مملكة مالي الإسلامية.. بلاد الذهب التي سبق ملكها إلى استكشاف أميركا
بالرغم من أن الاستعمار الفرنسي والصراعات التي تلتها قد تركت دولة مالي الحالية في حالة من التخلف، مما جعلها واحدة من أفقر دول العالم، إلا أنها تبقى وراثة لدولة كانت تعد من أغنى دول العالم، عرفت بمملكة الذهب.
للأسف، أهملت الدراسات التاريخية الحديثة بشكل كبير مملكة مالي الإسلامية في غرب إفريقيا، حيث استندت المعلومات التي قدمتها إلى مصادر أوروبية، ركزت على الخصائص الأفريقية وتجاهلت الأبعاد الإسلامية التي كانت حجر الزاوية لمجدها الحضاري والتاريخي.
على الجانب الآخر، تناول المؤرخون المسلمون القدامى هذه المملكة وأبدوا إعجابهم بمستوى انتشار الإسلام والعلوم فيها، إضافة إلى تمسك قيادتها وشعبها بتعاليم الشريعة.
ركزت الدراسات الغربية على الأمور الاستعمارية، وسعت لشيطنة الوجود العربي الإسلامي في إفريقيا، معتبرة إياه السبب الرئيسي في تخلف الأفارقة، بينما يشير تاريخ الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا، مثل إمبراطورية مالي، إلى عكس ذلك تماماً مقارنة بالواقع الراهن للمنطقة بعد الحقبة الاستعمارية.
ويرى العديد من المؤرخين الغربيين، مثل شارل أندريه جوليان وجاسوت وكوبلاند، أن إفريقيا لا تاريخ لها، بينما أشاد الكاتب توماس أرنولد بشعب مملكة مالي واعتبره من أكثر الشعوب الأفريقية تقدماً.
التأسيس والامتداد الجغرافي
تأسست إمبراطورية مالي في منتصف القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي) بواسطة قبائل مسلمة تعرف باسم المادنغو أو المانديغ، التي كانت من أكثر القبائل حماسة للإسلام.
ووفقاً لأمين عام المنتدى الإسلامي للتنمية والتربية في السنغال، الأستاذ محمد سعيد باه، فإن إمبراطورية مالي نشأت حوالي عام 1230م على أنقاض مجموعة من الدول والإمبراطوريات الأفريقية الكبرى، مثل مملكة الكونغو.
كما كانت مملكة مالي الوريث المباشر لإمبراطورية غانا، التي أسقطها المرابطون عندما اجتاحوا عاصمتها كومبي صالح.
وفي كتابه “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”، يذكر المؤرخ أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري (توفي عام 749 هـ) أن مملكة مالي كانت تقع في جنوب المغرب وتصل إلى المحيط الأطلسي.
أما المؤرخ ابن بطوطة (719 هـ) فقد ذكر أنه سافر من مدينة إيوالاتن (التي تعرف حالياً ببولاتة، شرقي موريتانيا) إلى مدينة تحتضن ملك مالي، وادت المسافة بينهما إلى 24 يوماً.
وفقاً لأستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة الساحل المالية، الدكتور مصطفى انجاي، امتدت إمبراطورية مالي في القرن الرابع عشر الميلادي من المحيط الأطلسي غرباً إلى الحوض الأوسط من نهر النيجر شرقاً، ومن الغابات الاستوائية جنوباً إلى أطراف الصحراء الكبرى شمالاً.
تغطي هذه المنطقة اليوم أجزاء من دول: غامبيا، السنغال، غينيا، غينيا بيساو، ساحل العاج، بوركينا فاسو، مالي، وموريتانيا.
الأقاليم الرئيسية:
تضمنت مملكة مالي 5 أقاليم كبرى هي:
- إقليم غانة، وهو الغربي المجاور للمحيط الأطلسي.
- إقليم صوصو، الذي يقع بين إقليم غانة وإقليم مالي وحمل اسم سكانه.
- إقليم مالي، الذي يقع في وسط المملكة ويضم عاصمتها “يني”، ورأى المؤرخ العمري أن سلطان هذه المملكة يجلس في مجلس واسع يدعى “بمبى”، وسلاحه من الذهب.
- إقليم كوكو، الذي يقع شرق إقليم مالي عند نهر يصب في الصحراء.
- إقليم التكرور، الذي يقع شرق كوكو ويشمل مدينة تكرور التي كانت -حسب المغربي- أكبر من مدينة سلا في بلاد المغرب.
ملوك مالي
ذكر المؤرخون أن أول ملوك مالي كان سوندياتا كيتا (633 – 635 هـ)، المعروف بلقب ماري جاظة، الذي ضم إليه إقليمي صوصو وغانة.
بعده، ملك مانسا ولي، الذي يعني السلطان علي، والذي حج في زمن الظاهر بيبرس.
يعتبر مانسا موسى بن أبي بكر من أكثر ملوكهم شهرة، حيث حكم في 713 هـ واعتبره ابن خلدون ملكاً عظيماً، إذ أصبحت المملكة في عهده قوية وفتحت مناطق عديدة، منها غاو وتمبكتو.
وصف العمري مانسا موسى بأنه “أعظم ملوك السودان المسلمين” وأكثرهم مالاً وجيشاً.
اشتهر مانسا موسى بحجّه المعروف الذي قام به عام 724، حيث زار مصر في عهد الناصر محمد بن قلاوون، محملاً كميات هائلة من الذهب.
يصنف مانسا موسى كأحد أغنى الرجال عبر التاريخ، وفقاً للأستاذ سعيد باه.
مالي.. مملكة الذهب
على الرغم من عدم امتلاك مالي الحالية لعملة خاصة بها، واستخدامها للفرنك غرب أفريقي (الذي كان جزءاً من الفرنك الفرنسي)، إلا أن أهل مالي تمكنوا خلال فترة مملكتهم من سك نقود من الذهب الخالص تعرف بالمثقال.
اكتسبت مملكة مالي شهرة واسعة كلقب “مملكة الذهب”، حيث نقل العمري عن علي بن أمير حاجب، والي مصر، أنه سأل مانسا موسى عن كيفية نشوء الذهب في مملكته.
أجاب مانسا موسى أن هناك نوعين: أحدهما ينمو في موسم الربيع بعد الأمطار، والآخر يوجد طوال العام في أماكن معينة.
ثروة مملكة مالي لم تقتصر على الذهب، بل كانت تحتوي أيضًا على معدن النحاس الأحمر.
انتشار الإسلام
دخل الإسلام هذه الممالك عبر الملثمين من صنهاجة، الذين غزوها وقاموا بفرض الجزية قبل اعتناق الإسلام.
لاحقاً، اعتنق ملوك مالي الإسلام، وازدهر بصورة كبيرة خلال حكم مانسا موسى، الذي بنى العديد من المساجد وجلب الفقهاء إلى البلاد.
وابن بطوطة شهد خلال زيارته مدى حرص أهل مالي على إقامة الصلوات وتطبيق التعليمات الدينية.
التجار العرب المسلمون كان لهم دور فعال في نشر الدين والعلم في مالي، حيث أسسوا مدينة غاو واحتموا بأماكن قيادية فيها.
حضارات إسلامية مثل مدينة تمبكتو، التي أسسها الطوارق، اشتهرت في عهد مانسا موسى.
يصف المؤرخ السعدي تمبكتو بأنها “مدينة لم تدنسها عبادة الأوثان”.
اكتشاف ما وراء الأطلسي
تجسد طموحات مملكة مالي ومغامرات ملوكها خطوة غير مسبوقة في استكشاف ما وراء المحيط الأطلسي، قبل جميع الرحالة الأوروبيين.
نقل العمري عن ابن أمير حاجب أنه سأل مانسا موسى عن كيفية وصول الحكم إليه، فأخبره أن الملك السابق كان يخطط لاكتشاف نهاية المحيط وأعد 200 سفينة مليئة بالرجال والذهب والزاد.
بعد فترة طويلة، عاد مركب واحد فقط وكانت هناك روايات عن عدم عودة السفن الأخرى، ما جعل مانسا موسى يخلف معهم ألفي مركب جديدة.
يعتقد بعض الباحثين أن ملك مالي هذا قد يكون أول من وصل إلى القارة الأمريكية قبل كريستوف كولومبوس.
التفكك
مع اتساع رقعة الإمبراطورية، أصبحت المحافظة على وحدتها السياسية الشاسعة تحدياً كبيراً.
أدت الصراعات مع قبائل الموشي والطوارق إلى ضعف الإمبراطورية، مما ساهم في تفككها في بداية القرن الخامس عشر الميلادي.
مع ذلك، تبقى مملكة مالي حية في الذاكرة الجمعية للعديد من شعوب منطقة غرب أفريقيا، خاصة في المجالات الثقافية والفنية والأدبية.
رابط المصدر