نبذة من إبداع القرآن (2)
كانت ترفع وتنخفض، وتقرب وتبعد، وتصحح وتفسد، وترفع قوما، وتنخفض آخرين، فقد كانت تستطيع رفع قوم إلى أعلى القمم ببيت شعري، كبني حنظلة بن قريع بن عوف بن كعب، حيث كان يُعرف باسم “بنو أنف الناقة” إبان الجاهلية، وذلك لأن أباهم نحر جزورا وتقسيمه للحوم، فأتى حنظلة وقد استنزفت اللحم وبقي الرأس، وكان صغيرًا، فبدأ يجرّه، وسُئل: ما هذا؟ فأجاب: أنف الناقة. فعُرِف بهذا اللقب، وكانوا يغضبون منه حتى قال فيهم الحطيئة:
سيريواجه الصقيع بين أمثال من ذبل الأرض، وأهل الجود إذا يُحمدون أحد الآباء.
قوم رفعوا أنفهم وأذنابهم فوق غيرهم، فمن يُشبه ذنب الجملة بآخر؟
عاد هؤلاء الأشخاص بهذا الإسم فخراً وتقديرا والفخر بكل إطلالة جمالية.
إذا ما تصافحت الآذان في يومٍ من الأيام، تبسمت القلوب والضمائر
وغدا آخرون إلى أرض التواضع، ومن بينهم بنو نمير، وكانوا أعلى من شرفاء قبيلة قيس وأنجالها، حتى وصفهم جرير بقوله:
فرد انظر الآن إلى النمير .. فلا خلاف ولا إشتباه
فلم يتبقَّ أحد من بني نمير إلا من حاد رأسه.
هكذا تعمل الكلمة والشعر، وهذا تأثير البيان، فإن الشعر حين يرضّي يرضى، والبيان إذا كان جميلاً يصل إلى الآذان ويسعد القلوب، كما قال الشاعر السري الرفاهي:
إذا تصافحت الأذان يوماً .. تبسمت الضمائر والقلوب
وعند الغضب تهتز الآذان وتخسف، وتجرح القلوب وتنزف:
جراحات السيوف ستندمل .. والجرح الذي يجره اللسان لن يندمل
فالجرح الذي يفتحه اللسان لا يلتم.
حتى أن القلوب الكافرة استجابت لهزيمته، وكانت تتناغم مع قراءة كتاب الله، تتفاعل مع كلامه بدهشة وإعجاب، فلم يجد أصحاب الشرك سبيلاً إلا لاستخدام عبيدهم للتشويش والصفار والتصفيق والتجبر وتعطيل الكلام
إظهار جمال القرآن
كانت رغبتي أن أوضح هذا التأثير الرائع للكلمة البليغة والبيان، قبل أن ألقي الضوء على كيفية تأثير القرآن على نفوس أصحاب هذا البيان؟
نزل القرآن على هؤلاء الأشخاص بجمال في التعبير وروعة في المعاني، بل كان أجمل وأرفع وأحسن من كل شيء، بلغة أنشهدت قلوبهم من قبل أن تنكسر رؤوسهم أمامه، بأسلوب أثار اندهاش النفوس والأرواح، قبل أن يندهش الجساد.
حتى القلوب الكافرة استسلمت لفخامته، وكانت تصغي إلى تلاوة كتاب الله بانبهار وإعجاب، ولكن رؤوس المشركين كانت لا تحتمل ذلك فأمروا عبيدهم بالتشويش والصفير والتصفيق والتحجر والتشتت، والقول الفارغ، فقال الله -جل وعلا- عنهم: ﴿وقال الذين كفروا لا تستمعوا لهذا القرآن واصرفوا فيه لعلكم تغلبون﴾ [فصلت:26].
بل حتى بعض رؤوس المشركين كانوا يستمعون سراً لتلاوة القرآن، كما روى ابن إسحاق: أخبرنا محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه أخبر أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، خرجوا ليستمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في الليل في بيته، كل واحد منهم اعتمد مجلس هادئ ليصغي، وكل منهم لم يكن يعرف مكان زميله، فاستمروا في الاستماع حتى طلع الفجر وانتهوا، ثم اجتمعوا وعادوا إلى بيوتهم.
في الليلة التالية، كرروا نفس الفعل مع الاستماع والاستمرار، وفي الليلة التالية بعد ذلك كذلك، ثم تعاهدوا عدم العودة مرة أخرى فوقعوا على ذلك، وبدأ كل منهم بالذهاب إلى مكانه والاستماع، حتى إذا انتهى الأمر جميعهم تعهدوا بعدم العودة مرة أخرى.
تبقت الديار كما هي، وبقيت مرابعها كما هي، في منى، ولا تزال ضرباتها تُدوّي في فرجامها
تأثير القرآن الجميل
وأود تلخيص هذا التأثير في مشاهد تجسد تأثير القرآن على نفوس الأشخاص:
- لبيد والقرآن
من بين هذه المشاهد الرائعة لأحد أعظم شعراء العرب، لبيد بن ربيعة العامري، لبيد هو الشاعر الذي وُضعت معلقته ضمن المعلقات السبع المشهورات:
تبقت الديار كما هي، وبقيت مرابعها كما هي، في منى، ولا تزال ضرباتها تُدوّي في فرجامها
لبيد كان من الشعراء العظام، وعندما سمع كلام الله جل وعلا، قرر أن لا يكتب شعراً جديداً، ولم يقول في الإسلام سوى بيت واحد: “الحمد لله إذ لم يأتني أجليثس”.
ولم يكمل بعد ذلك سوى هذا البيت الواحد، لأنه أدرك أنه أمام كلمات أرقى وأسمى من شعره الخاص، هذا لبيد الذي أخرج الشاعر الكبير صالح الفرفور قائلاً:
أتيتهم بكتاب الله معجزة .. أخجلت قسا وسحبانا وحسانا
سأل لبيد منتظراً إذ نالت القرآن محبته.. فلم يتلاش شيء مما نقله وشكاه .. أي شعر إذا مع كتاب الله ماذا يظن؟
ولم تفس دواوينه في مد وجزر .. فبيانه يظل عجباً رغم الاتهام
هذا الملاحظ الذي تبقى عجبه.. رغم أصوات النقد والهجوم.
تريد هذه الكلمات إظهار كلام الله في القرآن.
أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكبيرة، عرف أهل البيت أن عمر قد أسلم.
- عمر بن الخطاب والقرآن
ومن هذه القصص الرائعة هي قصة سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي كانحين استمع بتدبر القرآن من مبتغي هدى، وكان قد أمسك سكينه ونوى بقتل نبينا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- اعترضه في الطريق بلا قصد، فأخبره بأن أخته في انتظاره قائلًا: “هلم عائدا إلى ذويك لتحقق أمرهم؟” فغيّر اتجاهه، وتوجه نحو منزل أخته بغضب، فهناك، هناك استمع إلى كلام الله الذي يُتلى بسكينة وتخشع، سمع آيات وضحا من بداية سورة طه:
﴿طه – ما أنزلنا عليك القرآن لتعسر – إلا تذكيرا لمن يتقي – تنزيلًا من خالق الأرض والسموات العلى – الرحمن على العرش استوى﴾ [طه:1-5].
بعد ذلك تتلوها هو نفسه فانحنى وألقى بقلبه وتأثر، ولم يمض وقت طويل حتى قال: “ما أجمل هذا القول وأرقه!”
ثم جهز نفسه نحو بيت الأرقم ابن أبي الأرقم، حيث اجتمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه ليشهد دخوله الإسلام وهو يقول:
“يا رسول الله، جئتك لأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وبما أنزل الله.”
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة، عرف الأهل أن عمر قد أسلم.
هناك المزيد من اللقطات الرائعة التي سنستعرضها في مقالة لاحقة بإذن الله تعالى..