء على ذلك سنجد أن المنظورين المشار إليهما في كتب الفقه موجودان – أيضًا – في كتب الحديث كذلك، فأبو داود والنسائي وضعا كتاب الجهاد في سننهما بعد أبواب العبادات مباشرة، في حين أنّ البخاري ومسلمًا في صحيحيهما، والترمذي وابن ماجه في سننهما، وضعوه ضمن أبواب المعاملات بعد كتاب الحدود وغيره، فعاد بنا الأمر إلى الخلاف حول توصيف الفعل الجهادي، هل هو عبادة أم معاملة؟
ولكن ما ثمرة هذا الاختلاف؟
تظهر ثمرة الاختلاف على مستوى الممارسة بين مضيّق وموسع لها؛ فالشأن في العبادة الامتثال والتَكرار، وتضييق الاجتهاد بالرأي فيها، وتكون مقصودة بذاتها، ولهذا وجدنا بين الآراء الفقهية القديمة من كان يرى أن الجهاد واجب في كل عام مرة، وغير ذلك من الآراء المبكرة قبل إمساك السلطة بتنظيم الجهاد وانضباطه، في حين أن إدراج الجهاد ضمن أبواب المعاملات يعني أنه مطلوب طلب الوسائل، ويمكن أن يسقط بتحقق الغاية بوسائل أخرى، كما أن ذلك يُخرج النقاش حول الجهاد من دائرة العقائد على خلاف تصور الجماعات المنتسبة إلى الجهاد في العصر الحاضر.
يقدم مفهوم الجهاد نموذجًا لمنهجية قراءة المفاهيم في المصادر الإسلامية وفق منظور متعدد التخصصات، كما يوضح أن طريقة “تصنيف” مباحث الفقه تعبّر عن تصورات منهجية وليست مجرد مسألة تنظيمية أو شكلية.
وثمة ترابط بين كتب الفقه من جهة، وكتب الحديث روايةً من جهة أخرى، كما أن المفاهيم إنما تنشأ ضمن سياق تاريخي تجب ملاحظته لفهم تفاصيلها وتطوراتها، وهذا كله يغيب عن الصياغات الحديثة للجهاد وعن التنظيمات التي انتسبت إلى الجهاد أو حاولت استعادته في سياق الدولة القومية دون مراعاة نشأة الدولة الحديثة وتنظيماتها، ليبقى الاستثناء الوحيد في هذا السياق هو ما تقدمه حركات “المقاومة الإسلامية” التي تجنب بعضها تسمية “الجهاد” التي أصبحت إشكالية في سياق الدولة الحديثة التي إنما تضفي الشرعية على حركات التحرر من الاحتلال التي يُفترض أن القانون الدولي يضمنها ويقرّ بشرعيتها، ولكن تبقى مصالح القوى الكبرى السياسية فوق القانون الدولي عمليًّا.
رابط المصدر