مثقفون وعسكر وحرامية في دولة 23 يوليو المجيدة! | آراء

Photo of author

By العربية الآن

أصبح وضع المثقّفين المصريين لا يُسمى بأنه أمام عدو أو صديق، بل تحوّل “الكتّاب” إلى مجرد “كَتَبة” موجودة في خزانة الحكومة.

أُهمل من حاول أن يصبح كاتبًا، وتم تهميشه واستهدافه بشكل معنوي ومادي، وهناك العديد من الأمثلة والضحايا كثيرون، بدءًا من “23 يوليو 1952” الذي انتهى رسميًا ولا يزال له تأثير سياسيًا وثقافيًا حتى يومنا هذا – حيث في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1981 تم اغتيال “الضابط المناصر للحرية، عضو مجلس القيادة” أنور السادات، على يد “المتطرفين الإسلاميين”، وهو “الرفيق المسلم”، والذي كان يخرج الإسلاميين من السجون ويمنحهم الحرية، قُتل لأنه اعتبر “كافرًا”، على الرغم من أنه الرئيس الذي كان يتلو القرآن ويؤدي الصلوات في أوقاتها.

تجمع من الأثقفة

تتعقّب التجربة الثقافية مع الدولة “23 يوليو” في مصر ببدايتها من قبول “فتحي رضوان”، المحامي والكاتب الصحفي وعضو “الحزب الوطني” القديم ـ حزب مصطفى كامل ومحمد فريد ـ لمنصب وزير الإرشاد القومي، فكانت الوزارة تعمل في مجال “التعبئة” لصالح النظام العسكري، وكانت تشمل إدارة الفنون، ثم تم إلغاء هذه الإدارة.

ثم غادر فتحي رضوان الحكومة، وجاء “ثروت عكاشة” الضابط في سلاح الفرسان “المدرعات”، وهو شخص مثقف يعشق الكتابة والترجمة، وكان له فكرتان: إحداهما انطلقت من تجربة “يوغوسلافيا”، والأخرى تأثرت بالمخابرات الأمريكية والسوفياتية.

الفكرة الأولى اليوغوسلافية كانت حول “هيئة قصور الثقافة” التي تتولى مهمة “جمع المثقفين” في المدن والقرى. أما الفكرة الأمريكية والسوفياتية، فكانت حول “إنشاء جيش من المفكرين والمبدعين” يقوم بمهمة “التفكير وتبني الرؤى” لتأمين استمرارية النظام.

شمل هذا الجيش أساتذة الجامعات والباحثين في المجالات الصناعية والزراعية، وكان الجميع يُخضع لجهاز الأمن القومي والمخابرات العامة؛ لأن دولة “23 يوليو” لم تكن تثق بالجماهير، بل كانت تستخدمهم فقط وتستغلهم وتجعلهم “خاتمة” للشعب.

هذا التوسع في تكوين “فرق عمل لإنتاج الأفكار” استدعى وجود منافذ وقنوات لتوجيه إنتاج “جيش المثقفين” الفكري والإبداعي، وكانت منافذ التواصل المناسبة في تلك الحقبة – خمسينيات وستينيات القرن العشرين – هي الإذاعة، والمجلات الثقافية، والتلفزيون الذي كان يُعتبر “عملاقًا!”.

كانت هذه القنوات تنقسم إلى “درجات مالية”، فمثلًا، كان لدى “الروائي” إنتاج ذو قيمة، فيكون له “درجة وظيفية” أعلى من غيره، وبالتالي فإن مستحقاته المالية تكون أكبر، وكانت طريقة صرف مستحقاته المالية تكون عبر “المسلسل الإذاعي”، حيث تُحول رواياته إلى مسلسل يعرض عبر الإذاعة، ويستلم “المؤلف” مكافأته من خزانة الإذاعة التي كان لها دور كبير في تشكيل الرأي العام والوعي الجماعي للجماهير.

السيطرة على المناصب

الكاتب الصحفي الذي يمتلك القدرة على نقل الأفكار والرؤى، يستحق بالتالي الجلوس على كرسي “رئيس التحرير”، وكان يتم السيطرة على هذا المنصب من قبل “أجهزة الأمن” بعد عام 1960، حيث تم تحويل المؤسسات الصحفية إلى جزء من مفاصل الحكومة، حيث أصبحت تديرها ضابط كبير في “مباحث الصحافة” التي تعد إحدى فروع جهاز “المباحث العامة”، الذي كان يُعتبر جهاز الرعب والكسر النفسي، الذي كان ضباطه يتلقون تدريبهم من ضباط المخابرات الأمريكية في دورات تدريبية أقيمت في واشنطن خلال خمسينيات القرن العشرين.

كان هؤلاء هم الذين قاموا بتدمير “الشيوعيين الذين تم القبض عليهم في ليلة رأس السنة عام 1959″، وكان العسكري الذي احتكر منصب رئيس التحرير ومنصب “الروائي” هو “يوسف السباعي”، عضو تنظيم “الضباط الأحرار” ـ فرع سلاح الفرسان ـ الذي شغل مناصب بارزة في المؤسسات الصحفية، وتحوَّلت رواياته إلى أفلام منها “رد قلبي” الذي أصبح رمزًا من رموز الجمهورية “23 يوليو المجيدة”.

عندما وجد الشيوعيون المعتقلين في “معتقل المحاريق” في الصحراء الغربية، أنهم تم نقلهم للتقاعد السياسي، قرروا إقامة “معهد ثقافي” داخل المعتقل، حيث تعلم الشيوعيون من الأصحاب الموهوبين فن التحرير الصحفي، وفنون المسرح، والغناء.

بعد إقامة المصالحة بين الشيوعيين وعبدالناصر في عام 1964، تم إطلاق سراح الشيوعيين وتم حل “الحزب الشيوعي”، وطُلب منهم الانضمام للحزب الحاكم آنذاك والاتحاد الاشتراكي.

تم تعيين كبار قادة الحزب الشيوعي “المنحل” في المؤسسات الصحفية ووزارة الثقافة وتم تنظيم “الفساد الثقافي”، حيث كان المثقف النظامي أو “المثقف الموالي” يحصل على مكافآت مالية من الصحف والإذاعات والمجلات التابعة لوزارة الثقافة، ومن ثم يتلقى المكافآت المالية عبر “المسلسل الإذاعي”.

وفيما يتعلق بأدائه وإخلاصه وبناءً على “تقارير التحقيق” التي يقدمها للجهاز الأمني المسؤول عن رصد هذا المجال أو ذاك، يمكن منحه جائزة تشجيعية أو تقديرية من الدولة.

بات المشهد غير عادي، فقد أُعيد تشكيل الصورة للمثقف كـ (عسكري)، حيث يتولى تقديم النصائح في مجالات الثقافة والإعلام والفنون، ويعلم الناس قيمة حب الوطن، إذ يقوم بالدفاع عن الأرض وحمل السلاح واحتراف “القتل” على ساحات المعارك.

تُضاف إلى هؤلاء فئة أخرى، وهي فئة “اللصوص” أو “المجرمون” الذين ينهبون الأموال العامة تحت غطاء “النشاط الثقافي”، مما جعل وزارة الثقافة والوزارة الشقيقة لها وزارة الإعلام تتحولان إلى وزارتي “السلب المنظم” للأموال العامة.

مثقفون يتسولون

كانت الفترة الأخطر هي فترة “مبارك”، التي أُغلقت من خلالها فترة “23 يوليو المجيدة”، واستمرت لمدة ثلاثين عامًا، حيث استدعيت من المستودعات ـ الناصرية والساداتية ـ كل القيادات والعقول التي نشأت ضمن “جيش الفكر” الثوري الناصري التقليدي، وكذلك الساداتي، من أجل مواجهة الانتشار المسلح للتيار الإسلامي الذي شهدته مصر في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين.

وفي تلك السنوات، تم طرح سؤال على الناس: “هل تدعم الدولة العلمانية أم الدولة الدينية؟” وقد أُدي ترجمة هذا السؤال إلى إنشاء فريقين: فريق “أنصار وزارة الثقافة”، وفريق “التيارات الإسلامية والإخوان”، واللافت أن الشيوعيين انحازوا لـ “فترة مبارك”، واعتبروا أنهم في مهمة رفيعة، وشاهدوا أن “التأييد لمبارك” يعني التأييد لـ “الديمقراطية والعلمانية والوطنية”.

انتهى نموذج “المثقف المستقل”، الذي كان من المفترض أن يدافع عن الحرية والعدالة والقيم النبيلة، ولكن وضع المثقفين المصريين تغير تمامًا، إذ تحولوا إلى “تجار متجولين” يطرقون أبواب “البيوت المطهية” ويتسولون “قوت يومهم” ويبيعون عقولهم وأقلامهم لمن يدفع الثمن كما قال نجيب سرور: ” وقوافل الفقراء يتوجهون من الرصيف إلى الآخر، يبحث كل فقير عن رغيف”.

لم يعد المثقف صوت الضمير، ولم يعد المثقف ضمير الوطن والأمة، اندثر هذا المفهوم، والفضل يعود لفترة “23 يوليو” التي جعلت “المثقف” موظفًا يستلم راتبه مقابل بيع فكره وقلمه وعقله، وهذا أدى إلى الوضع الحالي، حيث أصبحت صورة المثقفين العام تعكس انحراف المفاهيم وفقدان الحدود.

فالمثقفون الذين رفضوا “اتفاقية كامب ديفيد” ورفضوا التعاون مع إسرائيل في معرض الكتاب بالقاهرة وشكلوا “المظاهرات” داعمة للقضية الفلسطينية، يشغلون أنفسهم في الوقت الحالي بالجوائز والتكريمات والرحلات والمنح والهبات، بينما المقاومة الفلسطينية تواجه جيوش أميركا وأوروبا بمفردها.

ولم يتحرك المثقفون ساكنين، فالوحيد الذي بكى ودعم المقاومة ودعا لها بالنجاح والقوة في الصلوات هو “المواطن العادي” الذي يستهان به من قبل المثقفين، ليُعتبر الأقل وعيًا والأدنى فكرًا، على الرغم من أنه الأنسان الأكثر إنسانية والأنبل من بين جميع المثقفين في الغرف المكيفة والاستوديوهات المجهزة.

الآراء المُعبر عنها في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة موقف قناة الجزيرة التحريري.

قد يعجبك ايضا

آراء

أقرأ أيضا

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.