وبألم نلاحظ أن هذا الموضوع يعتبر من اكبر الخطايا والمشاكل الناعمة التي تواجهها الشعوب العربية على وجه التحديد، حتى أصبح من المقنع للجميع أن مستوى ثقافة الإنسان ومدى تعليمه وتحضره يرتبط بكمية الكلمات الأجنبية التي يستخدمها في لغته اليومية، وهذا من أهم مظاهر التأثير الحضاري الذي تمارسه الدول الغربية.
ونستفسر: هل يرون هؤلاء أن اللغة العربية عاجزة عن إيجاد مصطلحات ذات أصول عربية! بالطبع لا، بل على العكس تماما، فقد كان الأوروبيون في العصور السابقة يأتون إلى الأندلس وجامع قرطبة على سبيل المثال لتلقي المعارف العقلية والدينية من العلماء العرب والمسلمين هناك، وكانت لغة العلم والمعرفة العالمية آنذاك هي اللغة العربية.
فكانت المصطلحات والمفاهيم جميعها منبتة من جذور لغوية أصيلة ودقيقة، وكان الطلبة الأوروبيون عند عودتهم إلى أوروبا يفتخرون بتحصيلهم العلمي باللغة العربية وما استقواه منها، وكانوا يزينون حديثهم بكلمات عربية تدل على مستوى علمهم وتحصيلهم العلمي. ومن المؤسف الآن أننا نعيش الواقع المعاكس، حيث أصبح استخدام كلمات من اللغات الأجنبية دليلا على الثقافة والفهم والتقدم.
لكن لا شك اليوم أن اللغة العربية لديها القدرة على إبتكار مصطلحات جديدة أو إحياء أخرى، والتجارب عبر التاريخ تثبت قدرتها ومرونتها وتفوقها في إيجاد المصطلحات والمفاهيم، هل لم تكن دمشق وبغداد والقاهرة عواصم العلم والحضارة؟! هل لم تكون مراكز للعلماء والعلم في الماضي؟ هل لم تشقى فيها الكثير من الأسماء المشهورة لعلماء لم يكررهم التاريخ؟!
تعريب العلوم والجهود الخجولة
ويجب علينا هنا عدم التغافل عن جهود بعض الدول لحفظ اللغة العربية في شكلها العظيم من خلال استمرار تدريس العلوم باللغة العربية، وجعل اللغات الأجنبية مكملة لها خلال التعليم من أجل تبسيط المفاهيم وتحقيق التواصل مع اللغات الأجنبية الأخرى.
وتعني حركة التعريب استبدال اللغة العربية في كل المجالات والاستعمالات والمقررات بقدر المستطاع، وذلك بجعل العربية لغة رسمية للتعامل الإداري والسياسي والقانوني، ولغة التعليم والبحث العلمي.
وتم تعزيز فكرة التدريس بالعربية في جامعة دمشق بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك جراء التوقف الدراسي الذي حدث للجامعة عند انسحاب الأتراك، ووفّر الدكتور أحمد حمدي حمودة، الذي كان طبيبا ماهرا وكان من رفقاء الأمير فيصل خلال الثورة العربية، إسهامًا كبيرًا في تحويل التعريب إلى أمر واقعي بفضل جهوده، حيث قنعه بتحويل “المدرسة الطبية العثمانية” إلى “المدرسة الطبية العربية” في أوائل عام 1919، وقام بتدريس الطلاب القدماء الذين درسوا بالتركية بالإضافة إلى الطلاب الجدد باللغة العربية بدلا من التركية.
وقام المدرسون بتدريس العربية وإعداد الكتب بها وإنشاء القواميس الخاصة بالمصطلحات العلمية، وكان من بينهم الدكتور أحمد الخياط الذي انضم إلى “مدرسة الطب العُثمانية” التي أسسها الوالي التركي حسين ناظم باشا في دمشق لتعليم العلوم الطبية بأساليب حديثة، وتأسست في 1901م وعُيّن لها أساتذة من “الآستانَةِ” لتدريس الطبّ والصيدلة فيها باللغة التركية، وهو من ألّف “معجم العلوم الطبية”، وصدر الجزء الأول منه عام 1974 تحت إشراف وزارة التعليم العالي السورية.
وفي قطر، أقر القانون رقم 7 لعام 2019 حول حماية اللغة العربية، الذي ينص على أن “تتعهد الوزارات والهيئات الرسمية، والمؤسسات التعليمية في جميع مراحل التعليم، والبلديات، باستخدام اللغة العربية في جميع التعليمات والتعليمات والوثائق والعقود والمراسلات والتسميات والبرامج والمنشورات والإعلانات التي تصدرها”، كما ينص في المادة الخامسة على أن “اللغة العربية هي لغة التعليم في المؤسسات التعليمية العامة، ما لم تستلزم طبيعة بعض المقررات تدريسها بلغة أخرى، وفقًا لما تحدده وزارة التعليم والتعليم العالي، وعلى المؤسسات التعليمية الخاصة تدريس اللغة العربية كمادة أساسية مستقلة ضمن مناهجها، وفقًا للقواعد والضوابط الواضعة من قبل وزارة التعليمالتربية والتعليم الجامعي”.
تحديات واعتراضات
ما زالت حركة تعريب المعارف تواجه معوقات كبيرة، ويبرز من بين الاعتراضات الرئيسية أن التعريب لا يعزز من تنمية لغتنا العربية بشكل صحيح، بل قد يؤثر سلبًا عليها. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعريب المعارف يمكن أن يعيق الطلاب عن تعلم اللغات الأخرى، مما يؤدي إلى فقدان الارتباط بالتطورات العلمية المستمرة التي تحدث بلغات أخرى؛ وبالتالي، يمكن أن يؤدي التعريب إلى تقليل مستوى التعليم العلمي للطلاب العرب، وليس تعزيزه كما هو المقصود.
ومن الواضح أن تعريب المعارف خاصة في مجالات الطب والتقنية يعتبر تحدٍ كبير في ظل التراجع الذي تشهده المجتمعات العربية في هاتين المجالين لصالح العالم الغربي الذي يتقدم بخطى سريعة ويتبوأ مركزًا متقدمًا، ويستخدم مصطلحاته وتسمياته واختراعاته؛ ولكن ينبغي أن لا تكون هذه الصعوبة عائقًا أمام حركة التعريب التي تعتمد على غنى اللغة العربية وعمقها، إذ تعتبر اللغة العربية بحرًا غنيًا لا يمل منه، كما أنها تتميز ببنيتها المتقنة وقدرتها الكبيرة على التشكيل والاشتقاق، وهذا الأمر يؤكده كل من يمتلك معرفة واسعة باللغة العربية سواء من أبناء العرب أو غيرهم من المجتمعات.
مخاطر هيمنة لغات الآخر وعدم التعريب
اقتراب الشعوب عن جذور هوياتهم ولغاتهم بشكل محدد يجعلها ضعيفة وعرضة لاستيعاب كل ما هو جديد واستيعابه، وهذا الضعف في الروابط بين الشعوب العربية ولغتها يمكن أن يؤدي إلى وضعية أصعب في جوانب أخرى، وربما يكون فقدان الهوية العربية هو الأخطر، خاصة أننا نرى اليوم تفوقًا كبيرًا في العديد من الجوانب الثقافية في مجتمعاتنا، مثل تفريغ الدين من مضامينه وتحويله إلى عادات وتقاليد، وخلق فجوة ثقافية بين الأجيال قد تؤدي بالضرورة إلى انقسام في الانتماء واختلاف في تصورات الذات، وفرض نماذج وأساليب حياة يُزعم أنها ثقافية وحضارية، ولكنها بعيدة تمامًا عن هويتنا وجذورنا وعاداتنا وحضارتنا.
وفي واقع الأمر، وفي سياق تعزيز دور اللغة العربية، يكفيها فخرًا باعتبارها لغة المعجزة الكونية، لغة الكتاب الذي حمل لنا نظام الكون وعرفنا بنيان الحياة وهدف الوجود، ولكن علينا دائمًا نحن الأفراد والمؤسسات والحكومات تذكير الأجيال الناشئة بأهمية لغتهم العربية، وتشجيعهم على الاهتمام بها وتحصيلها بدراسة واحتراف، ونشر روح الانتماء لديهم من خلال تشجيعهم على القراءة بالعربية والتعرف على تاريخنا وحضارتنا من خلال قراءة كتب التاريخ الموثوقة والأدب والأخبار، والتعرف على المصادر العربية الأصيلة التي تغذي اهتمام كل فرد وفق اهتمامه ورغباته.
وفي طريق الاهتمام بالتعريب لا بد من تزويد الأجيال بما يساعدهم على تمييز أهمية التفتح على الآخر وتعلم اللغات الأجنبية من أهمية الافتخار بلغة الأم، فالوقوف على أرض راسخة تنبت فيها جذورهم مجهزة بإتقان لغتهم الأم سيجعل تفتحهم على الآخر لغة وثقافة متوازنًا، وسيجعل خطاهم ثابتة، يختارون من الآخر ما يتماشى مع قيمهم، ويتجاهلون ما يخالفها.
وهكذا يقول المؤلف مصطفى صادق الرافعي “يفرض الغريب المستعمر لغته بشكل قوي على الأمة المستعمرة، ويفرض عليهم اعتمادها ويجعلهم يشعرون بعظمة لغتهم، وينضمهم إليها، فيعمل على تقييد ثلاثة جوانب مختلفة في عمل واحد: أولًا: حبس لغتهم في لغتهم إلى الأبد. ثانيًا: التلاعب بماضيهم ومحوه ونسيانه. ثالثًا: تقييد مستقبلهم بقيود يصنعها، حتى يصبح أمرهم بعدها تابعًا لأمره تبعًا”.
اعتزازنا بلغتنا العربية ينجونا من تسلط الآخر ومن شعور التبعية للغرب، وحركة التعريب في المعارف هي واحدة من أهم وسائل بناء الهوية الإسلامية والوطنية والحفاظ عليها من الاندماج، فالتعريب لا يخدم اللغة فقط، بل يخدم الهوية والانتماء ويشكل العقل المهتم بالعلوم الإنسانية والتطبيقية على حد سواء.