ما لا يمكن للصهيونية منعه!
وبين مواجهة المحتل في البندقية لفرق الإغاثة والمستشفيات والمدنيين، وجولة المفاوضات التي تديرها حركة حماس، يعلن نتنياهو إغلاق حكومته المتطرفة لمكتب قناة الجزيرة في اليوم العالمي لحرية التعبير، لتظهر الأصوات المناهضة للصهيونية داخل أروقة الأمم المتحدة، كاشفة عن هشاشة الاحتلال الإسرائيلي أمام
الكاميرا المقاومة.
الامتحان الأكبر الذي لا يمكن للاحتلال منعه، هو تفتت المجتمع الصهيوني المتنامي الذي كشفته شبكة الجزيرة، واختفاء “حلم الدولة اليهودية” الذي رفضه الشعب والنخبة، وما نجم عنه الزلزال الاجتماعي الذي زعزع هيكل المحتل
رؤى التآكل الصهيوني
منذ بداية الاحتلال الصهيوني، توسعت سردية معاداة اليهود والمظلومية التاريخية لليهود لتأخذ أبعادا أشد وضوحا للاعتراف، وإرساء أساسات سياسات الهيمنة الإمبريالية لتبرير تواجدها في الشرق الأوسط، وتمثل العمل على بناء صورة لإسرائيل كدولة حضارية وديمقراطية الوحيدة في المنطقة، نوعًا من النهج الإعلامي وفقًا لأجندة استعمارية صعبة التخلص منها حتى بتحقيق حل الدولتين، إذ التسويات والتهجيرات التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية بمختلف توجهاتها اليسارية/اليمينية، لا تسمح بفتح طرق آمنة لأي “حل مستقبلي” ضمن الإطار القانوني والإنساني الموضوع في الأمم المتحدة، بل اتفاق أوسلو لم يُعط الإسرائيليين سوى العناد والتسويف في الاعتراف بدولة فلسطين.
حالة الاستقرار التي تواجهها إسرائيل “الدولة”، ليست استثناء في مسار التاريخ ولا ظرفًا غير عاديًًا لقومية تفترض تحديات البقاء، بل يمكن اعتبار الكيان الإسرائيلي “فضاءً غربيًا ثالثًا” ينمو بالكراهية والعنصرية والنزوع للإنسانية، بعد تكريس الاستعمار لديكتاتوريات في مستعمراتها السابقة للحفاظ على مؤامرتها الخلفية التي تشكل بدورها فضاءً آخر لاستقرارها الاقتصادي واستدامة هيمنتها الثقافية.
ومع النظر إلى ممارسات الاحتلال الصهيوني التي لا مقارنة لها بمجازر النازية، بل تفوقت بشكل كبير على مراكز الاعتقال والقتل الألمانية، فمشاركة إسرائيل وحلفاؤها الغربيين في أي حرب كانت تترتب عليها نتائج سلبية على المجتمع الصهيوني بالداخل، في الوقت الذي تمكن فيه الأنتشارية من تأديب المنظمات الدولية والإنسانية لصالح استراتيجيتها الاستيطانية وتكريسها لحظر أي انتصار للعدل والمقاومة، ورغم أن نتائج حرب الإبادة التي يقودها الصهيونية ضد شعب فلسطيني مظلوم، فخرجت سردية تاريخية وصورة مظلومية تصبح “عبءًا أخلاقيًا” على الوعي العام والنخب في العالم، وأصبحت أسطورة أحرقت مع قذائف الميركافا داخل الجغرافيا التي منحت للعنصرية الغربية حلم المستقبل.
يواجه الإسرائيلي اليوم حالة رعب شديدة بسبب المخاوف المتزايدة بسبب تبعات الحرب على غزة، التي لم تحقق أي أهداف تكتيكية أو استراتيجية على الأرض، تاركةَ جسداناً للانتظار لما يشبه “اليوم التالي”، بجانب التآكل السياسي الذي تعرض له قادة إسرائيل وازدياد الانقسامات داخل مجلس الحرب.
لذا فإن الامتحان الأكبر الذي ليس بإمكان الاحتلال منعه، هو التفتت المتزايد في المجتمع الصهيوني الذي كشفته شبكة الجزيرة، واندثار “حلم الدولة اليهودية” المرفوض من الجمهور والخبرة، وما تطاوله طوفان الأقصى من اهتزازات في الهيكل الاجتماعي للمحتل، لن ينتهي مع نهاية الحرب والاستسلام لعملية التفاوض بين الطرفين، بل سماح الأصوات المتطرفة بلعب دور سياسي سيفوق الحد الذي يفقد فيه الكيان الصهيوني القدرة على استيعاب “جولة سلام”.
وفق الخطاب الإسرائيلي، فإن تهديدات المقاومة والمخاوف من قيام دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال والمستوطنات، تُعد الركيزة الأساسية لبناء هوية الشتات المستوردة من الغرب، وعلى الرغم من تباين تمثيلات القومية اليهودية وامتلاءها بالمظلومية التاريخية ناتجة عن استغلال النيوكولونيالية للسردية الصهيونية في سياق أشد حدة وعنفًا، يظل الإسرائيلي يفتقد لصورة واضحة لعمق الروابط الاجتماعية المعززة لمفهوم الدولة خارج إطارها الديني.
وكما بدأت البدايات في اعتراض أراضي الفلسطينيين وتهجيرهم وقتلهم من قبل عصابات الشتات، تظل “الصراع الوجودي” للاحتلال ليس فقط مع الفلسطينيين بل أيضًا مع القيم الإنسانية والحضارية المعترف بها لحق الكرامة والعدالة والحرية، وقد تجاوز طوفان الأقصى الحظر المفروض على القضية الفلسطينية، وكشف لليهودي الذي لم يمتلك القدرة على الاندماج في المجتمعات الأوروبية، فشل مشروع الاستعمارية الغربية في خطف التاريخ منه.
نقلت عدسة الجزيرة فخر الاحتلال بالميركافا بقصف المباني والهياكل الهدفة، وانتقام المسيرات الصهيونية من كل نفس نجت من وحشية القتل والتعذيب، وعرضت للعالم صورا للجرافات الإسرائيلية بينما تنقب عن الجثث في القبور
عندما تستطيع كاميرا الجزيرة التغلب على الميركافا
الحركة الطلابية في المعاهد الصهيونية مستمرة، ويزداد رفض الطلاب والجماهير للسردية الإسرائيلية بوتيرة متزايدة، ومع استشهاد المزيد من شهداء فلسطينيين، تتهاطل قطع اللعبة
تمتد النفوذ الاستعماري منذ دخول الاستعمار الغربي إلى المنطقة، حيث فشلت الاحتلال بشكل أخلاقي وسياسي على مدى سنوات في القتل والتهجير، وقد كشفت العدسة الحقيقة والوحشية ونقلت للعالم حجم الكارثة الإنسانية التي خلفتها القوات الصهيونية.
كانت كاميرا الجزيرة في صدارة التغطية، توثق الدمار والعنف في المدن، والضحايا الذين فقدوا أحباءهم، وقدموا أرواحهم من أجل الحرية والإنسانية. ورغم التحريض والحجب الذي واجهته من قبل السلطات الاحتلالية، إلا أنها استمرت في إظهار الحقيقة وتوثيق الجرائم التي ارتكبتها السلطات.
نقلت عدسة الجزيرة صور تدمير الميركافا للمباني والهياكل، والانتقام الصهيوني من الأبرياء. وعرضت الجرافات الإسرائيلية أثناء فتح قبور البحث عن المفقودين، وقد عانى صحافيوها مثلما عانى الفلسطينيون.
رائحة الموت تملأ كل مكان، والدماء تغسل الشوارع، والقتلى لا يجدون سوى القليل من الصلاة. وعلى الرغم من الخوف، بقيت الجزيرة قوية أمام الحملة الإعلامية الدولية، ترسخ مواقفها ضد التهميش وتعبر عن الحقيقة بمصداقية.
يمكن للعدسة أن تتبع الخطاب السائد في تجريم المقاومة، لكنها اختارت الوقوف بقوة مع الحق والإنسانية. وهكذا، تظل الجزيرة تمثل قوة إعلامية تدافع عن الضعفاء وتكشف حقائق العدوان.
هذا هو مشروع الجزيرة الإعلامي، الذي يلعب دورًا كبيرًا في صنع القرارات وتشكيل السياسات الداخلية والخارجية للدول. لن ينجح من يحاولون إسكاتها بإغلاق مكاتبها أو قتل صحافييها، بل سيواجهون الفشل كما واجهته الديكتاتوريات السابقة.