مرحباً بكم في مقالنا الجديد عن تجربة اليابان بعد الحرب | سياسة

Photo of author

By العربية الآن

يتوقع الكثيرون في السودان بعد انتهاء هذه المعركة الحربية أن يُعجزوا بمشاهدة وطنهم الذي تم تدميره تقريباً بأكمله، حيث تم نهب وتدمير الصناعات والمتاحف والجامعات والمواقع التاريخية، وأن الاقتصاد يعاني اليوم من الانهيار، وكل شيء بالتقريب يتزحزح على حافة الهاوية، ولهذا السبب، فالحل الوحيد للنجاة هو العمل بجد لإعادة بناء البلد على أسس جديدة وقوية، مستلهمين الدروس من تجارب سابقة نجحت في النهوض من تحت ركام الكوارث.

خسائر وأرقام هائلة

وفقًا لتقديرات وزارة المالية، بلغت الخسائر الاقتصادية نتيجة للحرب حوالي 26 مليار دولار، وهذا التقدير غير دقيق، وأوضح الفريق إبراهيم جابر عضو مجلس السيادة أن المؤسسات العامة والحكومية تعرضت لأضرار قد تتجاوز 150 مليار دولار – مما يجعل هذه الخسائر قابلة للزيادة، وهي تمثل فاتورة تقديرية لمدة عام فقط من القتال!

هذه الأرقام لم تشمل الأضرار التي حلت بالقطاع الخاص بالطبع، وكذلك لم تشمل الآثار الكارثية على المواطنين العاديين الذين فقدوا منازلهم وممتلكاتهم وأحباءهم ومصادر رزقهم، ولكن الأمر الأكثر فزعًا – والذي من الصعب معالجته – هو النسيج الاجتماعي الممزق، الذي سيترك آثاره لجيل قادم على الأقل، بالإضافة إلى أزمة الهويات المدمرة التي نشأت نتيجة لصراع السلطة والثروة بين القادة السياسيين والعسكريين والجنود العاديين الذين يأملون اليوم في مشاركة الثروة والقوة فوق أصوات بنادقهم، ويندثرون بشكاوى حول المظالم التاريخية.

الإوز الطائر

ربما يكون من المؤسف أن نذكر أن الحرب أجبرت السودان على خطوة خطيرة من التخلف الى إلى مرحلة الانعاش، حيث باتت وكأنها مريضة تحتاج للعناية الطبية، بعد أن كانت مرشحة لتكون من ضمن دول الريادة الاقتصادية عالميًا، الأمر الذي لم يشهد له مثيل في العصر المعاصر، ولذا فإن الضرورة تقتضي إجراءً جذريًا، يشبه إلى حد بعيد التحول الذي حدث في اليابان، إذ يسعى العالم كله نحو الأمام بخطى ثابتة، أو بحسب نظرية الإوز الطائر التي تصوّر عملية النمو الاقتصادي في دول شرق آسيا، وتبرز اليابان كرائدة في هذا المجال.

ربما قدر “أكاماتسو كانامي” وعندما وضع تلك النظرية في عام 1937، اعتمد على تجربة أسراب الإوز، التي تظهر أن دول النهوض تميل إلى صناعات أقل تقدمًا مقارنة بالدول الأكثر تطورًا اقتصاديًا، كما قدّم تجربة بلاده في التحول المذهل من استيراد النسيج من بريطانيا إلى إنتاجه وتصديره بعد ذلك، وصولًا إلى تحقيق العاصمة والانعطاف الحضاري، وتلك النظرية لاقت إعجاب العالم حاليًا، كأنها دولة ممتازة في كوكب مختلف.

يمكن للسودانيين الاستفادة من تجربة اليابان، ليس فقط من الناحية الصناعية وإنما من منظور البداية الرائعة والانطلاق السريع من الظروف الصعبة، ويلزم ذلك تغيير المنهج البيروقراطي الحالي، والتخلص من الأفكار البالية التي شكلت النظام السابق.

التجربة اليابانية

في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت التوترات تتصاعد، قام الحلفاء بشن هجوم جوي مروع بالقنابل الحارقة، مما أدى إلى تدمير حوالي 67 مدينة يابانية، ثم تم رمي قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي من قبل الولايات المتحدة، حتى استسلمت طوكيو أخيرًا، وانتهت الحرب بدمار شامل في جميع أنحاء اليابان، وأدى ذلك إلى انهيار الإمبراطورية ومحاولات إعادة بناء الاقتصاد والحياة، حيث يعتقد الكثيرون أن اليابان لن تقوم مطلقًا بعد تلك الأيام السوداء.

لكن العقل الياباني لم يستسلم، حيث تولى رئيس الوزراء في ذلك الحين هذه المهمة بجدية بالغة، وحوّل النكبة إلى نجاح؛ مما جعل اليابان تحقق ما يُسمى بالمعجزة الاقتصادية اليابانية، والتي حصلت في غضون أقل من عقدين من الزمن، وذلك من خلال السعي لتعزيز القوة الاقتصادية والعسكرية للبلاد، ومحاولة جادة ليصبحوا جزءًا من متسابقي العالم الصناعي الغربي، من خلال إقرار القوانين أولاً، ثم تطوير التعليم والزراعة، وقبل كل شيء بناء شخصية المواطن على نهج “غامان”، وهو مجموعة من الإستراتيجيات التي تسمح للأفراد بمواجهة التحديات الصعبة والمفاجآت بنجاح، مثل الزلازل والمشاكل الحياتية الأخرى.

تحديث النظام البيروقراطي

بالتالي، يحتاج السودانيون بعد التخلص من أثر الحرب إلى مرحلة من التعافي الاجتماعي والسياسي، ثم التنسيق لوضع دستور جديد يحققحلا مؤثراً للمسألة الرئيسية في الصراع على السلطة، وهي إشكالية تحتاج إلى تقسيم سيطرة المركز لصالح الإقاليم، من خلال تبني نموذج فدرالي أوسع، مع حق كل إقليم في استغلال ثرواته وحقوقه السياسية، والتعاون مع المركز في بعض القضايا السيادية فقط، دون الحاجة إلى تركيز الهجرات نحو العاصمة.

أما المشكلة الثانية، فتتعلق بوضع حد للتدخلات الأجنبية التي تستغل موارد السودانيين، حيث كثيراً ما زعزعت استقرار البلاد خلال السنوات السابقة، بسبب تقبل السودان التدخلات الخارجية، وانتشار أسواق العمالة السياسية الخارجية، نتيجة للموقع الجغرافي للسودان، ونقص الولاء الوطني، كما أشار الدكتور عزمي بشارة في كتابه: “الانتقال الديمقراطي وإشكالياته”، “زيادة الوزن الاستراتيجي للدولة تزيد تأثير العوامل السلبية الخارجية”، وهو تحدينا الحالي بالضبط، ويمكن للقوى الوطنية تصحيح الوضعية من خلال استقلالية صنع القرار، وهم في معركتهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

لا داعي لملاحقة نجاح اليابان والتحليق بالأفكار، فالسودان له طابعه ووجوده الخاص حتى في الأوقات الصعبة، بينما اليابان دولة استثنائية في هذا العالم، لكنها أيضاً تجربة قريبة لما يمكن للفرد تحقيقه بعد الهزيمة والتدمير، فالحكمة كنز المؤمن أينما وجدها، فيجب أن يستفيد منها، وأمام الشعب السوداني فرصة أخيرة للتألق فوق الجروح، ثم التوجه إلى العمل.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن سياسة تحرير قناة الجزيرة.

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.