لا تقدموا مالاً لغزة ولا تهبوا لأبنائها

Photo of author

By العربية الآن



لا تقدموا مالاً لغزة ولا تهبوا لأبنائها

%d9%85%d8%b3%d8%a7%d8%b9%d8%af%d8%a7%d8%aa 1715427246
شاحنات تحمل مساعدات أممية أثناء دخولها لغزة غبر معبر رفح (الأناضول)
غزة، الصغيرة مكانياً والمحاصرة لسنوات، والهدف لهجمة مدمرة تاريخية دامت أكثر من سبعة أشهر أبدلت الحياة عن سكانها وكسرت بنيتها الأساسية. القطاع الذي يخسر شهداءه يومياً، وتموت أطفاله جوعاً، وتنوح مرضاه ألماً، وقد استهدفت تسليماته الصحية من المستعمرين الجدد، هو رغم ذلك وأكثر من ذلك، ليس بحاجة لنا بل نحن بحاجة إليه وبل الإنسانية بأكملها بحاجته.

كم يثير غضبي ويقهرني ما يُسمع من بعض الأشخاص يدعون البعض الآخر (وإن كانت الدعوة جيدة والأهداف جيّدة) للتمويل من أجل غزة وتقديم الزكاة لمحتاجيها، نعم يتوجب علينالدينا واجب تجاه غزة وأهلها، لكن ليس للتبرع لها أو الصدقة لأهلها، بل لأدنى مسؤولياتنا نحو غزة وأهلها الكرام.

حاجتنا إلى غزة وأهلها أكبر وأعظم من حاجة غزة المنكسرة وأهلها المبكرون عنا على مدى وطأة الصدمة والتهديد. غزة تصارع بمفردها مع شعبها المحاصر والمجروح، الصابر والمعذب، بجروح نازفة وإيمان عميق وصبر واحتساب تفوقا على قدرة بشرية على تصورها أو تحملها، لديها أفضال علينا هائلة، وتأثير عظيم لا يمكننا أن نعبّر عنه بالكافية، ولا نستطيع أن نرد على كرمها وسخاءها بالامتنان والتقدير.

جاءت معركة غزة لتطيح بالأساطير، وتكشف الأكاذيب، وتزيل الأقنعة، وتعيد إشراقة حقائق تم تجاهلها خلال عقود من التضليل والتزوير.

بعد عقود من الاستضعاف والتهيين الذي نشأت عنه جميع الأجيال الحالية من العرب، جاءت معركة غزة لتغيير ما كنا نعتقد أنه مصير لا يمكن تحويله وقضاء لا يمكن تغييره.

مع ميلادنا، عشنا في ظلال الذل والهوان العربي الرسمي الذي غمر حتى فئات شعبية واسعة، جيش إسرائيل لا يمكن الهزيمة، يمتلك قدرات فائقة، أما نحن العرب، فالهزيمة والذل والصغار منحورة في جيناتنا، ليس هنالك هروب ولا خلاص.

صفقات أسلحة ضخمة -تنبع منها روائح الفشل الفاسد- في عدة دول عربية من أجل التحضير لحروب وهمية، بينما يفرض الأسد الأب وابنه حكمهما التقليدي على عقود ويزجون المواطنين بكؤوس الذل والاهانة، إذ كان في سبيل نضال الأمة في فلسطين تدمير مكونات الحياة والكرامة، ومن أجل تحقيق “التوازن الاستراتيجي” وبعدها “السلام الاستراتيجي” دعونا لننهب الموارد ونجمع الخيارات ونجعل الرؤوس تنكمش.

جاءت معركة غزة لتطيح بالأساطير، وتكشف الأكاذيب، وتزيل الأقنعة، وتعيد إشراقة حقائق تم تجاهلها خلال عقود من التضليل والتزوير.

تعيش الأمة الآن من أقاصيها إلى أقاصيها مشاعر متباينة بين حزن عميق على الوضع الإنساني الصعب والجريمة الصهيونية التي لا حدود لوحشيتها في غزة، وبين فخر واعتزاز بالمقاومين الذين أرجعوا لأمتهم بعضا من الكرامة والرفعة والعزة، التي غابت عن وجودهم لفترة طويلة، كان النظام العربي -وما زال- يبارح السلام مع الاحتلال ويطلق مبادرة سلام تلوى الأخرى.

بينما يرد الصهاينة على ذلك بالتعجرف والغرور والاستفزاز. ولكن بسخرية الأقدار، بعد معركة غزة سارعت أميركا والصهاينة -بغض النظر عن التعقيدات والأهداف- للتفاوض مع المقاومة، وجعلت المجتمع الدولي في حالة انتظار في حين كان مدير المخابرات الأميركية ينتظر ردا من المقاومة وموقفها تجاه اقتراحات الوسطاء.

كسرت غزة قيوداً وأقيدًاً فكرية ونفسية وعقائدية وإعلامية، دخل العديد من الناس في الإسلام بحب وقناعة وإيمان وتفكير.

علمتنا غزة دروس إيمانية اعتقدنا أنها محصورة في كتب التاريخ، وساعدتنا كثيرا في تربية أبنائنا. حاولنا أن ننجح في إخراج أطفالنا من عالم الهواتف ونبنِّجهم على العولمة وتوحشها القاتل، وفشلنا في ذلك إلا قليلا. صور غزة وأهلها وقناعتهم العميقة ساعدت في تجديد الجذور الأخلاقية النبيلة لقطاعات واسعة من الأجيال الشابة وأعادت إلى إيمانهم بالله وتعمقه.

كسرت غزة قيودًا وأغلالًا فكرية ونفسية وعقائدية وإعلامية، دخل العديد من الناس بالإسلام بحب وقناعة وإيمان وتفكير، وفي وقت كانت موجات اللا دين تعصف بمجتمعاتنا وتهز أيمان كثيرين من الشباب، جاءت دروس غزة العملية وأقوالها العميقة لتنقل السكينة إلى قلوب مضطربة وتحولها إلى عمق في الإيمان والطمأنينة، ليزيدهم إيماناً واطمئنانًا ويزيد الناس من إيمانهم.

كان المسلمون، خاصة في الغرب، يتعرضون في السنوات الأخيرة لهجمات تستهدف عقائدهم وشعائر دينهم وتحاول أن تنتزع أطفالهم منهم، مع منع الحجاب في دول غربية وصورة سلبية مغلوطة عن المسلمين، ثم تصاعدت حملات فرض الانحراف الجنسي على المسلمين كجزء من الاستبداد الديني وتخريب الإيمان وإخراج الناس عمليا من دينهم. ليصاب الناس ويمنعوا من توجيه أنفسهم وتجريم ذلك، فأتت معركة غزة لتعيد لأجيال كثيرة من الشباب هويتهم وتعمق انتمائهم خصوصًا مع وجود شباب غربي يشاهدون ويلاحظون تناقضات النفاق الرسمي والإعلامي الغربي، الذي يعتبر فرض الانحراف حرية مقدسة، بينما يكون التعاطف مع ضحايا حرب الإبادة نوع من معاداة السامية.

لقد أعادت غزة وأهلها لنا كرامتنا المفقودة، ورفعوا عن أمتهم كثيرًا من عبء عقود من الصغار والإذلال، وأعادوا لنا هويتنا وأخرجوا أجيالًا من الضياع والإلحاد، وأحيوا في العالم معانًا إنسانية عميقة تلك التي دُفِنت في ركام من العولمة والتوحش المادي، وكشفوا عن النظام الدولي المتناقض. تحملت غزة كل هذه الأعباء -التي كان من المفترض على الأمة بأسرها أن تتحملها ونجحت في تحملها بصبر واعتبار، ودفعت ثمنًا باهظًا.

إن غزة وأطفالها

هم الحاجب والمانع والعائق الذي بدونه تأتي الكوارث، فالعدو وحشي لا يرحم، وهمه الوحيد هو إبادتنا وتدميرنا.

يا غزة، يا سكانها ويا جرحها وأيتامها وأراملها، ويا أبطالها من الأطباء والعاملين في المساعدات وخدمات الطوارئ ووسائل الإعلام، ويا مساجدها المحطمة، ومدارسها المدمرة، ومزارعها المخربة، نعتذر لكم فنحن ما زلنا نحيا كما كنا، نأكل ونستمتع ونحتفل بالمناسبات، ولا زال هناك الكثيرون يعانون من الفاقة والجوع، بينما أطفالكم يعانون من سوء التغذية والجوع.

غزة وأطفالها هم الحاجب والمانع، بدونهم نتعرض للكوارث، العدو وحشي لا يرحم، ويرون فينا فقط عدوانًا يجب إبادته وتدميره. إذا وقعت غزة، لا سمح الله، ستسقط كلنا معها، وإذا كان أحدهم يريد فرض الشذوذ علينا، فلا تستبعدوا نجاحه في ذلك، بفرض تبادل الزوجات، الإنحراف، الردة عن ديننا وعقيدتنا.

دعموا غزة بل دعموا أنفسكم ودافعوا عن كرامتكم ومستقبل أبنائكم، لا تقولوا نتصدق على غزة، بل قولوا نحاول بكل جهد أن نقوم بواجبنا، ومهما فعلنا وقدمنا، نحن لا نزال متأخرين في حق غزة وسكانها.



الآراء المذكورة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر قناة الجزيرة.

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.