من الأصالة الفلسفية إلى المرابطة الفكرية.. طه عبد الرحمن بين إسطنبول وقلب الأناضول
يعتبر طه عبد الرحمن، أستاذ فلسفة اللغة والمنطق، مُلقباً بـ”فيلسوف الأخلاق” و”فقيه الفلسفة”، وقد اشتهر بنهجه الفلسفي الفريد الذي طوره بمفاهيم أصيلة، مما جعل فلسفته حديثة وتُعزى له.
في مشروعه الفكري الذي بدأه منذ أكثر من نصف قرن، أدرك طه عبد الرحمن وجود مشكلتين أثرتا على الخطاب الفلسفي الإسلامي قديماً وحديثاً، وهما آفة البيان وآفة الإيمان.
تتعلق آفة البيان بتعطيل لسان الأمة، حيث ينفصل الفكر عن التعبير، مما يؤدي إلى تعطيل العقل. ولقد دعا طه إلى ضرورة تبني فلسفة “تداولية” تفهم من قبل العرب والمسلمين. وقد عرض طه في محاضرة بعنوان “كيف نؤسس فلسفة إسلامية أصيلة” رؤيته حول الفلسفة الإسلامية المعاصرة في مركز البحوث الإسلامية (İSAM) في إسطنبول يوم 23 يوليو/تموز.
الفلسفة الائتمانية
يؤكد طه عبد الرحمن أن الفلسفة الإسلامية المعاصرة لن تحقق الأصالة إلا عبر إبداع الفلاسفة المسلمين. ويرى ضرورة إنشاء فلسفة إسلامية مرتبطة بالتداول الإسلامي، مُبرزاً أهمية الانطلاق من مشكلات فلسفية أصيلة بدلاً من استيراد إشكالات من الفلسفات الأخرى.
أما الآفة الثانية التي يعالجها طه فهي الآفة الإيمانية، إذ يرى أن المعاني الإيمانية لم تعد توجّه الخطاب الفكري، مما يستدعي التفكير بعمق في إسلاميتنا. وقد طرح طه مفهوم “الفلسفة الائتمانية” التي انبثقت في مؤلفاته الأولى وناقش تطبيقاتها في كتبه الأخرى مثل “روح الدين” و”ثغور المرابطة”.
من خلال فلسفته، يُبرز طه مفهوم الفلسفة الإسلامية الأصيلة كوسيلة لتجاوز المشكلات الناتجة عن فصله بين العلم والحكمة، ويشدد على أهمية أن تكون علاقاتنا مع العالم علاقة ائتمان، حيث المعرفة ترتبط بالقيم. ويشير طه إلى أن الفيلسوف المسلم يحقق كماله بالاقتداء بالنبي محمد ﷺ، ويدعو إلى الرتبة العليا في التفكير والأخلاق.
كما تميزت فلسفة طه عبد الرحمن بالتدقيق المفهومي وتطوير المفاهيم التي تهم المسلم، بتفكيكها وتحليلها. وفي هذا السياق، انتقل من إسطنبول إلى قلب الأناضول، حيث ألقى محاضرة بعنوان “الفرق بين التفكير والتفكر” لأهل أنقرة.
مفاهيم الأمة
يعتبر طه القرآن الكريم مرجعاً أساسياً لمفاهيم الأمة، حيث استثمر مصطلحاته في توجيه فلسفته. ويُبرز طه الفرق بين التفكير والتفكر، مشيراً إلى أن التفكر يتجاوز السطحية إلى عمق المعاني، فلا يمكن أن يُؤخذ الفيلسوف المسلم في اعتباره إلا إذا كانت أفكاره مرتبطة بالحياة عملية. كما يُظهر أن التفكر جهد حيوي يتطلب التواصل مع الواقع.
وفي ختام عرضه، تناول طه مسألة الأخلاق، مُشيراً إلى أن التفكر يقتضي بناء فلسفة أرستقراطية تحاكي أخلاق النبي. وبهذا تناول طه كتابه الأخير “السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي” في جلسة خاصة في مكتبة الأمة.
السيرة النبوية
وفي سياق حديثه عن كتابه الجديد، أوضح طه أن السيرة النبوية تم تناولها بعدة طرق: محدثين، مؤرخين، وفقهاء. لكنه أراد تقديم مقاربة فلسفية تُبرز الأخلاق في جوهرها. وبيّن أن السيرة تعكس الأخلاق، مشيراً إلى أن هدف بعثة النبي ﷺ هو إتمام الأخلاق بشكل نوعي وليس كمياً، من خلال شمولية القيم والإرادة والعقل.
بما أن التفكر يجب أن يرتبط بالعمل، يعتبر طه أن الفيلسوف المتفكر يشبه الجندي في خندقه. ولذلك، في يوم الجمعة 26 يوليو/تموز، وتحت تصفيق حار، تناول طه عبد الرحمن الأحداث العصرية، حيث ألقى كلمة حول “الشر المطلق والمرابطة الفكرية”.
مفهوم الشر
حيث تناول طه مفهوم الشر في سياق الحرب الحديثة، مُشيراً إلى أنه شر مطلق يتجاوز ما تكلم عنه الفلاسفة مثل “الشر الجذري” و”الشر المبتذل”. واعتبر أن الشر المطلق يتعارض مع الكمال الإلهي، ولا يمكن فهمه إلا بعقل متصل بالقيم الدينية. وأبرز كيف أن هذا الشر الحالي يتجسد في الأحداث المعاصرة مثل ما يحدث في غزة.
حضور بتركيا
ختاماً، لقد لاقت زيارة طه عبد الرحمن إلى تركيا ترحيباً كبيراً بشكل عام، حيث تجاوز عدد الحضور في محاضرته الأولى في إسطنبول سعة القاعة. كما ملأت محاضرته في جامعة غازي المدرج بالكامل، وأيضاً تم عرض المحاضرة عبر شاشة خارج القاعة بسبب الإقبال الكبير عليها. خلال جولته، تم تكريم طه عبد الرحمن ثلاث مرات، منها جائزة المتفكر السنوية من المعهد، والتي قدمها له نائب رئيس الجمهورية. كما استقبله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في القصر الرئاسي تقديراً لحضوره.
أما في الأوساط الفكرية التركية، فقد تم تنظيم جلسات نقاش حول القضايا التي تناولها طه عبد الرحمن، حيث جرت نقاشات كبيرة حول أفكاره وتأثير زيارته. يبدو أن البعض يرى أن حضوره قد أنعش الفكر الأكاديمي، بينما يعتبر آخرون أن له مشاريع فكرية تتطلب مراجعة. ومع ذلك، فإن زيارة طه عبد الرحمن فتحت المجال لمزيد من الحوار حول الفلسفة الإسلامية.
في 27 يوليو/تموز 2024، عاد طه عبد الرحمن إلى المغرب، مسبقاً بمغادرته تركيا على أمل تحقيق فلسفة إسلامية تُعنى بإشكالات الأمة، باحثاً عن الحكمة وقيم الإيمانية، وبناء إنسان يتطلع إلى عالم أفضل من خلال مرابطته الفكرية.
رابط المصدر