هل تفعلها المحكمة الجنائية الدولية؟
وعلى إثر هذه الأخبار فقد نقلت وسائل إعلام إسرائيلية أنّ اجتماعًا طارئًا غير معلن ضم نتنياهو، وكذلك وزير القضاء، ووزير الشؤون الإستراتيجية، وشخصيات مختصة في القانون الدولي؛ لبحث تبعات هذا القرار. كما طالب نتنياهو كلًا من ألمانيا وفرنسا بالتدخل العاجل للضغط على المحكمة الجنائية الدولية؛ لعدم إصدار هذه المذكرات. ومن دون شك فإنّ هذه المذكرات إن صدرت فإنها تعني أن ثمة إدانة معنوية قد أصابت أولئك الذين سوف تشملهم.
وتعود الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية على فلسطين للعام 2014. وكان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، قد زار – قبل نحو خمسة أشهر – معبر رفح.
وقد تعرّضت المحكمة الجنائية الدولية بشكل عام – وكذلك مدّعيها العام على وجه الخصوص – لانتقادات حادّة؛ لعدم فتح تحقيق فعّال ذي جدوى، وكذلك لعدم إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة متهمين بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة، رغم توفر معطيات ودلائل ذات مصداقية (توفر الركن المعنوي من خلال تصريحات، وكذلك الركن المادي)، بخلاف السرعة اللافتة بملف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (مارس/ آذار 2023)، وكذلك ملف السودان، وإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير (مارس/ آذار 2009).
لو صدرت مذكرات اعتقال ضد قادة إسرائيلين، فسيكون ذلك هو الخبر الأهم على الإطلاق منذ قيام دولة إسرائيل التي توصف بأنها دولة محمية من المساءلة وأن قادتها يتمتعون بالمناعة ضد أية ملاحقة
إن الشكوك التي تحيط بالمحكمة الجنائية الدولية كثيرة، وإن القضايا التي تناولتها (تركّزها الجغرافي في أفريقيا أو دول العالم الثالث، واستثناء قادة دول غربيين) تعزز هذه الشكوك. وإن المحكمة مطالبة اليوم بأن تثبت للرأي العام العالمي أنها هيئة قضائية محترمة جادة ومهنية.
تعتبر المحكمة الجنائية الدّولية التي بدأت عملها عام 2002 أداة قانونية مهمّة قادرة على محاسبة الأفراد الذين ارتكبوا جرائم دولية خطيرة. لكن الإرادة الدولية التي أنشأت هذه المحكمة لم تتوفر بعد لتحقيق العدالة المرجوة. وإن فاعليتها تعتمد بشكل كبير على تعاون ودعم الدول الأطراف في نظام روما الأساسي لعام 1998.
كما أن الموضوعية والمهنية والشفافية – التي يجب أن تتمتع بها المحكمة والتي تؤدي لكسب ثقة العالم وهو ما يعزّز من مصداقيتها ويقوّي من موقفها كهيئة قضائية دولية؛ بأنه لا أحد فوق القانون بغض النظر عن جنسيته أو مسؤوليته السياسية – لم توجد بعد.
لماذا القلق الإسرائيلي؟
عقد نتنياهو لقاءات خاصة مع وزراء ومستشارين لبحث السيناريوهات المتوقعة، كما أوعزت الخارجية الإسرائيلية لسفرائها في العالم بالاستنفار؛ للدفاع عن سلوك حكومتها وجيشها، كما طلبت بشكل مباشر من حكومات الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، ممارسة ضغوط؛ لعدم صدور مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين.
ومع أن إسرائيل لا تلقي بالًا للقانون الدولي، ولا تحترم القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية المتعلقة بالحرب على غزة، فإن ثمة قلقًا إسرائيليًا، لدرجة الفزع، نابعًا من عدة أمور:
- أولها:أن إسرائيل سوف تكون في قفص الاتهام مرة ثانية، بعد سوقها لمحكمة العدل الدولية، واتهامها بارتكاب جريمة إبادة، وسوف تكون في حالة دفاع، وهي ملزمة بتجهيز جيش من المحامين للرد على الأوامر التي سوف تصدر عن المحكمة الجنائية الدولية. وسوف تسوء صورة إسرائيل بصفتها دولة ديمقراطية أكثر فأكثر، لتتحول إلى دولة يمارس قادتها جرائم دولية خطيرة.
- ثانيها:سوف تصبح إسرائيل سجنًا لقادتها الذين سوف تصدر بحقهم مذكرات اعتقال، لن يستطيعوا السفر إلى أية دولة في العالم إلا التي ترضى بأن تستقبل مجرمي حرب وبشكل غير معلن. معظم الدول الأوروبية هي جزء من نظام روما الأساسي، وبالتالي هي ملزمة باعتقال من يصدر بحقه مذكرة اعتقال. صحيح أن معظم الدول الغربية وقفت إلى جانب إسرائيل في حربها على سكان قطاع غزة، لكنّ هناك دولًا احترمت نفسها، وكانت مواقفها إنسانية أخلاقية مثل: النرويج، وأيرلندا، وإسبانيا.
- ثالثها:ستكون هناك آثار ستؤثر مباشرة على اقتصاد إسرائيل، لا سيما في مجال الطيران والسياحة ومجالات الاستثمار في التكنولوجيا العالية، وتجارة الأسلحة.
إن حالة الغضب العالمي – لا سيما الحراك في الجامعات الأميركية، ثم انتقاله لجامعات في أوروبا – أمرٌ لا يمكن تجاوزه بسهولة، ولا بد أن يُحدث أثرًا لدى صانع القرار الغربي الذي يشعر أن سلوك إسرائيل بات يشكل عبئًا حقيقيًا على السياسة العالمية، وبنفس القدر على الأوضاع الداخلية، لا سيما الانتخابات. هذا الغضب يمكن أن يوفر بيئة ضاغطة إضافية على المحكمة الجنائية الدولية؛ كي تصدر مذكرات اعتقال؛ انطلاقًا من مسؤولياتها القانونية، وحفظًا لماء الوجه بعد الانتظار وقتًا طويلًا. وفي هذا الإطار، فإن المحكمة بحاجة لفلسطين، كما أن فلسطين بحاجة للمحكمة.
إن مشاهد الاحتجاجات العارمة في العالم ضد جرائم الإبادة في قطاع غزة، تشبه إلى حد بعيد تلك الاحتجاجات التي ساهمت في وقت سابق بإسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهي تعد بمثابة مؤشرات قوية لبداية فرض عزلة دولية على إسرائيل.
هل تتهرب إسرائيل من خلال مبدأ التكامل القضائي؟
إن الحديث عن إصدار مذكرات اعتقال لقادة وضباط إسرائيليين متّهمين بارتكاب جرائم دولية، يدفع هؤلاء، وبتوجيه من حكومتهم، للاستعانة بمحامين، للترافع عنهم أمام القضاء الدولي من جهة، وتمثيلهم أمام لجان تحقيق داخلية من جهة أخرى.
هذا السلوك الإسرائيلي تكرر في أكثر من جريمة ارتكبها الاحتلال خلال حروب سابقة (صبرا وشاتيلا عام 1982، ثم 2018، 2012، 2014..)، وهو محاولة للهروب من التحقيق الدولي. ولكن من المهم التأكيد أن التحقيق الداخلي لا يعني بالضرورة نهاية القضية، أو إلغاء الحاجة لتحقيق دولي، خاصة في القضايا التي تتعلق بجرائم جسيمة، مثل: الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، أو جرائم الحرب، خاصة إذا لم يكن التحقيق الداخلي كافيًا أو كان غير فعَّال.
هل تصدر الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق قادة فلسطينيين؟
من المتوقع أن تصدر مذكرات اعتقال بحق طرفي الصراع: حماس وإسرائيل. هذا الافتراض مبنيّ على سياق اعتادت عليه المؤسسات الدولية (التوازن)، فلم يصدر أي تقرير دولي إلا وأدان المقاومة الفلسطينية بنفس القدر الذي أدان به إسرائيل وربما أكثر.
ومن المرجح أن يكون إدراج قادة المقاومة (إن تم) من باب ادعاء التوازن والحيادية؛ ولكن من الناحية العملية فإن الأهمية سوف تكون صفرية قياسًا على قرارات تجميد حسابات مالية لبعض قادة المقاومة في السابق (أبوعبيدة على سبيل المثال)، وبخلاف ذلك فإن مذكرات الاعتقال بحق قادة إسرائيليين سوف تكون ذات تأثير كبير، وسوف تضيّق عليهم حركاتهم وعلاقاتهم بشكل مباشر، وكذلك على مستقبلهم السياسي حاليًا، والشخصي بعد التقاعد، حيث يسعى الكثير من الضباط والقادة السياسيين لبناء حياة تجارية جديدة في أوروبا.
خلاصة القول؛ هو أن تصدر مذكرات اعتقال بحق أحد من العالم العربي والإسلامي أو دول العالم الثالث فهذا أمر متوقع، وأن تدرج الدول الغربية قيادات على لوائحها فهو أمر غير مستغرب، ولكن الجديد أن تصدر مذكرات اعتقال بحق قادة الاحتلال، وأن يُطلَب قادته السياسيون والعسكريون للمحاكمة كمجرمين، فهذا أمر لم يدر في خلد أحد منا أو منهم. وإذا تم هذا ولم تنجح الضغوط في ثني المدعي العام الذي تباطأ كثيرًا، فهو نصر عظيم.
تخيلوا أن يُحاصر نتنياهو وقادة الإجرام ولا يستطيعون السفر، ويُنظر لهم كمجرمي حرب، وللاحتلال كمن خرج عن الشرعة الدولية التي رعته وأنشأته!
رابط المصدر