من النجف إلى الرياض مع الجواهري

Photo of author

By العربية الآن


في بيت الجواهري بدمشق

نبذة عن مدينة النجف

في صغري، كنت أتجول في أزقة مدينة النجف الترابية، والتي وصفها ابن بطوطة في رحلته إليها سنة 727هـ – 1326م. قال: “ليس في هذه المدينة مغرم ولا مكاس ولا آل، إنما يحكم عليهم نقيب أشراف، وأهلها تجار يسافرون في الأقطار، وهم أهل شجاعة وكرم”. وقد وصف النجف بأنها واحدة من أجمل مدن العراق وأكثرها سكاناً.

يؤكد المؤرخ جعفر باقر مَحبوبة في كتابه “ماضي النجف وحاضرها” على أن المدينة كانت ميناءً برياً يربط بين العراق ونجد منذ العصور القديمة. كما يصف لوي ماسينيون، المستشرق الفرنسي، النجف بكونها مدينة ذات طابع بدوي، رغم أنها كانت مركزاً للدراسة الدينية.

تراث الجواهري ونشأته

يشدنا في وصف ابن بطوطة هذا رؤية مدينة النجف، حيث نشأ الشاعر محمد مهدي الجواهري. تربى الجواهري في محلاتها الأربعة: المشراق، البراق، الحويش، والعمارة. وكان محاطاً بالقبب الزرقاء لمدافن العلماء، حيث لعبت هذه الأجواء دوراً في تكوينه.

في تلك الأزقة، كان يتذكر الجواهري طفولته، حيث كان يحاول الهروب من المعلم بعد عقاب قاسي. حاول والده إلحاقه بدراسة العلوم الدينية، لكنه كان يميل مبكراً إلى الشعر من خلال قراءاته للقرآن والشعر العربي.

البدايات الشعرية

شهدت سنوات طفولة الجواهري تفاعلات مؤثرة، حيث تأثر بشخصية الشاعر محمد سعيد الحبوبي، ما أعطى الانطلاقة الأولى لموهبته الشعرية. سقط إبريق الشاي من يده بتأثير هذه الشخصية، وبدأت تجذب انتباهه روائع الشعر العباسي.

جاءت قصائد الجواهري في تلك المرحلة تعكس تفاعلاته الاجتماعية وتجاربه الشخصية، وخصوصاً ابتهجاته بأعمال شعراء مثل المتنبي وأبو الطيب. في قصيدته عن ثورة العشرين، عبّر عن قلقه من مرارة الحياة، معبراً عن رؤيته الشعرية بأسلوب فني مبتكر.

التمرد والهروب الفكري

غادر الجواهري النجف بحثاً عن أفكار جديدة، فبدأت مشواره مع الأدب العالمي، وخصوصاً الأدب الفرنسي. بمعرفته بالتيارات الثقافية الجديدة، وجد في الأدب وسيلة للتعبير عن مقاومته لأفكار المجتمع التقليدي، وقد انعكس ذلك في كتاباته لاحقاً.

كان لتجاربه القرائية في عصر النهضة تأثير قوي على كتاباته. استخدم الجواهري معاناته النفسية للتعبير عن قضايا مجتمعه، حيث استمد توحياته الشعرية من الأدب الروسي والكلاسيكيات المعاصرة.

الصراع مع ساطع الحصري

انتقل الجواهري إلى بغداد في أواخر العشرينيات، حيث بدأ صراعه مع المفكر القومي ساطع الحصري، الذي اتهمه بعدم الوطنية. رداً على ذلك، ألف الجواهري قصائد توضح جذوره العربية، مبرزاً اعتزازه بتراثه وبشخصيته.

استمر الجواهري في رحلته الأدبية وحياته السياسية، حيث ساهمت قصائده في زعزعة الوضع التقليدي وفتح آفاق جديدة للشعر العراقي. وبالرغم من الآلام التي عاناها، بسبب فقد شقيقه جعفر، استمر في إلهام الأجيال اللاحقة بكلمات تأملية تتناول مواضيع الشهادة والدم.

يعتبر محمد مهدي الجواهري رمزاً من رموز الشعر العربي، وقد ساهمت مسيرته الأدبية في تشكيل الهوية الثقافية العراقية والعربية بفضل أسلوبه الفريد ومعانيه العميقة.### الدم الغالي والدم الرخيص

يقول الجواهري: “استشهاد المرء أمر صعب، والدم غالٍ”. يصف الجواهري نوعين من الدم: الدم الغالي، الذي يُعتبر مصدراً للثورة والإبداع، والدم الرخيص، الذي يُهدر دون فائدة. وفي العراق، يُهدر الكثير من الدماء بشكل عشوائي أو غير موجه، مما يحوّلها إلى ما يُعرف بالدم الهدر.

عندما سُئل إن كان الدماء قد أثمرت في العراق، أجاب الجواهري بصراحة: “للأسف، لم تُثمر كثيرًا”. يُعتبر الدم درساً وعبرة، ولكنه لم يَفضِ إلى نتائج ملموسة أو تغيرات إيجابية في الوضع الراهن.

الصدام مع عبد الكريم قاسم

على الرغم من ترحيب الجواهري بانقلاب عبد الكريم قاسم على الملك فيصل الثاني في عام 1958، إلا أنه عارض قاسم عندما قيد حرية الصحافة. لقد عُرف الجواهري بانتقاداته العلنية وكتاباته في جريدته “الرأي العام”، التي استمرت من عام 1941 حتى 1961. انتقل الجواهري بعد ذلك إلى براغ حيث وجد فيها مناخاً ملهماً للشعر، لكن الحنين إلى العراق ظل يراوده.

ذكريات من براغ

في براغ، كتب الجواهري قصائد تعكس حنينه العميق لوطنه العراق، منها تلك التي تتحدث عن النهر والنخيل، حيث يقول:

“سلامٌ على هضبات العراقِ
وعلى النخيل ذي السعفات الطوال”

تلك الذكريات كانت تلاحقه حتى وهو يعيش في منفاه.

أجواء اللقاء في دمشق

بعد مقابلة تلفزيونية مع الجواهري، دعاني إلى منزله لتناول “الرقي” و”الشمام”. كانت تلك اللحظات مليئة بالذكريات والنقاشات حول العراق.

تحدثنا عن عائلات عراقية معروفة، ومنها عائلة القطيفي، وذكرني بالعديد من الروابط الثقافية والسياسية التي تجمع بين العراق والسعودية.

زيارة الجواهري للمملكة

مع نهاية لقائنا، أعرب الجواهري عن رغبته في زيارة المملكة، معبراً عن إعجابه بالملك عبد العزيز. بعد أقل من عام من حديثنا، قام الجواهري بزيارة المملكة للمشاركة في مهرجان الجنادرية، مما أثار استياء الإعلام العراقي، الذي تعامل مع الزيارة بسلبية.

كان الجواهري يتذكر وطنه حتى أثناء زيارته للسعودية، حيث كان ينظر إلى الصحراء ويتذكر أرض الكوفة والنجف بحنان واشتياق.

رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.