مثقفو الاستعمار الجديد في عصر النيوليبرالية.. بوعلام صنصال أنموذجا
يؤكد غرامشي أن هذه الظاهرة ليست مقصورة على إيطاليا، بل تمتد إلى العديد من الدول خلال فترات الانحطاط الأخلاقي، مضيفًا أنها علامة على غياب الروح الوطنية الشعبية.
التطبيق في العالم العربي
تجد هذه الظاهرة صداها في العالم العربي، وخاصة في الجزائر، حيث يعتبر الروائي بوعلام صنصال نموذجًا صارخًا لهذا “الهوس بالخارج”. صنصال، الذي حصل على الجنسية الفرنسية، أثار جدلًا واسعًا بسبب مواقفه وكتاباته التي كان يُنظر إليها على أنها معادية للتاريخ الجزائري، وتمجد الثقافة الأجنبية على حساب الهوية الوطنية.
نخب الاستعمار
وصف الطبيب والفيلسوف المناهض للاستعمار فرانز فانون هذه الفئة من المثقفين في كتابه “بشرة سوداء – أقنعة بيضاء” (1952)، في حين أشار جان بول ساتر إليهم كـ”النخب المتبرجزة التي تزدري شعوبها”. يقترن هذا الوصف مؤخرًا بشخص بوعلام صنصال بعد حديثه في ندوة بفرنسا حول ما وصفه المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا “اعتداء صنصال على الوجدان الشعبي الجزائري”.
إن الحالة الذهنية التي تحدّث عنها غرامشي في القرن العشرين تُظهر كيف أن المثقفين الجزائريين، مثل صنصال وكمال داود، قد تنطبق عليهم صفات مشتركة تتلخص في ازدراء الهوية والتراث الثقافي.
دور المثقف في السياق النيوليبرالي
عند الحديث عن المثقف المعاصر، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الدور الذي يمثله في مجتمعه. لطالما كانت العلاقة بين المثقف والسلطة متوترة، إذ طُرح العديد من المفكرين دور المثقف كمدافع عن مصالح الشعب في مواجهة الهيمنة السياسية. لكن عصر النيوليبرالية قد خلق تحولات جديدة في هذا الدور.
تساءل الفلاسفة عن دور المثقفين في تشكيل الرأي العام في ضوء هذه التحولات، وبرز مفهوم “الفكر الأحادي” الذي يعكس تسليع القيم والمبادئ.
تحول الفكر إلى رأس مال رمزي، حيث أصبح المثقفون، بالمصطلحات الماركسية، جزءًا من النظام المهيمن، ولكنهم يمثلون طبقة مسيطر عليها داخل الطبقة المسيطرة، لأن رأس المال المادي هو من يشتري رأس المال المعنوي.
خلال الموجة الثانية من الحقبة النيوليبرالية، ظهرت أعمال نقدية مهمة في السياق الغربي، وخاصة في فرنسا، تساءلت عن دور المثقف المعاصر، مثل كتاب “دجالون مثقفون” (1997) لآلان سوكال وجان بريكمون، و”المثقفون المزيفون: الانتصار الإعلامي لخبراء الكذب” (2012) لباسكال بونيفاس. هذه الديناميكية فتحت الباب لمثقفي الدول التي تحكمها أنظمة غير ديمقراطية للعبور “الآمن” إلى صف السلطة الفكرية تحت غطاء المعارضة للسلطة السياسية.
الحاجة للتمييز بين السلطتين
يشير المفكر الإيطالي مارتشيللو فينيتسياني إلى ضرورة التمييز بين السلطة السياسية والسلطة الفكرية. فقد تتوافق السلطتان أحيانًا، لكن تناقضاتهما لا تعني أنهما تقفان مع الشعب، بل تتعلق دومًا بحالة سلطوية.
حالة بوعلام صنصال مثيرة للاهتمام، إذ كان لفترة جزءًا من السلطتين، حيث كانت له حماية من ما يعرف ب”العصابة” التي قاومها الشارع الجزائري في حراك 2019. صنصال شغل منصبًا ساميًا في وزارة الصناعة، مما أتاح له التأثير على تاريخ الجزائر عبر كتاباته وندواته، ومن دون أن يُعاقب من قبل القانون.
تجاوزات ومشكلات مرتبطة بأعمال صنصال
كان من أبرز تجاوزات صنصال أن ربط في روايته “قرية الألماني” (2007) الثورة الجزائرية بالنازية، مما أثار ضجة أدبية حينها. كما تم في السنوات الأخيرة مصادرته كتاب “مهرّبو التاريخ” للروائي رشيد بوجدرة، الذي سلط الضوء على علاقات مثقفين بالسلطات والاستعمار. تسبب بوجدرة في دعوى قضائية رفعها كمال داود، الذي اتهمه بالقذف بسبب ادعاءاته عن انتمائه لجماعة إرهابية.
تدوولات هذه القضايا تطرح تساؤلات حول التناقضات في تصرفات المثقفين، وخاصة بخصوص صمت المجتمع العالمي عن تجاوزاتهم في حق شعوبهم.
إشكالية الدفاع عن المثقفين
رغم التزوير والكذب الواضح، تبقى هناك أصوات في الإعلام الفرنسي تدافع عن حق صنصال وآخرين في التعبير. يطرح هذا السؤال المهم: لماذا يُدافع عن هؤلاء مثقفين إذا كان لديهم تاريخ مليء بالكذب؟
تداعيات قانونية واجتماعية
يشدد الفيلسوف الإيطالي كوستانزو بريفي على فعل المثقفين في زمن النيوليبرالية، مشيرًا إلى حالة “عصمة من الخطأ” التي يتمتع بها المثقفون، مما يعيد للذاكرة كتابه عن دور المثقفين في العصر الحديث. يعكس الوضع الحالي لبوعلام صنصال هذا التحدي الجاد للقيم الإنسانية التي بها يُقيّم الكاتب.
تم إيقاف صنصال وفقًا للمادة 87 في مطار الجزائر الدولي بعد مشاركته في ندوة في فرنسا خرق خلالها القانون الجزائري. هذه الحادثة شُبّهت من قبل مؤرخين بأنها “اعتداء على وجدان الشعب الجزائري” و”خيانة للوطن”.
مثقفون دجالون
لعل الأسوأ في مسألة صنصال هو أن التاريخ لن يذكره إلا كأحد “المثقفين الدجالين”، وفق تعبير آلان سوكال وجان بريكمون. تعتبر الكتابات الأدبية نتاجًا يعكس واقع هؤلاء الكتاب، وثقافاتهم التي لا تتوانى عن سرقة تاريخ الأمم وتزوير ضمائرها.
- الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.