هل تجسيد التراث البشري ممكن في الركب الحضاري؟
وفي العقد الأخير، اسرعت التقنيات الحيوية والذكاء الاصطناعي تطوراتها بشكل كبير بفضل الإنترنت، حتى بات الإنسان يناقش اللوازم الأخلاقية والقانونية لهذا التقدم الرهيب لحماية نفسه والبيئة تلك.
اطلع علىبالإضافة
قائمة من 2 عنصر
خوان كول: النبي محمد كان زعيمًا لأضخم حركة تحرير سلمية في العالم
المفكر المغربي طه عبد الرحمن: هكذا تم تقديم السيرة النبوية بشكل فلسفي
نهاية القائمة
حينما نُلقي نظرة على تطور العلوم والاكتشافات الرائعة في ميادين مختلفة، والفجوة الحضارية الهائلة بيننا وبين هذه المستويات الرائعة، يفوقنا الإحباط ويظهر لنا أحيانًا أن اللحاق بالحضارة أمر مستحيل، وربما يكون الخيار الأفضل هو الرضا بالمنجزات الحضارية والاندماج في الحضارة التي بُنيت.
ولكن الأمر ليس بهذه البساطة ولله الحمد، فهناك فارق بين الأمم التي تتسوق للحصول على منتجات تُسهل حياتها وتستمتع بها فقط كما نحن، وبين الأمم التي تتسوق لتستمتع بالمنتجات ولكن تمتلك القدرة على تطويرها وتفكيكها ومنافستها وربما تصنيع منتجات أفضل منها، كما حدث مع اليابان مع المنتجات الأمريكية والأوروبية، ثم الصين التي تبعت اليابان بعد فترة من 40 سنة.
واليوم تُعد الصين والغرب خصمين قويين، وها نحن اليوم بعد الصين واليابان تنشط العديد من الدول وبينها دول في العالم الإسلامي، مثل تركيا وإيران وإندونيسيا وماليزيا وباكستان، قد انضمت إلى عالم التكنولوجيا والصناعات الحديثة، بل أصبحت تنتج أسلحتها أيضًا.
سألت في يوم ما دكتور مهاتير، كيف تم بناء نهضة ماليزيا؟ وكنا ننتظر دون إمكانية الإجابة بتفصيل، فأجابني بإجابة مختصرة قائلاً: “كنت عازمًا على جعل المهندس الماليزي قادرًا على العمل بكفاءة في مصنع يتبع المواصفات اليابانية”، فالالتحاق بالحضارة الغربية ليس بالتراكم من منتجاتها، بل يتم من خلال الركوب على متن قطارها عبر الإنسان الذي يتمتع بمستوى علمي يُمكنه من أن يلتحق بأي محطة من محطاتها.
الأميركيون والسوفييت لم يهزموا ألمانيا في الحرب العالمية الثانية لأنهم كانوا تقنيًا أفضل، بل لأنهم لم يكونوا بالمستوى التكنولوجي الذي كانت تحتله ألمانيا في ذلك الوقت، بل لأن الفلسفة والجانب الإنساني والاجتماعي للمجتمع الألماني كانت متطرفة وعُنصرية تحتقر الإنسان، ولم تكن لها حدود لجشعها وجرائمها.
ومن المساهمات التي ساعدت على التقدم هي استضافة علماء ألمانيا في مختبرات الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي بعد هزيمتها في الحرب. وعندما سبق الاتحاد السوفياتي الولايات المتحدة الأمريكية في مجالات علوم الفضاء ووصوله إلى سطح القمر في السنوات الستينية، عزا الرئيس الأميركي جون كينيدي ذلك إلى تراجع مستوى التعليم في بلاده.
وعندما اندلعت الحرب الباردة وانكشفت هزيمة الشيوعية في بداية العقد التسعين، لم يكن ذلك بسبب ضعف تطورها العلمي والتكنولوجي، بل كان السبب في ذلك فلسفتها المعادية للطبيعة والنظام الاجتماعي والإداري المتجذر، وبالرغم من استمرار تفوق الغرب تحت القيادة الأميركية في المجالات العلمية والاقتصادية والعسكرية، إلا أن البيانات المتاحة لنا في السنوات العشر الأخيرة تشير إلى أن الصدارة ستكون لصالح الصين في هذه الميادين.
وذلك في غضون وقتٍ قريب إذا نظرنا إلى التقدم الذي حققته هذه البلد في مجال براءات الاختراع والصناعة والتجارة وغيرها. وقد بدأت دول أخرى في العالم الشرقي بتتبع أثرها في هذا الإطار، ومن الملاحظ أن تسعة عشر من الباحثين في مختبرات بعض الدول الغربية هم من الشرق والجنوب الأرض.
وعندما نلقي نظرة على أسباب تراجع الغرب، سنجد أن السبب يكمن في تلاشي الشغف الحضاري لدى الإنسان الأمريكي والأوروبي نتيجة انهيار النظام الأخلاقي، إلى حد أن أصبحت الانحلال والاتجاهات الغير تقليدية تنشر وتُشجع قانونيًا، مما أدى إلى نهاية المفهوم التقليدي للأسرة وتفتك بالحياة الاجتماعية، وبدء تأسيس الثقافة التجارية بشكلٍ شديد وتحول الاستهلاك إلى طقوس دينية جديدة.
هذا الانحدار أدى إلى تحول الحضارة الغربية إلى آلة فتاكة للظلم والعدوان على الشعوب، وتدمير القيم الثقافية لها لكي لا تتعافى من سباتها واتأتأت بالصعود. وهذه هي علامات الهوى التي زعمها ابن خلدون وتوينبي وشبنغلر ومالك بن نبي.
تراث الحضارات
كائنات الحضارة ميراث الجماعات، تورث كما تورث كل إرث، فعلى هذا الطريق ورثت الجماعة الحضارة الإسلامية علوم وفلسفة اليونان وصاغتها وفق أفكارها وثقافتها وتنظيمها الاجتماعي الإسلامي، وحد انقضت الحضارة الإسلامية ورث الغرب ما خُلِفته، وصقله مُعبعا لثقافته ونظام فكره ومنظومته الاجتماعية المسيحية.
وحين كان الغرب ينقل ثقافة الحضارة الإسلامية منذ زمن النهضة الكارولنجية في القرن التاسع للميلاد ثم النهضة الإيطالية والأوروبية والإصلاح الديني ابتداء من منتصف القرن الـ14، لم تكن أوروبا أعظم من المسلمين بل كان الأتراك المؤمنين يبنون أقاليمهم ومدنهم بقوّة، مع ذلك، وقع شيء ما حينها في وعيم الاجتماعي وسياساتهم البشرية وإداراتهم وتعليمهم مما حَقَقَ لهم التأهيل للحضارة.
وهكذا اليوم ليس لنا بحاجة لكي نكون أقوى من الآخرين اقتصاديا وعلميا لكي نرث حضارة الغرب ونستزيد حضارتنا الإسلامية، وإنما نحن بحاجة لكي نكون متقدمين فكريا وإنسانيا واجتماعيا وإداريا وتنظيميا، ومن ثم يجب أن نأخذ علما بأن الرقابة على العلوم الاجتماعية أفضل من الرقابة على العلوم التكنولوجية، ليس لأن هذه العلوم أفضل من تلك، بل لأن العلوم التكنولوجية تستطيع نقلها عندما يكون النظام الاجتماعي والبشري قويا ويرسم ثقافة بلده ورؤية حضارية.
قد فهم الغرب أدوار العلوم التكنولوجية وأدوار العلوم الاجتماعية، فهدَّده واتّبعه، منذ زمن الاستعمار حتى الآن، قمائن وعُقلاء الأمة إلى العلوم الكونية والتكنولوجية ليصبحدون خبراء في مصانعهم ومنشآتهم الرأسمالية، ولينتزعوا عقول الكثيرين منهم بضرورة الهجرة إليهم لغياب المحيط العلمي في بلادنا والنقص المعيشي وخاصة بسبب الفساد والاستبداد.
حدَّدوا ومنعوا المتميزين دراسيا في جامعاتنا من دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية، حتى يتجنّبوا تحويل قمائنا إلى مفكرين وعلماء وباحثين في هذه المجالات. وحتى لا نعجز عن بناء الانماط التنظيمية التي تجعل مجتمعاتنا حرة بوجود زعماء واعين، وقادرة على تنظيم نشاطها واستغلال مواردها، مهما كانت قليلة، والتي ترفع المستويات التعليمية وتعزز الفعالية الاجتماعية التي تمكّي بعد ذلك من التقدم التكنولوجي بكل يسر.
سواء كان ذلك عبر البعثات العلمية التي تُرسل أفرادها للعودة للبلد بالعلم، وليس للفرار المعيشي أو السياسي خارجه، أو عبر منظومة التعليم الوطنية التي تخرج الباحث صاحب براءات الاختراع التي تطوّر الزراعة والصناعة، والتي تصوّر أيضاً المهندس الذي يملك القدرة على بناء وتشغيل المصانع وفق المعايير الأميركية واليابانية والصينية.