هجران شعوب وتبديل دول عظمى وأخلاق جماعات مسلمة ومساهمة في انطلاق الحملات المعمودية.. حروب الغداء وأزمنة الرفعة في تاريخنا

By العربية الآن



أزمنة الغداء والرفعة.. ضحكت دول إسلامية عظمى وشعلت حروبا دينية

<

div class=”longform-block”>

<

div class=”container”>

<

div class=”container__inner”>

<

div class=”l-col l-col–8–centered”>

<

div class=”longform-text”>

<

div class="wysiwyg css-4kcvsr">"حملز نَفوس على العجين في الأسواق [بمصر] إلى أن صار بائعوا الأرغفة يفتقدون، وتزايد الشهوة للتخزين مخافة نفاد الخُبز من الأسواق حتى أصبح من كان "يقتصر على عشر رغيفات لو وجد مائة ليشتريها لم يحرك منه شيء خوفًا من ضياعه"، وتوقف بيع القمح لأن من يمتلكه "يُلازم بداخله كل شيء خوفًا من عدم إيجاد بديل له، فاضطرب الناس على الأفران حتى أُقفلت..، وتطور الأمر إلى فقدان القمح، ووصل الناس لحدّ الإرهاق وانتشار الغَلا في جنوب مصر وشمالها"!!

هذا الواقع الحياتي الحرج سجله إمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘أخبار الزفر بأبناء اليرموك‘، مُوثّقًا به حوادث أزمة تموينية وقمعية قاسية عاشتها مصر سنة 818هـ/1415م.

والملفت أن هذا التصوير تحتوي على مزاج من توثيق النواحي النفسية والتجارية والسياسية التي سيطرت على الناس في فترات الأزمات الاقتصادية، وكان يصف بدقة ما عاناه الناس في ذلك العام من جهد في الحصول على موادهم الغذائية، ودور احتكار الأقوياء والنافذين فيها في الأزمة حتى انقطعت المواد الخام الغذائية عن نقاط البيع المختلفة، وبذلك تلاقى الناس الفساد: الغلا والوباء وظلم الحكام!!

والواقع هو أن أصعب تحدي يمكن لأي دولة -سواء قديمة أم حديثة- مواجهته هو تحدي "تغذية الشعب من الجوع" أو "الأمن الغذائي"؛ فهو من أهم عوامل سقوط الدول من الداخل عندما يُسمح للاضطرابات الاجتماعية والسياسية بالتوسع فيها، وقد تدفع تلك الظروف إلى سقوط الدولة في الفوضى فتُصبح "دولة فاشلة"، وهناك من الدول تُصمد بصعوبة وإجراءات قاسية.

وجاءت هذه المقالة لتقدم للقارئ تجربة تاريخية متنوعة وشاملة في الحروب التموينية -والتي تسببها في موجات ارتفاع الأسعار وكوارث الجوع- التي ضربت العالم الإسلامي عبر تاريخه وفي جميع أنحاءه وأقطاره، انطلاقًا من أن تاريخ الحروب التجارية والأزمات الاقتصادية في العالم الإسلامي يوفر فرصة ثمينة لاكتشاف جوانب من التحديات الهائلة التي واجهت المجتمعات المسلمة عبر تاريخها، ومعرفة كيف كانت تستجيب تلك المجتمعات لتلك التحديات.

وكانت المجموعة المسلمة الأولى في عام البعثة تعيش في وسط حروب مُتَعَدّدة لم تكن أنواعها التجارية والاقتصادية أقل أهمية؛ فمنذ لحظة الحصار في "شِعْب أبي طالب" بمكة المكرمة حتى غزو "دومة الجندل" -الذي قاده النبي ﷺ لحماية الطرق التجارية- ظلت الجوانب المعيشية -وما تستوجبه من يقظة لمنع أي تحايل أو تهديد اقتصادي- حاضرة في تفاصيل حياة المسلمين.

تسلّط المقالة الضوء أيضًا على تجارب "الدول الفاشلة" في تاريخنا نتيجة لتعرضها لأزمات التموين بسبب الحروب والارتفاع؛ فكثير من الحروب الداخلية أو الهجمات الاستعمارية كانت تسبقها أزمات اقتصادية عاتية، وتمهيدًا لتسلّل الجوانب الدينية والطائفية.

والمتتبع مثالًا في تاريخ البوصلة الإسلامية الوسطى يبحث عن تأريخ تفكدولا اولدة -مثل الإخشيدية والبويهية والفاطمية والمملوكية- كانت في العادة مرتبطة بحروب شجعت عليها أزمات تموينية أحدثها غلاء أو وباء، كما التحزامات الخارجية ابتداء من الحروب الصليبية والاجتياحات المغولية وصولا إلى الاستعمار الحديث.

ولم يفوت المؤرخون المسلمون أن يفهموا أسباب ارتفاع الأسعار، ويبيّنوا النتائج الإنسانية والاجتماعية التي رافقت الأزمات التي نشأت عنها حروب السياسة وأزمات الاقتصاد، من احتكار للبضائع وتخزين للمواد الغذائية وانتشار السلب والنهب؛ فمع تفكك أعمدة الاقتصاد كانت تتداعى أسس الأخلاق العامة لتتحول نفوس الأجيال!!

سلاح سياسي
قد يفاجأ البعض بحدوث المقاطعة الاقتصادية بإلزام التبادل التجاري -وبوجه خاص للسلع الغذائية- لتحقيق أهداف سياسية في السيرة النبوية؛ فالحصار الذي فرضته قريش على المسلمين في "شِعْب أبي طالب" بمكة المكرمة كان يستهدف إكراه بني هاشم وبني المطّلب على تسليم النبي ﷺ إلى المشركين من قريش.

ولذلكيُروي الإمام ابن إسحاق (ت 151هـ/769م) في كتابه "السيرة النبوية" حادثًا تاريخيًا، حيث تحدث عن اجتماع زعماء قبيلة قريش لاتخاذ قرار بمقاطعة عشيرتي بني هاشم وبني المطلب. قرر الزعماء عدم التعامل التجاري معهم وكتبوا وثيقة بهذا القرار وعلقوها بالكعبة. هذا القرار أدى إلى انتشار الجوع بين المسلمين والكفار من بني هاشم وأنصارهم من قريش، مما جلب لهم البلاء والمشقة.

استمرت المقاطعة حتى تم رفعها بمبادرة من بعض أعيان قريش، انصياعًا لروابط القرابة وحماية الأقرباء المحاصرين. بهذا تم إنهاء أول حالة مقاطعة تجارية في تاريخ الإسلام. ولكن تكرّرت المقاطعة مرة أخرى عندما حاصرت قريش اقتصاديًا في مكة، مما حرمها من واردات الغذاء القادمة من اليمامة، المعروفة اليوم بمنطقة الرياض في السعودية ومُحيطها.

في عام 7هـ/629م، أسلم ثُمامة بن أثال الحنفي (ت 11هـ/632م)، كان قائدًا بارزًا لقبيلته بني حنيفة في منطقة اليمامة. ذهب إلى مكة لأداء العمرة، ولكن حاصرته قريش وأرادت قتله. ومع ذلك، نصحهم أحد قادتهم بتركه بسبب حاجتهم إلى الطعام القادم من اليمامة. وفي نهاية المطاف، تخلص ثُمامة من الحصار وأدى العمرة.

في سياق آخر، تحدثنا عن التوتر الاقتصادي خلال صراعات سياسية في تاريخ الإسلام. كانت هذه الصراعات جزءًا من الصراع بين الخلفاء العباسيين، واستخدمت حروب الغذاء كوسيلة لتأكيد السلطة. في صراع بين الخلفاء المأمون والأمين بن الرشيد على الخلافة ببغداد، شهدنا حصارًا اقتصاديًا قاسيًا دام لسنوات، حيث توَسطت فيه الحروب الاقتصادية بين الجيشين، خاصة من جيش المأمون القادم من خراسان.

في النهاية، يجسد كل من الإمام ابن كثير والمؤرخ تقي الدين المقريزي أمثلة على استخدام الحروب الاقتصادية كآلية لمعاقبة المعارضين للأنظمة الحاكمة، مما يبين تأثير هذه الحروب على الحياة اليومية والسياسية في تلك الفترة التاريخية.

تأثيرات التوتر الاقتصادي
خلال الصراعات السياسية التي شهدتها الأمة الإسلامية بين عامي 62-75هـ/683-695م بسبب الصراع على الخلافة، حكم نجدة بن عامر الحنفي (ت نحو 72هـ/689م) على شرق الجزيرة العربية بعد أن جعل البحرين عاصمة لإمارته. كانت سياسة نجدة تتمثل في قطع إمدادات الطعام عن خصومه من سكان الحرمين وبالأخص مكة التي كانت تحت حكم عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م).

يذكر المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) في كتابه "الكامل" حالة قطع الإمدادات من قبل نجدة لأهل الحرمين واليمامة، وكيف تدخل ابن عباس (ت 68هـ/688م) لإيقاف هذا القرار بعد تعليمات من رسول الله ﷺ. وعندما تفاقمت الأحداث بين الأمين بن الرشيد (ت 198هـ/814م) والمأمون (ت 218هـ/833م) في صراعهما على عرش الخلافة، استخدم الحصار الاقتصادي كوسيلة لتحقيق غاياتهم السياسية، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية لدى الشعب.يشعر الذين لم ينطلقوا من بغداد مسبقًا بالنَدَم، حيث تم حظر وصول التجار إلى بغداد ببضائع ودقيق، وتحويل السفن إلى البصرة ومناطق أخرى، وجرت حروب شديدة بين الفصيلين، تسفر عن مقتل الخليفة الأمين وهزيمة قواته، وانتصار المعسكر الخراساني مما يدل على تحوّل استراتيجي في الإدارة للدولة العبّاسيّة.

ممارسة متأصلة
فبعد ضعف الخلافة العبّاسية بعد مقتل الخليفة المتوكل، أصبح قطع الموارد إجراءاً راسخًا بين الأطراف المتنازعة ضمن استراتيجيات الصراع السياسي، حيث كان كل طرف يمنع مرور التجار والقوافل من الاتجاه الخصم إلى مناطق سيطرته.

وعندما اختار قادة التركية تنصيب المعتز بالله ابن المتوكل في منصب الخلافة، حاولوا إجبار عمه المستعين بالله على تسليم السلطة له، وكان من بين خِطَطهم حصر الغذاء عن مدينة سامراء التي كان المستعين بالله يعتبرها عاصمة للخلافة في ذلك الوقت.

لتنفيذ هذه المخططات؛ أمر قادة تلك الفئة بـ"تجميع السفن ومنع الميرة من الانتقال إلى سر ممن شاهد سامراء، ومنع أي ارتفاع يُصعد إليها من الميرة من بغداد"، وفقًا للمؤرخ ابن مسكويه في كتابه "تجارب الأمم". وبالمقابل، استخدم أنصار المستعين في بغداد نفس السلاح، حيث "أُغلقت أبواب بغداد بوجوه سوداء فارتفعت عليهم حالة الحصار ليصرخوا..: "الجوع، الجوع"!!

ويروي مسكويه أيضًا -ضمن سرده لأحداث عام 320هـ/932م- أن المجاعة انتشرت في عاصمة الخلافة العبّاسية بغداد عندما "مَنَعَ القُرْمُطيُّ" -وهو قائد تنظيم القرامطة أبو طاهر الجَنّابي- تدفّق المحاصيل من "النواحي" للوصول إليها، وتعرّض وزيره أبو الفتح ابن الفرات لهجوم من الجنود والجمهور في مظاهرة علنية، في حين "اغمق الهاشميون وجوههم وصرخوا: الجوع، الجوع"، وفقًا للإمام الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام".

يُروي أبو بكر الصولي - في كتابه "أخبار الراضي والمتقي"- بتفاصيل حول الصراع السياسي والعسكري بين أبناء عائلة البَرِيدي -التي كان لها نفوذ في الدولة العبّاسية- والقائد التُركي أبو بكر محمد بن رائق، في عام 330هـ/942م.

ويأتي ذكر الصولي أنه نتيجة لسيطرة البريديين على منطقة السواد -جنوب العراق- وما حولها، قرر ابن رائق منع التجارة مع الجنوب لتجنب استفادة البريديين من رسوم العبور التي يفرضونها عليها عند عبور حواجزهم الأمنية، نظرًا لأن "مادة دخل البريديين كانت ضريبة التمر"، مما أدي إلى ارتفاع الأسعار ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة!!

مجاعة مدمرة
يتحدث الذهبي - في كتابه "تاريخ الإسلام"- عن الصراعات التي جرت في السَّنة نفسها، والمجاعة المدمرة التي عانى منها الناس، حيث لم يسلم حتى نساء قصر الخلافة من هذا المأساة؛ حيث كانت الأسعار ترتفع بشكل كبير في بغداد.. وقاموا بأكل الجيفة، وأزدادت حالات الوفاة على الطرق، وتفشَّى البلاء.. [حتى] خرج النساء من قصر الرُّصافة يستنجدون في الشوارع: الجوع، الجوع!!

وفي عام 334هـ/945م، قام الحمْدانيون بتمرّد ضد البويهيين الذين خطفوا بغداد نفسها، فأمروا قبائل الأعراب بقطع الموارد والعلف عن بغداد، مما أدى إلى ارتفاع سعر الخبز في معسكر البويهيين ليصل "الخبز لديهم بثمن دينار وربع"، وفقًا لابن الأثير في كتابه "الكامل".

وفي ذلك الوقت، كان الدينار كافيًا لشراء خمسة أرطال في معسكر الحمْدانيين. كما تأثرت المحاصيل بسبب استيلاء الجنود عليها وحصادها، مما أدى إلى استمرار ارتفاع الأسعار على الرغم من وجود الحبوب بسبب نهب الأعراب.

وتأثرت الحياة الاقتصادية في بغداد وتجارة الأطعمة في عام 364هـ/975م بقطع حكام الموصل الموارد عن بغداد بالقوة العسكرية، حيث "ارتفعت الأسعار في بغداد وثارت المليشيات والمخربون حيث نهبوا الناس في بغداد، وامتنع الناس عن العيش خوفًا من الفتن، وانعدمت الطعام والمعيشة بها"، وفقًا لابن الأثير.

ولم تكن مواسم الحج بعيدة عن تأثير الحصار التِّجاري في حل النزاعات السياسية المحلية أو الإقليمية؛ فمنذ تولي الفاطميين -الذين ينتمون للإسماعيلية- السيطرة على مصر تابعها الشام في السنة 358هـ/969م -وبعد ذلك- بدأت المواجهة العلنية بين القاهرة وبغداد على الحرمين الشريفين، حيث تمثل السيادة عليهما السُلِطة الأبرز للشرعية الدينية للخلافة"كلاً منهما في أعين المسلمين.

ابتزاز قاس
حرص العباسيون بقوة على صدّ الفاطميين لمنع سيطرتهم على تلك المقدسات، إلا أن الفاطميين كانوا أقوى عسكرياً واقتصادياً في ذلك الزمان الذي تذبذب فيه حكم غرمائهم العباسيين، بخاصة بعد سيطرة البويهيين -الموالين لهم في الميول الشيعية العامة- على سلطة العراق.

ونتيجة لهذا الصراع -الذي تحوّل أحياناً إلى صراع عسكري- اعترض أهل الحرمين على صعوبات الحال، وخلفت حرب الغذاء هذه –خلال إحدى جولات الصراع- موقفاً سياسياً حاسماً للفاطميين من خلال نيل الدعاء في منابر الحرمين، إذ كان الدعاء في منابر الجوامع في ذلك الوقت رمزاً للولاء والشرعية السياسية لأي سلطان.

وفي سنة 365 هـ/975 م حسم الخليفة الفاطمي العزيز بن المعزّ (ت 386 هـ/996 م) هذا الصراع، ونال حق تنظيم موسم الحج، "وأقيمت له الدعوة بمكة والمدينة بعد منع أهل مكة والمدينة من الميرة، وتعرضوا لصعوبات بسبب ارتفاع الأسعار وقُطعت الميرة عنهم من مصر"؛ وفقاً للإمام سبط ابن الجوزي (ت 654 هـ/1256 م) في كتاب ‘مرآة الزمان‘.

ويشير مؤرخ مكة تقي الدين الفاسي (ت 832 هـ/1429 م) -في ‘شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام‘- إلى حدوث "ارتفاع كبير" في مكة سنة 707 هـ/1307 م، حيث "تم بيع كيس حبوب يسع نحو 200 كغم بألف وخمسمئة درهم (=قيمتها اليوم 2000 دولار تقريبا)".

ويضيف الفاسي، بيّنا السبب السياسي لهذا الارتفاع؛ حيث قال إن "سبب الارتفاع كان بسبب قطع صاحب اليمن الملك المؤيّد (داود بن المظفَّر الرسولي ت 721 هـ/1321 م) الميرة عن مكة، بسبب النزاع السياسي بينه وبين صاحب مكة"، وبالنسبة لأهل مكة فقد "كانت الأوضاع صعبة حتى وصول ركب معتمري شهر رجب، فانخفضت الأسعار".

حماية تجارية
وكما كانت المنافسة السياسية بين الدول هي سبب رئيسي للحروب التجارية والغلاء الفاحش في الأسعار، نتيجة عرقلة التجارة أو الحصار الاقتصادي؛ فانتهاء هذه الصراعات –سواء بالتوصل لاتفاق أو بالانتصار وهزيمة العدو- كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى تحقيق الأمان وتنشيط التجارة وبالتالي انخفاض الأسعار وتقليل التضخم النقدي.

وارتباط تأمين الأمان بتعزيز النشاط التجاري هو ما يشير إليه القرآن الكريم عندما أمن قريش من الجوع والخوف، لذا يروي المؤرخون عن علاقة غزوات النبي ﷺ بتأمين حريتها التجارية على طرق قوافل ميرة الطعام بين الحجاز والشام.

فكان حاكم دومة الجندل –الموجودة اليوم شمال السعودية- أكَيْدِر بن عبد الملك (ت بعد 9 هـ/631 م) وأنصاره يعترضون على نشاط تلك القوافل التجارية، حيث "يظلمون من الضّافِطة، وكان هناك سوق كبير وتجار"، ويرغبون في الاقتراب من المدينة المنورة لغزو المسلمين فيها؛ وفقاً للإمام الواقدي (ت 207 هـ/822 م) في كتاب ‘مغازي الواقدي‘.

أمام هذا التهديد الاقتصادي والعسكري الكبير؛ خرج النبي ﷺ في سنة 5 هـ/627 م لتأديب حاكم دومة الجندل المتبع لوالي الرومان على الشام فلافيوس أغسطس، المعروف بـ"هرقل" (ت 20 هـ/641 م)، فحرك جيش المسلمين نحو إمارته "ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ساحتهم فلم يجد فيها أحداً، فأقام فيها لفترة".

وعلى الرغم من تفكك جماعات أكَيْدِر وهزيمتها، استمرت تهديدها لقوافل التجارة القادمة إلى المدينة من الشام، لذا قرر النبي ﷺ حل هذه المسألة وتأمين الأمان طول الطريق المتصل بين المدينة والشام، فبعث –في سنة 9 هـ/631 م- خالد بن الوليد (ت 21 هـ/642 م) للقبض على أكايدر، وبعد أسره قرر رسول الله ﷺ العفو عنه وعن قومه ثم "تفقّدهم بالجزية"؛ وفقاً للواقدي.

ويتناول لنا مسكويه -في ‘تجارب الأمم‘- تأثير شغب الجنود على الطرق التجارية التي تنقل الأغذية في منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي؛ حيث خربت المرافق والطرق وتم قطع الجسور، مما جعل قوافل ميرة الطعام بين الأهواز وغيرها تنقطع، واستشكل الناس من "سوء الأوضاع التي يعيشونها من الضيق وارتفاع الأسعار وشدة الحصار"، حتى تدخّل قائد الجيش العباسي في ذلك الوقت أحمد الموفَّق بالله، ابن المتوكل (ت 278 هـ/891 م) لإصلاح الأمور وتأمين الطرق للقوافل التجارية.

وفي نفس السياق، يروي الإمام الذهبي (ت 748 هـ/1347 م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أثر تصرفات الثائر العلوي إسماعيلبن يوسف الإخضر الجميل الحسني الذي يُلقب بالسفاك (توفي 252هـ/866م) خلال تمرده في الحجاز ضد العباسيين في عام 251هـ/865م؛ ينقل أنه "كان يقطع الإمدادات عن الحرمين حتى قتل أهل الحجاز وتعرضوا للجوع"، وهذا ما يرويه الذهبي في تاريخه.

ويذكر ابن الأثير -في كتاب ‘الكامل‘- أن ثائرًا قد خرج ضد عامل مكة في عام 268هـ/881م، فأغلق ينابيع المياه المحيطة بمكة وتجهّم نحو جدة "حيث سرق الطعام وأحرق البيوت"، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الخبز بسبب ذلك.

تدابير ظالمة
وفيما يتعلق بالدولة الفاطمية في مصر والشام؛ تعرّضت لاضطرابات شديدة في بدايات القرن الخامس الهجري/الـ11م، كما يروي المقريزي -في كتاب ‘اتّعاظ الحُنَفا‘- أن الحكومة الفاطمية قد قررت "حظر ذبح الأبقار" بسبب نقص الأبقار التي تستخدم في الحراثة، وزادت "الجيوش في مصر ونقصت جميع البهائم".

انتشرت الشائعات حول نية الدولة الفاطمية للمساس بثروات التجار لتغطية تكاليف التمردات ضد حكامها في فلسطين التي تفاقمت وكادت تصل القاهرة نفسها، مما أدى إلى انتشار الفوضى بشكل كبير، وكثرت "حسدة زعماء الدولة" و"تصاعدت الأسعار واتسعت دائرة الأمراض وتزايدت الوفيات، وفقد الحيوانات"، وزادت هجمات اللصوص على البيوت، ورنَّت الشوارع بصيحات: "الجوع الجوع أيها الأمير! هذا ليس من فعل آبائك ولا أجدادك"!!

يذكر ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في ‘المنتظم‘- قصصا عن ارتفاع حاد في الأسعار في العراق في عام 448هـ/1057م، وظلت تستمر لسنوات بعد ذلك، حتى استولى القائد العسكري التركي أرسلان البساسيري (ت 451هـ/1060م) على بغداد عاصمة الخلافة العباسية وأقام الدعاء على المنابر ضد الحكم الفاطمي في القاهرة.

يقول ابن الجوزي: "في ذلك الوقت زادت الأسعار لتصل كيلو القمح -الذي كان يعادل نحو 25 دينارا (= حوالي 5 آلاف دولار أمريكي اليوم)- إلى 90 دينار"، ويربط ذلك بانعدام الأمن، إذ "توقفت القوافل عن التجول بسبب النهب المتكرر"، لذلك كان الناس يحملون ثرواتهم -تحت حماية مقابل أجر- ليبيعوها في بغداد.

ويصف ابن الجوزي وضعية الطبقات الفقيرة وسط تلك الأزمة الاقتصادية الشاملة؛ حيث يقول: "لقد تأتمَّ الفقراء والمتجمِّلين (= المتسولين) من تأثير ارتفاع الأسعار إلى درجة أدت لانتقال الأوبئة والوفيات حتى دُفِنوا دون غسل أو تكفين، كما كان الناس يأكلون اللحوم النيئة..، ونفذت الأدوية، فبلغ سعر المدواء دينارًا"، و"المَنُّ" هو قياس قديم يعادل حوالي 800 غرام.

وقد زادت الأوضاع المعيشية تدهورًا نتيجة لتغيرات جوية ناتجة عن ارتفاع أعداد الجثث وانتشارها بشكل رهيب وتدني مستوى المدافن، كما "ازدادت الاتربة في الهواء، وانتن الرائحة، وكثرت الذباب". ووصلت أعداد الوفيات في العراق إلى ألف شخص يوميًا!! ونظرًا لغلاء التوابيت، كان الناس يدفنون "أربعة أو خمسة في تابوت واحد"!!

ونظرًا لحاجة الناس للأدوية "قام صيدلي ببيع ألف زجاجة من السائل العلاجي في يوم واحد، وانتشرت الأوبئة وارتفعت الأسعار في مكة والحجاز، وفي مناطق بغداد والموصل وخراسان.. وباقي أنحاء العالم الإسلامي"!! وتقع هذه المناطق لكل من شبه الجزيرة العربية والمدن التاريخية ضمن النطاق الجغرافي الذي كانت تحكمه الدولة البويهية المتضررة، في حين كانت السلاجقة يوسّعون نفوذهم قادمين من المشرق.

وفي أعقاب الفوضى الأمنية والصراعات الطبقية في أصفهان بفارس، انفجرت أزمة اقتصادية حادة في عام 582هـ/1186م؛ حيث يروي أبو شامة المقدسي (ت 665هـ/1267م) -في كتاب ‘كتاب الروضتين في أخبار الدولتين‘ الزنكية والأيوبية- أن أصفهان تعرضت لصراع سياسي بين طبقاتها، "حيث ازدادت القتل في المدينة، فصار كل من يحمل غيره على شيء له ضرير"، و"انعدمت وسائل المعيشة، وتضررت الأسواق وانتشر الغلاء، وتوفي الناس جوعا، وظل أهل أصفهان في حالة الخوف"!!

اضطرابات داخلية
وخلال فترة الحروب الصليبية؛ ظهرت التهديدات الأمنية للتجارة بين الشام ومصر كذريعة للهجمات العسكرية ضد الصليبيين، مما دفع السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) إلى تنفيذ حملاتتكرر زيارتها لحصن قلعة الكَرَك الذي كان تحت سيطرة الصليبيين، ويحكم على معابر الطرق الاستراتيجية في المنطقة.

يوثق لنا جانبًا من تلك الحملات وأسبابها الاقتصادية بالإضافة إلى مرافق شخصية لصلاح الدين وكاتب سيرته الشخصية القاضي بهاء الدين ابن شداد الموصلي (1235م)، في كتابه "النوادر السلطانية"، ويصف الأثر السلبي لهذا الحصن الصليبي على المسلمين كما يلي:

"كان للمسلمين آثار كبيرة بسببه؛ إذ كان يحجب طريق مصر، مما جعل القوافل لا تستطيع المرور إلا بوجود جمع كبير من الجنود، وهتمّ السلطان بالأمر لجعل الطريق سالكًا نحو مصر". وتكررت المحاولات فيما بعد حتى وقعت معركة حطين عام 1187 م، حيث قتل حاكم الحصن الصليبي القائد رينالد دي شاتيون المعروف باسم "أرْناط".

تسببت الأحداث الأمنية والفتن في مصر عام 1415 م في ارتفاع الأسعار على الرغم من توافر المحاصيل الزراعية؛ حيث يذكر ابن حجر العسقلاني أسباب الارتفاع في الأسعار بسبب "تزايد الفتن في عدة مناطق في مصر بسبب خروج الجنود مرارًا وتكرارًا، مما أدى إلى فساد المزروعات وانعدام الأمان في الطرق، مما حال دون حدوث التوريد كالمعتاد". وخرجت قوات لضبط الأمور بقيادة قائد كبير من المماليك وتسببوا في تفسيد المحاصيل.

في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي؛ شهدت منطقة المغرب الأقصى فترة شديدة من عدم الاستقرار السياسي، ويسجل لنا المؤرخ أحمد بن خالد الناصري السلوي (1898م) تفاصيل هذه الفترة الصعبة في كتابه "الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى".

وبالرغم من فوز السلطان عبد الله بن إسماعيل العلوي (1790م) على المتمردين عليه في عام 1737 م؛ فإن الأسعار ارتفعت بشكل كبير، وبدأ اللصوص يهاجمون الناس في منازلهم ليلاً ويقتلونهم دون تدخل، ووصل الخوف حتى أبواب المنازل النافذة في فاس نهارًا، فخرج أهل فاس لاستلام الطعام من تطاوين في جنوب تونس.

استقرار وازدهار
كان من العادي أن ينعكس الأمان في أي بلد على النشاط الاقتصادي والتجاري فيه، مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار، وذلك لأن القوافل التجارية تتحرك بحرية دون خوف أو تكاليف عالية للحراسة. كما يعطي الأمان الناس ثقة للاستثمار أموالهم وزيادة نشاطهم في التجارة.

خلال فترة حكم حماد البربري في اليمن خلال عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد؛ كانت الطرق آمنة تمامًا، حتى إن الجلب كان يتحرك من اليمامة إلى صنعاء دون خوف، وخلال تلك الفترة ارتفعت الإنتاجية في اليمن وانخفضت الأسعار. ويذكر بهاء الدين الجندي في كتابه "السلوك في طبقات العلماء والملوك".

ويذكر ابن الأثير -في "الكامل"- الأوضاع عام 1083 م؛ حيث كانت الأمان والارتخاء في الأسعار لا مثيل لهما، إذ كانت القوافل تسافر من نهر جيحون إلى الشام والتجار يحملون أموالًا ضخمة بدون حراسة أو رفاق، وكانت الأسواق مزدهرة، حيث وصل سعر الحنطة في بغداد إلى عشرة دنانير بعد أن كان ثمانين دينارًا، وارتفع سعر اللحم إلى ثمانين رطلا بدينار.

يوضح الذهبي أن سمة فترة حكم الملكشاه السلجوقي كانت انخفاض الأسعار بسبب استقرار الأمور والأمان، مما أدى إلى انتظام إمدادات السلع وتحسن القدرة الشرائية. واستمر هذا التأثير بشكل واضح في حلب بعد 1087 م بفضل القائد السلجوقي آقْسُنْقُر البُرْسُقي، الذي نجح في تعزيز النشاط الاقتصادي وانخفاض الأسعار وتحسين القدرة الشرائية للناس، كما يوضح ابن الأثير.

قدم القائد السلجوقي أسلوب حكم رائعًا وضمان العدل وحماية المسافرين واستقرار الحالة العامة ومكافحة الفساد وتعزيز الأمن، مما أدى إلى زيادة سير القوافل وتحقيق الازدهار وانخفاضالجباية اللازمة للدولة. وبهذا النظام؛ تم تيسير تداول الغلات وتحفيز الاقتصاد، حيث أدى الجهود المبذولة في تعزيز الأمن وتنظيم حركة القوافل إلى تحقيق ازدهار اقتصادي في المنطقة.

تحولات ملحوظة
في حقبة الأندلس، وتحديدا في عهد أمير قرطبة أبا الحزم جهوور بن محمد الفارسي، تميزت إمارته بالاستقرار والحكم السليم، مما ساهم في ازدهار الحياة الاقتصادية وتنوع الأسواق وانخفاض الأسعار.

وفي كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"؛ وصف الشَّنْتَرِيني جهوور بأنه حافظ على الأمن، ورفع منسوب الرفق في تعاملاته، ليحقق الاستقرار ويبعد التهديدات الناتجة عن تفكك السلطة الأموية، مما أدى إلى ازدهار الحياة وتفعيل الأسواق وتحرك الاقتصاد.

يذكر الشَّنْتَرِيني بأن جهوور تصدى لتحديات الأمن واستطاع تحقيق السلام وتحسين الأمور بفضل جهوده، ما أدى إلى انتعاش الأسواق وزيادة الثروة، وتحقيق الازدهار الشامل في البلاد، ليزدهر التجارة وينمو الاقتصاد.

على جانب آخر، يذكر صلاح الدين الصفدي في كتابه "أعيان العصر" أن والي حلب سيف الدين تَنْكُزْ الحسامي كان معروفا بالعدالة والازدهار ورخاء الأسعار خلال فترة حكمه، حيث كانت الحياة تسير بسلام ورخاء، وتنعم البلاد بالاستقرار والازدهار الاقتصادي.

وفي سياق متشعب، فإن السياسات الاقتصادية التي اتخذتها الدولة من خلال مؤسسة بيت المال العام ساعدت في تسهيل تجارة السلع وتعزيزها أو تعقيدها، حيث عندما تسمح الدولة ببيع الحبوب للتجار، تتراجع الأسعار ويتسهل الحصول على المواد، والعكس صحيح عند منع ذلك.

من جهة أخرى، في سنة 334هـ/945م؛ اندلعت معارك عنيفة في تونس بين الفاطميين وثوار البلاد بقيادة الإباضي أبي يزيد الزَّنَاتي، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير، مما دفع الفاطميين إلى فتح مخازن الحبوب لتهدئة الغضب الشعبي ومنع دعم الثوار.

وفي حادثة مختلفة، شهد العراق تقلبات اقتصادية بحيث زادت الأسعار بشكل كبير وتلاها انخفاض، إذ قام الوزير ظهير الدين الحَرّاني بتأمين المناطق المحيطة بالبواس لضمان توازن الأسعار، الأمر الذي أدى إلى عودة الاستقرار الاقتصادي وتنشيط الحياة التجارية.

وكان الضمان يقوم على تعهد الضامن بتوفير مبلغ محدد للدولة، مقابل تحصيل الضرائب في منطقة محددة، مما ساهم في توفير الجباية اللازمة لتحفيز النشاط الاقتصادي.

إجراءات شاملة
تُظهر بعض السياسات الاقتصادية الخاصة بالدولة، من خلال مؤسسة بيت المال العام، أهمية تسهيل حركة التجارة وتنويعها أو تعقيدها، إذ يتمثل ذلك في سهولة بيع الحبوب -التي تمتلكها الخزينة العامة- للتجار، مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار ويسهل الحصول على السلع، بينما يحدث العكس عند منع ذلك.

ويُعتبر الضمان نظامًا إداريًا ماليًّا يضمن توفير مبلغ مُحدَّد للحكومة، وذلك مقابل سماح الدولة للمكفول بجباية الضرائب في منطقة معينة، مما يضمن توفير الاموال اللازمة للنمو الاقتصادي.المقدار المعني؛ وكان الجمهور في البلاد متماسكًا ضد السياسي ابن الصيدلي "فاستعرت كراهيته في قلوب الأفراد، وخصوصا حكام دولة الخليفة (= الذي أضائه بأمر الله ت 575هـ/1179م)"، وكانوا يعبّرون عن ذلك قائلين: الارتفاع الزائد في الأسعار يرجع لعدم بيع المحاصيل" الناتجة من منطقة "الجدام" الفلاحية وسط العراق.

وفي سنة 575هـ/1179م تفاقمت الوضعية حين تحامت الأزمة الناتجة عن فوق السعر والوباء؛ فقد "اتسع نطاق الوباء وتوفي عدد غير معدود من الناس بسبب انتشاره"، ويظهر أن هذا المرض كان متأصلا في نقص التغذية الناتج عن الارتفاع الاقتصادي، وبما أن الناصر لدين الله العباسي (ت 622هـ/1225م) خُلِف الخلافة -في العام المذكور- أمر بتصريف الحبوب والغلال الموجودة في الخزائن، وبتشغيل التجارة مع منطقة واسط "واسع الأسعار"؛ بحسب ابن المفضّر الأيوبي.

وبفضل الخطط السياسية لصلاح الدين الأيوبي حدثت حركية اقتصادية في مدينة حلب وضواحيها مع توافر المزروعات الفلاحية. ويقول المؤرخ كمال الدين ابن العديم (ت 660هـ/1262م) في ‘خلاصة تاريخ حلب‘: "ازدهرت مدينة حلب في زمنه نظرًا لاعتداله وسيرته الحسنة، بحيث لم يتبق مزرعة في جبالها ولا في وديانها إلا بسكان ولها وفْر" (= زراعي)..، وتصاعدت الأسعار بسبب زيادة الوفر نتيجة لزيادة السكان".

وتدل هذه الحقيقة على استمرار ارتفاع الأسعار ونشاط التجارة بسبب تزايد السكان وزيادة المزروعات في الوقت نفسه، على عكس ما هو متوقع تجاريًا في "مذهب العرض والطلب". ويقدم ابن العديم مثالًا على ذلك من أسعار المواد الغذائية: "القمح بخمسة مكوكات ونصف (المكوك = 5 كيلو تقريبًا) بدينار، والشعير مكوكتان ونصف بدينار".

تشوه في الاستيرادات
كانت أذرار التجارة تتعرض لمخاطر عديدة تسبب خسائر جسيمة للتجار، على الرغم من الجهود التي تُبذل من قبل الدول لحماية قوافل التجارة التي كانت تحت مسؤولية ولاة الأقاليم؛ حيث يُذكر على سبيل المثال التاجر ابن هُنْدِسة الموصلي (ت بعد 367هـ/978م) -في سفره ‘صورة الأرض‘- أن الطرق بين فارس والعراق كانت تتمتع بحماية الولاة فيما كانوا "حماة الكنوز (= جباة) لكل منطقة، وملتزمين بظروف مناطقهم، بالإضافة إلى تكثيف القوافل وحفظ الطرق".

وغالباً ما يتسبب تفكك الطرق التجارية من جراء انقلاب الأوضاع الأمنية -بواسطة الحروب أو النهب- أو فرض الجبايات الفاسدة عليها في المناطق التي تسلكها، ولذا يتحدث ابن هُنْدسة عن تغيير تجار مَسالكهم في الشام بسبب تأثرهم بـ"اعتراض الحاكم لهم، وبحدوث توغل البيزنطيين بالشام في غير ميعاد؛ فيلجأون إلى الطريق الصحراوي..، وباقتراب ينقص تجار ثروتهم وتنقطع سائرة رحلاتهم وطرقهم"!!

ومثل الطرق البرية؛ لم تخلُ الأسطول البحري التجاري من إجراءات رسمية للحفاظ عليه عبر تأمينه من القراصنة؛ ويُشير المقريزي -في كتابه ‘سلوك‘- إلى أنه حين اجتاح الإمبراطور الأوزبكي تيمورلنك (ت 807هـ/1404م) بقواته بلاد الشام سنة 803هـ/1401م وحاصر دمشق "توقفت الأسواق تمامًا..، ووصلت الأخبار [إلى القاهرة] بأن الأوربيين احتجزوا ست سفن مُحمَّلة بالقمح، شارَك في نقلها المسلمون من دمياط إلى شواطئ الشام ليتم بيعها بسبب تفاقم الجفاف والغلاء"!!

ولضمان سلامة السفن التجارية الإسلامية من هذا الخطر القرصني الحربي الأوروبي، والذي يُذكرنا بما يجري في عصرنا -أثناء الحروب- من استيلاء على قوافل إمدادات العدو ليتاجروا بها في وسط الغلاء ونقص الموارد الغذائية؛ يروي لنا المؤرخ ابن تُكْرِي بَرَدِي (ت 874هـ/1470م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه في سنة 844هـ/1439م أعد السلطان المملوكي سيف الدين جقمق (ت 857هـ/1453م) أول حملة عسكرية في فترة حكمه بسبب "إفساد الأوربيين عند البحر وسرقتهم سفن التجار".

وربما تسبب الفوضى الأمنية في التغييرات بطرق تجارة الأغذية والموؤنات، حيث يسعى التجار لإيصال بضائعهم دون ضرر ولو تطلب الأمر تغيير الطريق مع التزايد في التكاليف. وقد سبق ما ذكرناه عن ابن هُنْدسة في هذا الشأن بخصوص طُرُق القوافل في الشام.

ومثل ذلك ما جرى في الحجاز -خلال القرن المتقدم عليه- أثناء تمرد الأخيضر الحسني سنة 251هـ/865م والذي ذُكر سابقًا، والذي حاصر مكة من جانب العراق وأثر تقديم موسم الحج ذلك العام.

حيث تغير سبب تلك الأحداث مسار جلب المواد الغذائية إلى الحرمين، بحيث أصبحت تأتي من طريق اليمن بدلاً من الطريق العراقي. ويذكر ابن الأثير -في ‘الكامل‘- أن الأخيضر قطع طريق المواصلات إلى مكة حتى تم جلبها من اليمن، مما أدى –مع نهب جنوده سلع التجار- إلى ارتفاع الأسعار ليصبح كل "كآس ماء بدرهم"!!

ويورد ابن واصل الحموي (ت 697هـ/1298م)-في ‘فضاء الانتماء في تاريخ الأسرة أيوب‘- يذكر بأن المواجهات بين حكام أسرة الأيوبيين عام 620هـ/1223م أدت إلى ضرورة تغيير مسار التجارة على طول طريق الميرة المتجه من دمشق إلى حماة.

فقد أمر الملك العادل من دمشق (ت 624هـ/1227م) قبائل البادية بـ"قطع الاتصال مع حماة"، بجانب حظر وصول الجنود إلى مملكة الناصر الثاني يوسف الأيوبي (ت 659هـ/1261م)، وأقر أيضًا بأنه "جعل مسار القوافل متجهة نحو [بلدة] سَلَمْيَة (= التي تقع حاليًا في محافظة حماة)" التي كانت تحت سيادته، بهدف ضمان توفر المواد الغذائية والميرة تحت سيطرته، ودعم مكتسباته المالية من الضرائب.

فُرص ثمينة
وإلى جانب دور التجار الحاسم في المساعدة على تخطي الأزمات الغذائية من قبل السلطات العامة؛ تكشف هذه الأزمات غالبًا عن فرص اقتصادية وتجارية جديدة يستفيدون منها لزيادة أرباح أنشطتهم التجارية، بعد المأساوي التي تسببت فيها الحروب وارتفاع أسعار المواد الأساسية.

في نهاية ثورة الزنج (255-270هـ/869-883م)، بنى الجنرال العباسي الموفق بالله مدينة بالعراق الجنوبي حملت اسمه وُصفت بـ"الموفَّقية"، فبمجرد اكتمال بنائها "تم نقل الأموال والميرة إليها وأُوقِفت الحروب لشهر لتحقيق استمرارية النقل إلى المدينة، وانتقل التجار ببضائعهم، وازدهرت فيها البنى التحتية وانتعشت الأسواق"؛ كما ورد في تاريخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م).

وكان احتكار التجار للبضائع خلال الأزمات الاقتصادية والتقلبات في الأسعار جزءًا من تصاعد الأسعار في مصر عام 818هـ/1415م؛ فذكر ابن حجر العسقلاني -في ‘أخبار الإغمار‘- أن التجار زيادوا في "تصدير الحبوب" -أي تصديرها- من مصر خارج حدودها بسبب انعدام الإمدادات في الحجاز والشام.

وبالمقابل، وقع "أن بعض الأفراد -الذين يتمتعون بتفوق في غياب الحاكم- أرادوا التجارة بالقمح"، وفي ظل نفوذهم "بدأوا بمنع الآخرين من بيعه إلى غيرهم، مما جعل التجار المستوردين يهربون، وبدأ تعطيل في محلات الخبازين".

وصف ابن حجر بدقة تداخل الأزمة والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية على الناس؛ إذ زاد الفساد تدريجيًا حتى "ارتفع سعر "الإرْدَبّ (وحدة قياس مصرية تعادل 6 كيلو تقريبًا) من القمح إلى ثلاثمئة [دينار]"، على الرغم من أنه كان بدينار واحد فقط، مما يعكس ارتفاعا هائلًا في الأسعار!!

وبشكل طبيعي "ازدحم الناس على المخابز حتى توقفت عن العمل"، وزاد الاهتمام بالتخزين خوفًا من نفاد مادة الخبز من الأسواق، حيث أصبح "شخصًا كان يكتفي بعشرة رغيفات إذا وجد مئة لن يشتريها بسبب الخوف من فقدانها"، وتوقفت عمليات بيع القمح لأن الممتلكات "حرصوا على عدم بيعه خوفًا من نقص البديل، فازدحم الناس على المخابز حتى أُغلقت، وتفاقم الأزمة وانتشر الغلاء في مصر العليا ومصر الساحل".

ويومص هذا الرسم الكامل أزمة الغلاء في مصر ويمزج بين رصد العوامل النفسية والتجارية والسياسية التي تسيطر على الناس في أوقات الأزمات الاقتصادية، ويصف بدقة تأثير حياة الناس في ذلك الزمان بالصعوبات التي واجهوها في الحصول على متطلباتهم الأساسية، ودور الاحتكار والنفوذ في إثارة الأزمة وشح المواد الأساسية من المخازن المختلفة. وهكذا اندمجت عناصر الشر: الغلاء والاحتباس الحراري والقمع الحاكم على السكان في واقع مُرير.
عوامل حاسمة
في أوقات الأزمات الغذائية، يمكن أن يساهم التجار غير المسلمون في إنقاذ دولة مسلمة من المجاعة المنتظرة. كما حدث خلال أزمة الغلاء في المغرب الأقصى عام 1150 هـ/1737 م التي ذُكرت سابقًا، حيث بعد أن "ارتفعت الأسعار بشكل كبير"، بادر الناس بالبحث عن مخرج خارج حدود بلدهم، وهنا "خرجت جماعة كبيرة من أهل فاس إلى تطاوين [بتونس] وولايتها لاستوراد المواد الغذائية، إذ قام الله بتوجيه الأعداء الكفار لنقل الطعام إلى أراضي المسلمين، وقام أهل فاس بشراء البضائع على قدر ما استطاعوا، لكن الجمالة رفضت نقلها وجعلتهم في حال من الشلل"!!

على الرغم من أن التجار في فاس اشتروا قدر ما استطاعوا من الغذاء لنقله إلى بلدهم المتعفن، فإنهم لم يتمكنوا "من الحركة لمدة ستة أشهر بسبب العرقلة، فقضى بسبب ذلك العديد من الأشخاص من جوع..، لم يستطيع مالٌ الفتى"قد يكون طلب القوت مصدرًا للقلق، ولولا أن الله جعل العدو الكافر يستخدم الميرة لغزو المغرب، لكان أهله على وشك الهلاك تمامًا!!

يبدو أن زيادة المبيعات من الأموال العينية ساهمت في تخفيض أسعارها بالتزامن مع ارتفاع الأسعار في المغرب بالنسبة للبضائع الغذائية، فوفقًا للناصري: "وأما الأصول والسلع فلم يكن هناك منها أيّ شيء يصل قيمته إلى عشر أضعاف الثمن المألوف"!!

كثيرًا ما تكون الأزمات الغذائية والزيادة في الأسعار سببًا في فقدان الحروب أو دافعًا لنشوب حروب أخرى بين المسلمين والآخرين؛ كما حدث في الصراعات بين المسلمين والبيزنطيين خلال عهد إمبراطور بيزنطي نيقفور الثاني فوكاس (ت 359هـ/969م) الذي انتقد جرأته على اجتياح الحدود الإسلامية في بلاد الشام.

ومن الأمثلة التي ذكرها الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه في عام 354هـ/965م "تفاقم الحصار لمدينة طرسوس (التي تقع اليوم في جنوب تركيا) بسبب ازدياد عدد الروم، وانهزم أهل المدينة نتيجة لنقصهم من الموارد وارتفاع الأسعار، وفشل الأمير سيف الدولة (الحمداني ت 356هـ/967م) في إغاثتهم، وانقطعت الإمدادات عنهم واستمر الحصار تاركًا السكان دون عون، حتى عرضوا على نيقفور ملك الروم أن يستسلموا له ويحفظوا أنفسهم وأموالهم، وتوثقوا ذلك بعهود واتفاقيات (= شروط)".

وبعد وفاة الأمير سيف الدولة، نشبت خلافات بين أفراد أسرة الحمدانيين، مما حفز جيرانهم البيزنطيين على شن هجمات على أراضيهم، وسجل ابن سعيد الأنطاكي (ت 458هـ/1067م) -في تاريخه- تلك الهجمات التي تضمنت استراتيجية التجويع والدمار التي اتبعها الإمبراطور نيقفور تجاه الحدود الشامية.

ويقول -خلال أحداث عام 359هـ/969م- إن الإمبراطور "قام بتدمير مناطق الزراعة والمدن والقرى.. وحاصرها وأحرقها واعتقل سكانها ومواشيها، وعند موسم الحصاد للزروع، خرج وأحرق كل المحاصيل وترك سكان المدن يموتون جوعًا"، مما أسفر عن "احتكام الحدود الشامية والجزيرية" أيضًا، ولم يكن هناك من يقاومه نهائيًا.

ويصف كمال الدين ابن العديم -في ‘بُغية الطلب‘- سياسة نيقفور والنتائج الكارثية التي تبعتها؛ حيث يقول إنه استمر "في غزو حقولهم قبل حلول موسم الحصاد، وفيقدها بأكملها، واستمرت سنوات الخوف والجوع ونقص الثروات والأفراد والمحاصيل، وتباطأت الميرة والإمداد"!!

ثورات كبرى
ويرصد المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- تأثير غلاء الأسعار على الدولة الإخشيدية، الذي أدى في النهاية إلى انهيارها على يد الفاطميين في عام 358هـ/969م. بالرغم من أن كافور الإخشيدي (ت 357هـ/968م) كان يدير شؤونها بكفاءة إدارية مميزة في السنوات الأخيرة؛ إلا أن مصر لم تستطع استيعاب تدفقات كبيرة من المغاربة إليها، وذلك تزامنًا مع فقدان السيطرة على منطقة الشام بسبب انتشار القرامطة فيها.

ويروي المقريزي أنه "في عام واحد وخمسين (351هـ/962م) ازدادت الأسعار واضطربت الإسكندرية والبحيرة بسبب تدفق المغاربة عليها، وشهدت زيادة في الغلاء وصعوبة توفر القمح، ووصلت قوات القُرْمطي إلى الشام في عام ثلاث وخمسين (353هـ/964م)"، ومن ثم "انخفض منسوب مياه النيل، وتعرضت مصر للنهب وازداد الغلاء"، وقامت النوبة بالهجوم على مصر حتى وصلوا إلى إخميم حيث قتلوا ونهبوا وأشعلوا النار.

وكان من الطبيعي -في تلك الأحوال- أن تكون مصر عرضة لاحتلال الفاطميين بعد عام واحد فقط من وفاة كافور؛ حيث يقول المقريزي: "عندما توفى كافور، تعرض النيل إلى أزمات عديدة من الغلاء والخراب والفتن، وظلت تأجل معوقاتها حتى وصل جوهر (الصقلبي ت 381هـ/992م) القائد من المغرب بإرسال المعز إلى دين الله (ت 365هـ/976م)".

وفي الغرب الإسلامي؛ شهدت موجات الغلاء المتتابعة –ابتداءً من بداية القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي- تسببًا في انهيار دولة بني باديس الصنهاجيين في تونس ومناطقها المجاورة، الأمر الذي استفاد منه ملك صقلية روجر الثاني النورماندي (ت 549هـ/1154م) لتكثيف الضغط على جيرانها بالجنوب تونس، التي كانت تحت سلطة الأمير الحسن بن علي ابن باديس الصنهاجي (ت 563هـ/1168م).

ويروي الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- أنه في عام 536هـ/1141م، "أرسل روجر النورماندي أسطولًا إلى أطراف أفريقيا (= تونس الحالية)، حيث استولوا على قوارب نُقلت من مصر إلى الحسن بأفريقيا"، الأمر الذي دفع الحسن إلى تجديد الهدنة مع النورمانديين "لنقل المحاصيل من صقلية إلى أفريقيا، نظرًا لشدة الغلاء وتزايد حالات الوفاة هناك".

ونتيجة لتلك المجاعة -التي سببها ارتفاع الأسعار فيتسببت تونس في نزوح جماعي حيث انتقل العديد من الأشخاص إلى جزيرة صقلية، مما أدى إلى انقطاع إمدادات السلع والغذاء عن تونس. استمرت هذه الضغوط حتى تهدأت في سنة 1141م.

انهارت الدولة الصنهاجية في تونس تمامًا في عام 1148م نتيجة ارتفاع الأسعار في أفريقيا من سنة 1142م إلى سنة 1147م، الأمر الذي أدى إلى نقص المؤن وتبادل المجتمع للأطعمة وانهيار القرى.

هزم الأمير الحسن الصنهاجي تحت ضغط الأزمة الغذائية المنهكة لبلاده أمام الاجتياح النورماندي، حيث استولى روجر الثاني على المهدية، وبدأ حكم النورمان للساحل الأفريقي من طرابلس إلى تونس لمدة 12 عامًا من 1148م إلى 1160م.

رصد المؤرخ الجبرتي في كتابه ‘عجائب الآثار‘ تطورات وأحداث جولة من الصراع الروسي - العثماني. وذكر أنه في بداية عام 1810م، سيطرت روسيا على العديد من الممالك في شرق أوروبا، الأمر الذي أثار حالة من الحصار والغلاء بالأسعار والتوتر في البلاد.

أسفرت حرب الروس والعثمانيين التي دارت بين عامي 1806م و 1812م عن هزيمة الدولة العثمانية نتيجة تدمير أسطولها في مضيق الدردنيل، وهو ما أدى إلى هزيمتها في تلك الحرب بسبب الأزمة الغذائية وارتفاع الأسعار.

كانت الأزمات الغذائية سببًا في انعدام الاستقرار واندلاع الحروب كما حدث في مصر خلال عهد الخليفة المستنصر بالله بن الظاهر، حيث شهدت البلاد أزمة غذائية شديدة في عام 1073م، مما أدى إلى انهيار العلاقات الدولية وتغيرات إقليمية عميقة.

أدى تدابير الإدارة السيئة للفاطميين في مصر إلى ارتفاع الأسعار ونقص القوات واضطراب الأحوال، مما أدى في النهاية إلى حروب وتغيرات إقليمية. الأمر الذي اندلعت بعده حروب صليبية بسبب إثارة الفتن من جانب ملوك أوروبا.

كانت مصر واحدة من أهم الجبهات في تلك الحروب الصليبية، والتي اندلعت بسبب سياسات الحكم السيئة والأزمات الغذائية التي شهدتها البلاد. وكانت مصر حاسمة في تلك الحروب الصليبية.

تغيرات إقليمية

وأخيرا، أدى ارتفاع الأسعار ونقص الموارد إلى تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية في هذه البلاد وأدى إلى حروب دامية وتغيرات جذرية في التوازنات العالمية.

سَرى المقريزي - في كتابه "التفكير الحنفا" - عن أسباب حدوث تلك المجاعة الكبرى في أرض مصر، وكيف تطوّرت المراحل المتعلقة بها؛ حيث ارتبطت بأسباب طبيعية ناجمة عن جفاف نهر النيل، وأسباب إنسانية متعلقة بصراع الجنود بين بعضهم، وبضعف الحكم السياسي بعد مقتل الوزير القوي الحسن بن محمد اليازوري (1059م) .

مراكز السلطة
ويشير المقريزي إلى أن الغلاء لم يحدث بسبب نقص في مياه النيل فقط، بل جلب الفزع والصراعات بين الجيوش شتى، وكانت الجيوش تتألف من طوائف متنوعة جدًا. فقد تمكنت قبائل الأمازيغ كلواتة والمغاربة من التفوق على المنطقة الساحلية، بينما سيطر العبيد السودانيون على منطقة الصعيد، وسيطر الأتراك على القاهرة وأراضي مصر.

ونتيجة لهذه الصدامات بين تلك الطوائف المتناحرة تدهورت حالة الدولة وتبدلت أوضاعها من سنة لأخرى (1059 - 1066م)، مما أفقدها الاستقرار وزادت فيها الشدة والمحن. وكانت من بينها سنوات عجيبة من 1068م إلى 1073م، حيث أصبحت مملكتها مستنزفة ومات فيها معظم سكان الإقليم نتيجة للجوع والبلاء، وكانت السنوات السبع الوحشية من 1073م حتى 1073م أكثرها فظاعة، حيث نقصت كل موارد الحياة وفيها ماتت الكثير من سكان المنطقة.

وقد زاد من سوء الأمور حينما قطعت الطرقات البرية والبحرية باستثناء التجارة السرية بالمخاطر (الخَفاء)، وواجه الناس نقصًا حادًا في الطعام مما دفع التجار من صقلية والمهدية ببيع الطعام مقابل ثمن باهظ، وأضطر الناس لطبخ جلود البقر وانتشرت الأمراض بشكل كبير وألقى الناس موتاهم في نهر النيل بدون أكفان!

وأدلى الحال سوءً بانعدام الغذاء وتفاقم الأوضاع المروعة، حيث تفاقمت الفقر والجوع حتى وصل الناس إلى أكل الجيف والجثث، وهذا ما أكده المقريزي.

وأشار المقريزي بأن الوضع المأساوي والشدة القاسية دفعت الأتراك إلى التوصل إلى اتفاق مع الأمير العربي ناصر الدولة ابن حمدان (1072م) لتوفير موارد الغذاء باعتباره الذي كان يسيطر على المنطقة الساحلية بالكامل، وبعد إتمام الصفقة عادت الطعام إلى المدينة وصفوت قلوب الناس وتلاشت الكوارث والمحن!

وفي عام 1073م استمرت الصراعات وتدهور الوضع السياسي حتى نقلت الخطبة العامة إلى المنطقة الساحلية خارج القاهرة بتدبير من الحاكم، وبسبب الجوع هاجر العديد من أسرة الحاكم بين العراق والشام والمغرب؛ حيث فقد العديد منهم أبناءهم ومات الكثيرون بسبب الجوع!

وبسبب الوضع المتلف الذي حدث، استمر الناس في العذاب حتى حلّ "أمير الجيوش بدر الجمالي من عكا بمصر في 1073م"، وتولى المسؤولية بالمدينة، وباستتابة الأمن والنظام عادت الحياة الزراعية إلى سابق عهدها، واستعادت الحياة الاقتصادية نشاطها الطبيعي مرة أخرى.

لكن الجفاف العظيم لم ينته بانتهاء الجوع الكبير، فقد تسببت تلك المجاعة في تغييرات هائلة في الهيكل الاجتماعي والسياسي في مصر؛ حيث عدَّ المؤرخ المعروف المقريزي أنها واحدة من الأسباب الرئيسية للاندثار الكبير لمدينة "الفسطاط" التي كانت المدينة العاصمة للبلاد بعد الفتح الإسلامي. وقد قال في كتابه "المواعظ والاعتبار": "وكان لتدمير مدينة الفسطاط في مصر سببين؛ الأول: الجفاف الكبير الذي كان أثراً كبيرًا في عهد الفاطميين، والثاني: حريق مدينة القاهرة في وزارة شاور بن مجير النصري"!!

أما التأثير الثاني الأكبر في الميدان السياسي؛ فقد كانت هذه الكارثة الكبيرة السبب الرئيسي في تدهور مؤسسات الدولة جراء ضعف مكانة "الخلفاء" الفاطميين، وهو ما ساهم في ظهور تيار جديد من الحكم "بوصاية الوزراء الأقوياء".

آثار عميقة
وظلت الأوضاع على حالها حتى قدم "أمير الجيوش بدر الجمالي" إلى مصر عام 1073م، حيث تولى الوزارة والإدارة بالبلاد، وفقا لابن القلانسي. وباستقرار الأمن وتحسن الوضع الداخلي، عادت الحركة الزراعية إلى نسقها الطبيعي، وبدأت الحياة الاقتصادية تعود إلى مسارها الطبيعي.

بدر الجَمالي السابق المذكور، وهي الحقبة التي استمرت حتى انتهاء الدولة الفاطمية -بعد ذلك بقرن- على أيدي الزنكيين عن طريق معاونيهم الأيوبيين عام 567هـ/1174م.
وبعد انقضاء الحكم المستنصري بـ130 سنة؛ عاشت مصر مرة أخرى فترة من الجوع الشديد نتيجة ارتفاع الأسعار بسبب نقص الموارد. وسجلت لنا الأخبار الرهيبة حيث تحدث عنها الشاهد العيان الإمام الطبيب عبد اللطيف ابن اللبباد البغدادي (ت 629هـ/1232م) في كتابه ‘الإفادة والاعتبار‘، حيث وصف بدقة رعب هذا الجوع وتأثيره الفظيع على المجتمع المصري من حالات وفاة وتمزيق للشريحة الاجتماعية وتغيير أخلاقها!!
وذكر ابن اللبباد أنه في عام 597هـ/1200م -الذي وصفه بـ "المفترسة أسباب الحياة"- يأس الناس من زيادة مياه نهر النيل، فارتفعت الأسعار وانقطعت السلع..، وتفاقمت أوضاع الجوع وانتشرت حالات الوفاة بينهم، ونجم عن ذلك موجات للجوء بين سكان الريف إلى بلاد أخرى. وتوزعوا في البلدان وتمزقت أواصرهم بأسرهم وأصبحوا فرادى."!
ومن العجائب التي ذكرها هذا الطبيب أن "الجوع تفاقم بشكل كبير بين الفقراء لدرجة أنهم اضطروا إلى تناول الجثث والقشور والكلاب والبراري وحتى البشر..، ووصل الأمر ببعضهم إلى تناول أطفال البشر؛ حيث يتم اكتشافهم في بعض الحالات وهم يحملون أطفالا محموين أو مطهوين!! وأمر رئيس الشرطة بحرق المتورطين والتناولين لذلك..، وقد تم حرق ثلاثون امرأة في مصر خصوصاً -في أيام قليلة- كل واحدة منهن تعترف بأنها شاركت في هذه الأعمال..، وعندما يحرق الشخص المتورط يصبح بدوره طعاماً"!!
المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version