مواد في الذهن.. “الساق على الساق في ما هو الفارياق” لأحمد فارس الشدياق
<
div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>في هذا الزاوية الثقافية “مواد في الذهن”، توفر الجزيرة نت فرصة لتذوق الكتابات العربية والمترجمة، حيث تنطلق العبارات بلا وسيط، إيمانًا منها بأهمية النص (الشفهي والمكتوب)لِبناء القيَم والأفكار وصياغة الوَعي والإحساس والذوق والسلوك، حتى في زَمن تفوق الصورة.
تختار هذه النافذة تجميعة منتقاة نُصوص أدبيّة وفكريّة وتاريخيّة، تراثيّة وعصريّة في تخصّصات حضاريّة مُتعدّدة، مع مُقدمة مُختصَرة تفتح المجال لتألق النُصوص ذاتها بكلامها الصريح، ولقد زوّد المحرّرها -أحيانًا- بتعليقات توضيحيّة مُوجزة.
يُعتبر العالم والأديب والصحفي والمترجم والمستكشف أحمد فارس الشدياق “الساق على الساق في ما هو الفارياق” بأنه أوّل رواية عربيّة حديثة.
يُشاد بـ الشدياق (1805-1887) -الذي وُلِد في عائلة لبنانيّة مارونيّة وتحوّل للمذهب البروتستانتي ثم للإسلام وقت شَبابه- برحلته من لبنان إلى مصر ومنها إلى مالطا في بداية عشرينيّات عُمره، ثم عاد مرّة أخرى إلى مصر حيث قضى حوالي 6 سنوات (بين عُقود القرن التاسع عشر)، وعمِل لفترة في جريدة الوقائع المصريّة، ثم انتقل مجددًا إلى مالطا حيث تعاون مع القسّيسين البروتستانتيّين في ترجمة وتنقيح الكتب العربيّة، وسافر إلى بلاد الشام وتونس وإيطاليا وإنجلترا وباريس ولندن وتونس، حيث أعلن إسلامه، وإلى القسطنطينيّة (اسطنبول) حيث توفي وقام بإصدار جريدته الاسبوعيّة السياسيّة عام 1861.
تُشير الناقدة والأكاديميّة المصريّة الراحلة رضوى عاشور إلى أن اللُغة العربيّة الحديثة ممتَنة لأحمد فارس الشدياق بمصطلحات كثيرة ابتكرها واستخدمها فانتشرت بين الناس كما معانيها الاشتراكيّة والجامعة والمجلس التشريعي والانتخاب والجريدة والباخرة والمشفى والصيدليّة والمصنع والمختبر والمتحف والمعرض والملهى والحافلة وطابع البريد وغيرها.
ويُقدّم الأكاديميّان والمؤرخان اللبنانيّ فواز طرابلسي والسوري عزيز العظمة، في تقديمهما لاختيارات من أعمال الشدياق، أنّه يحتل “مكانة فريدة بين رجال النهضة العربيّة الحديثة، ولا مبالغة في القول إننا مدينون له بالغالبيّة من ما هو حيّ وجديد في لُغتنا والأدب والقرن التاسع عشر”.
تسأل رضوى عاشور، لماذا تم اغفال الشدياق من تاريخ الأدب وهو الذي أبدع في الأدب العربي في القرن التاسع عشر؟، كما تستفسر عن سبب استهانة المجتمع بمعرفته اللُغويّة الهائلة وصلته بالتراث الأدبي، ولماذا لم تلقى كتاباته عن الغرب الاهتمام الكبير كما حظيت كتابات الآخرين (مثل رفاعة الطهطاوي)؟ ولماذا لم يتمسّك الدّارسون للاستشراق بـ “الكاتب الأول الذي تناول المستشرقين” بينما ظل الشدياق جانبًا مغمَورًا دون ان يُنسب إليه أحد أو دون ان يعرف نسله أن والده هو الكاتب؟
رأت رضوى عاشور أنه لا يمكن فهم تهميش تجربة الشدياق دون التّعامل مع التحوّلات التاريخيّة للمثقّفين العرب في تعامُلهم مع ذواتهم وتراثهم، وجرِّ أمرهم مع الاتّخاذ الاستعماري ورؤيتهم للتحرّر منه من خلال التوجّه عبر البحر نحو الآخر ونموذج حياته ليكون مرشدًا لهم.
وتُلقي كاتبة “صيادو الذاكرة” باللّائمة على “الحداثة التي خلقتها النُخبة على القاطِع الثقافي”، ووصفتها بأنّها “حداثة غير مُرتبطة بجذور ولا فروع، حداثة تنبت ولا تُجذب، حداثة تنمو ولا تندمج”.
“الساق على الساق في ما هو الفارياق أو أيّام وشهور وسنوات في عجم العرب والأعجام” هو نص روائي يتجاوز 700 صفحة نُشر في باريس عام 1855، والفارياق هو تسميّة ابتكرها أحمد ناحتا من القسم الأوّل من اسمه “فارس” والقسم الأخير من اسم عائلته “الشدياق”، وبينما “الساق على الساق” يُرمز إلى وصفة الشخص الحاضر بقوّته، أو ربطًا بآية قرآنيّة من سورة القيامة، أو قد يحمل “الساق” معنى الصلابة الشديدة (يقول ابن منظور قولوا للأمر الشديد ساق)، أو يدمج بين هذه المعاني وغيرها كما يُعتاد في أنماط التورية العربيّة، على حدّ رأيعاشور.
ولكي لا نُطِيل عليك -عزيزي القارئ-، نقدّم لك هنا ما قدّمه فارس الشدياق في كتابه من شعر:
هذا كتابي للظريف ظريفا * * طَلِقَ اللسان وللسخيف سخيفا
أودعته كلما وألفاظًا حلت * * وحشوتهُ نقطاً زهت وحروفا
وبداهةً وفكاهة ونزاهة * * وخلاعة وقناعة وعُزوفا
كالجسم فيه غيرُ عضوٍ تعشق * * المستور منه وتحمد المكشوفا
فصَّلته لكن على عقلي فما * * مقياس عقلك كان لي معروفا
قعّرته بمحافر الأفكار كي * * يسع الكلام وسمته تجويفا
لفقّته وخصفته بيدي فقل * * نِعمَ الكتابُ
مخطوطة حمقاء
فيها صرحت بأفكار نقية ولها معانٍ متعددة.
كأنني نقشتها بيدي، حتى أصبحت مُزَخرفة بإتقان.
صاغته الليلة السوداء المظلمة، فأصبحت مشوهة ومجوفة.
جعلتها تتلألأ بدون طبخ من رب الفؤاد،
تتغلغل فيك وتستبدل مشاعر الأسنان والضغائن.
تلبسك الطبيب وروحه التقيلة، كلما جاء مسابقًا يتلاعب بعيون الباحثين.
أنبتت تربة سطوره رياضًا وجنانًا تسر وتريح.
تشم منها رائحة كل الشعور الدقيق، فتغرق في جمالها الساحر.
ترى الصفحات الملونة بشاشتها، والأقلام والورق والسرعوف.
وراءها وقبلها مزخرفة وملوّنة، ورائحة لا تفارق الأنوف.
إذا ظهر لك من خلال أحرفه تحديًا وثورة، فاستعن بالأنغام.
عند العجز عن التغلب والانتصار، تجد في أثرهن الحياة.
اختر خطوة ما تحب دون التراجع عن الوصول إلى النجاح.
فيبدأ يقول كافر المؤلف فلذلك اجتمعوا * * يا أهل المجتمع صاحبكم جاء بتهمة كاذبة
ويثير رجاء الكنائس اضطرابًا * * نتيجة لذلك يتجمعون عليه بالسيوف
هناك صلة من الرحمة بيني وبينك * * تمنع القطيعة والتشهير
لا تذهب إلى الصراع ولا للاستئناف * * ولا تكن بيننا فاحش السمعة
إذا كنت قد جئت بعطاء فلا تحقرني * * وإذا لم تكن كذلك، فلا تشهد الإيذاء
لا تقول سوءًا عن والدي ولا * * عن كرامتي، ولا تكن لي جالب الإزعاج
إثمي يقال عليه دون أن يرى * * أي آثاره على الناس
وحكمة اللسان يصبح منظرًا * * صباح النقي والعفيف يظل عفيفا
ويستحيل فعل الشر من قبل شخص * * يكون ذاته نزيهًا ودائمًا بريئًا
كلب الجيش لا يتجاوز غيره * * وعلاجه يكون مباشرًا وفعالًا
ما في الحياة ألذ من مدفأته * * وقلبها الجميل ودافئ الأجواء
يتم تفصيل سهر الليالي * * في سرير النوم القريب
هل شاهدت رجلا يرفض * * الهدية ويعتدي على من أهداه بالعنف؟
هل الدهر لا يزال يلهو * * ويجلب السخرية والمواقف المضحكة
أشعر بالاشمئزاز من ترقق الأوراش ومن * * طبقة الأظافر التي تحك الخشب بحذافيرها
اترك جانبا عدائية السود وكن صديقًا * * لأب الحصين بطريقة متسلسلة ومرحة
من يجلب السعادة لرأس الدولة سيكون محترمًا * * لأنه من الذي يحظى بالاحترام بين الناس
تم هذا البيت وصارت بانتاجها تكليف * * لا تقرأ شيئًا بعد ذلك، حتى لو طُلب منك استخدام حرف واحد
سطرت بالفعل هذا فتحتي وقد * * أخفقت في إكمالها بسببك
أرى أنك تتلقى نصيحتي ببطء * * فضرورة وتقدير