وافانا زكرياء.. فنان الثورة الجزائرية الذي أقسم بأن تعيش بلاده
وأدرناها كما يدر الكتاب
يا فرنسا إذا حان يوم الحساب
فاستعدي وخذ منا الجواب
في ثورتنا فتح الحديث
وتوصلنا إلى قرار بأن تعيش الجزائر”
يلقى القول بأنه في زنزانة رقم 69 في سجن بربروس بالجزائر كتب الشاعر الكبير الجزائري وافانا زكرياء هذه الأبيات التي أثارت حينها غضب فرنسا، وهي أبيات من قصيدة “قسما”، وقيل بأن وافانا زكرياء كتبها بدمه على جدران زنزانته بعد أن طلب منه عبان رمضان المشهور بمهندس الثورة الجزائرية تأليف قصيدة، لتكون نشيدا وطنيا للجزائر.
كان هذا في بداية العام 1955، وكانت تلك الرواية شهيرة في الجزائر عن تاريخ إبداع أكثر الأناشيد الوطنية إثارة، في حين تدعي رواية أخرى إن الشاعر وافانا زكرياء استجاب لطلب المجاهدين عبان رمضان وابن يوسف بن خدة لكتابة نشيد وطني في أقل من يومين، وهما روايتان متباينتان في تفاصيلها دون تغيير في حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن الشيخ زكرياء بن سليمانالشهير بلقب مفدي زكرياء، و”الزنجي” هو كاتب شهير للثورة الجزائرية وداعم لها، وترك بصمته في مخطوطات الشعر الوطني التي قادته نحو أن يصبح رقمًا في سجلات السجون الفرنسية للاستعمار، حيث تجوّل بينها لمدة تقرب من سبع سنوات.
مفدي زكرياء.. “هذه الأرض أمتنا ويجب أن نعيدها”.. خطاب تحفيز الروح
في يوم الثاني من أغسطس/آب عام 1937، وقف مفدي زكرياء يخاطب التجمع الحاضر في مسرح بلدة بوفاريك الجزائرية، خلال اجتماع لحزب الشعب الجزائري، وقال: “هذه الأرض أمتنا ويجب أن نعيدها، لا تنسوا أن أجدادنا صاغوها بأرواحهم، ودُفنت رفاتهم في كل مكان قاتلوا فيه من أجل الحفاظ عليها، يتوجب علينا التحرك وأن نكون مستحقين لانتمائنا إلى أسلافنا، يجب أن نواصل الصراع من أجل استقلالنا. لا يجوز أن تكون هناك اختلافات عرقية بيننا، لأننا جميعًا مسلمون.
قبل ذلك بحوالي سبع سنوات، احتفلت فرنسا بالذكرى المئوية لاحتلالها للجزائر، وحاولت بلا جدوى إنتزاع سيطرتها على الجزائر لتحويلها إلى مقاطعة فرنسية، في ذلك الوقت، كان عمر زكرياء يتجاوز العشرين بضع سنوات فقط، ولم تشهد ذلك الفترة بادرات ثورية منظمة كما حدث في ثورة التحرير الجزائرية الكبرى لاحقًا، وهو ما كان ينادي به زكرياء ويحث الجزائريين على الاستعداد لذلك قبل أن تبدأ حرب التحرير في عام 1954، وكان من بين أوائل المقاومين الجزائريين الذين دعوا إلى اللجوء إلى المقاومة المسلحة من أجل استرداد استقلال الجزائر وفقًا للمؤرخ صالح بندريسو في كتابه “مفدي زكرياء ورؤية الاستعمار”، وتحدث عن شاعر الثورة الجزائرية بعد أن استعرض ملفات الاستعمار الفرنسي في أرشيف “يتش أون بروفانس” في فرنسا.
الجماعة العزابية.. إرث التربية الدينية في وادي مزاب
ولد زكرياء بن سليمان بن يحيى، المعروف باسم مفدي زكرياء، في عام 1908، في قرية بني يزقن في منطقة وادي مزاب جنوب العاصمة الجزائرية، وكان ابنًا لجده الذي كان يتبع الجماعة العزابية، وهي نظام ديني إباضي يضم أهل الدين والعلماء وأعيان القبيلة، ويتولى مسؤولية مراقبة شؤون التعليم والدين والاقتصاد في الجماعة.
نشأ مفدي زكرياء في أسرة ورثت مكانة النبلاء وحزم الريفيين، وبالنسبة للشعر، وُلِدت له نزعة تجاهه منذ كان صبيًّا.
كان هذا النظام الذي ترعرع جده تطبقه أبوه في الماضي في مجتمع وادي مزاب معتمدًا على التقشف، وعلى منع المنكر والتشجيع على الخير، وعلى تعزيز قيم الدين بين فراد المجتمع، فتعلم تلك القيم وحفظ هذا النظام كانا مقاومة للحصار الذي فرضته فرنسا على التعليم في الجزائر.
ويرى المؤرخ الفرنسي “إيفون تيران” سياسة الاستعمار في تدمير مصادر التعليم التقليدي في الجزائر، قال: كانت نتائج سياستنا مدمرة، حيث أهملنا جميع المدارس الابتدائية تقريبًا، وجاءت الكارثة في شكل مدارس الزوايا، وانتقل المعلمون إلى أطراف البلاد التي لم تكن تحت سيطرتنا حينها.
كان والد مفدي زكرياء تاجرًا، وأمه اختفت منذ طفولته، ولذلك كان من المتوقع أن يعوض مفدي نقص الأمومة التي فقدها بحب وطنه الذي غمره بقصائده منذ صباه.
وبالرغم من غياب الأم عن أشعاره وعدم طباعة غيابها في قصائده، إلا أن نظام المجتمع في مزاب وطابعه الديني كانا حاضرين بوضوح في أغلب قصائده، حيث كان يشحذ عزائم أبناء وطنه من أجل النضال ضد الاستعمار.
رحلة مفدي زكرياء نحو الأدب الراقي في تونس
جرحت سياسة الاستعمار شموخ منطقة مزاب بإيقاف التعليم التقليدي، حيث قرر العديد من المعلمين والتلاميذ الهجرة المؤقتة، وكان مفدي زكرياء من تلاميذ هؤلاء الذين غادروا الجزائر بحثًا عن العلم. سافر مفدي في إحدى البعثات العلمية الى تونس المشهورة بإسم بعثة المزاب، وهذه البعثة كانت قائمة منذ عام 1914 حتى استقلال الجزائر.
يقول المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله: انقطع التعليم التقليدي بسبب الحروب واستيلاء الأوقاف وهجرة المعلمين، وبالتالي تأثرت المدارس الثانوية، وترك المتعلمون المناطق المقربة من مراكز الاحتلال. بدأ الأساتذة بأداء الشعائر الدينية بدلاً من التعليم أو انتقلوا الى مناطق غير محتلة.
عندما بلغ الطفل مفدي زكريا الثانية عشرة من عمره، جهز حقائبه للسفر الى تونس ضمن بعثة المزاب، وهناك دخل مفدي عالم النضال والشعر.
يذكر الشاعر الجزائري محمد الهادي الزاهري في كتابه “شعراء الجزائر في العصر الحاضر” ان مفدي زكرياء كان يغذي حبه للأدب والشعر منذ طفولته، حيث قال: “كنت متعطشًا للأدب والتاريخ منذ صغري”. كان هذا الحب هو الدافع الذي جعله يطمح للتألق في مجالي الشعر والمقاومة.
مفدي زكرياء.. رمز الثورة في شمال إفريقيا
في بداية عام 1920، انتهت الحرب العالمية الثانية وبدأت تونس -الملاذ الجديد لمفدي زكرياء- في سعيها للحرية والاستقلال. كانت هذه الفترة حاسمة بالنسبة للشاب الجزائري المهتم بالأدب والشعر. استطاع الفتى الجزائري المتحمس أن يحقق ثلاث انتصارات مهمة ساعدت في تأصيل اسمه، اولا ظفر بلقب مفدي، وهذا هو اللقب الذي أطلقه عليه زميله سليمان بوجناح واحتفظ به ليعتز به طوال حياته. كانت الانتصارات الأخرى تتعلق بانفجار موهبته في الشعر برفقة شعراء تونس مثل أبو القاسم الشابي وكبار الأدباء مثل محمد العربي الكبادي. اللقاء الثالث كان مع رموز الحركة الوطنية في تونس.
يقول مفدي زكرياء عن تحسين موهبته في الشعر كما ذكره الشاعر الجزائري محمد الهادي الزاهري: أعتبر نفسي معلماً في الشعر ولكني أقدم أعمالي لزملائي في بعثة الميزاب، قرأت الشواهد والدوائر عند المبدع التونسي الشاذلي خزندار، وحصلت على فهم شخصي للقواعد والأنغام.
كتب مفدي زكرياء أول قصائده غير المنشورة حينذاك تحت عنوان “تنبيه النيام من بني الإسلام” عندما كان عمره 14 عاما، وهو يدرس في تونس. بعد ثلاث سنوات نشرت قصيدته الأولى “إلى الريفيين” في الصحيفتين التونسيتين “لسان الشعب” و”الصواب” في 6 مايو 1925، وكرسها لدعم ثورة الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي في المغرب.
منذ ذلك الحين، شارك مفدي زكرياء في 19 صحيفة تونسية بأعمدة خاصة به، من بينها صحف بارزة كـ “الزهرة” و “النديم” و “تونس الفتاة”. نشر فيها 18 مقالًا و36 قصيدة، وبات يعتبر رمزًا لتونس والجزائر في عالم الأدب، حيث استخدم الشعر كوسيلة لتحفيز حركة المقاومة في شمال إفريقيا.
يقول سليمان الشيخ، ابن الشاعر الجزائري، في أحد التصريحات الصحفية: الروابط التي جمعت بين مفدي زكرياء وتونس نشأت منذ طفولته عندما زار المدرسة السلام خلدونية وبعدها جامع الزيتونة. كان مفدي ممتنًا لتونس لتأثيرها في تشكيل شخصيته ومساره العلمي من خلال أساتذته المميزين، مما دفعه الى الحب والإخلاص لهذه البلاد.تونس تعانق حبها.
الحزب الديمقراطي الحر.. مواجهات السجون والصراع السياسي في تونس
فصل مساري الشعر والنضال التي سلكها مفدي زكرياء في تونس كان أمرًا صعبًا جدًا. عندما برزت شاعرة الجزائر الملكة في صناعة القصائد، كان وعيه السياسي والوطني يتأصل بفضل زيارة زعماء الحركة الوطنية وتنظيم الفعاليات الثقافية، حيث عُقدت المحاضرات والندوات بمشاركة طلبة البعثة. يشير زكرياء إلى أنه تعلم دروسًا دينية ووطنية وروح التضحية من أجل الوطن العزيز والأمة العظيمة.
عاش زكرياء لسنوات في تونس في منزل عمه صالح بن يحيى الذي كان أحد مؤسسي الحزب الديمقراطي. ذكر المؤرخ التونسي الجزائري أحمد توفيق المدني دور صديقه الشيخ صالح بن يحيى، عم زكرياء، في دعم الحزب الديمقراطي. وفي مقتطف من مذكراته “حياة النضال”، ذكر المدني: “عندما تدهورت الأوضاع في تونس وتم تحديد إرسال الوفد التونسي إلى فرنسا وكانت الأموال غير كافية، سافر الشيخ صالح إلى مزاب وجمع تبرعات وصرفها للوفد بمبلغ أربعين ألف فرنك في ذلك اليوم”.
وأكد المؤرخ التونسي عثمان الكعاك على أن منزل الشيخ صالح في سوق اللفة ورادس بتونس كان يُعتبر ناديًا لإدارة الحزب الديمقراطي وكان محل مراقبة شديدة من جواسيس الاستعمار.
عاش مفدي زكرياء لمدة تقارب سبع سنوات في جو ساخن بالنضال السياسي والشعر الوطني. وفي تلك الفترة، كانت تونس تعاني من الاحتلال الظالم، وجمعت علاقاته مع عمه من جهة ومهارته في التعبير الشعري من جهة أخرى مع قادة سياسيين مثل الشيخ عبد العزيز الثعالبي وشعراء مثل أبي القاسم الشابي. سرعان ما انخرط في نشاط الشبيبة الديمقراطية في عام 1922 وتم توجيهه للسجن لمدة 15 يومًا في السجون الفرنسية بتونس.
غادر مفدي زكرياء تونس متوجهًا إلى الجزائر في أواخر العشرينيات مشيرًا إلى أهمية تلك الفترة في حياته والثمار التي جناها هناك: “تونس للفكر حبيبتي، إن فرعي في أحضانها تنمو”.
حزب نجم الشمال أفريقي.. تفاني مفدي زكرياء في عوالم السياسة تحت رقابة المستعمر
عند عودته إلى وطنه في عام 1929 وهو في بداية عقده العشرين، لم يحمل مفدي زكرياء فقط شهادته العلمية، بل كان عزمه الصلب على النضال من أجل استقلال الجزائر.
لم يترك مفدي زكرياء الشعر حين عاد إلى الجزائر، بل فتح بالمقابل صفحة جديدة في النضال والنشاط السياسي من أجل تحرير بلاده. كانت نقطة انطلاقه الجمعية العلماء المسلمين التي أمدها بالإلهام في قصائده، ولكنه تحول فيما بعد إلى طلبة شمال أفريقيا وانضم إلى حركة سرية تحمل اسم “حزب نجم الشمال”، على الرغم من أن انضمامه للحزب يعود إلى عام 1927.
قبل بلوغه الثلاثين بعامين تقريبًا، تم تعيين مفدي زكرياء أمينًا عامًا لحركة نجم شمال أفريقيا في عام 1936، ولكن هذا الحزب لم يكن المحطة الأولى في نضاله السياسي، إذ بمجرد عودته من تونس، أصبح محل مراقبة من قبل سلطات الاستعمار في قرية بني يزقن بعد كشف فرنسا عن وثائق تشير إلى علاقته بمناضلين شيوعيين. قد فرض عليه حاكم منطقة غرداية رقابة صارمة وكان ضمن قائمة المراقبين من قبل أجهزة الاستعمار في الجزائر.
انغمس مفدي زكرياء في النضال السياسي حتى تم تعيينه في مناصب قيادية مرموقة في منظمات سياسية قادت حركة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. في عام 1937، تم تعيينه رئيسًا للجنة التنفيذية لحزب الشعب بعد حل حزب نجم الشمال أفريقي في بداية ذلك العام، وظل يعبّر عن فكره من خلال تأليف نشيد الحزب “فداء الجزائر” الذي يعبر في أبياته الخمس والعشرين عن رفض الانصهار والتجنيس والاندماج الفرنسي.
واستمر مفدي زكرياء في النشاط الصحفي ورأس تحرير جريدة الشعب التي كانت لسان حركة الاستقلال في الجزائر، وكانت ساندًا لحركة التحرر في أرض الوطن.عددان فقط، الأول في نهاية آب من السنة 1937، والثاني في 20 تموز من العام نفسه، واستولت عليه القوات الإستعماريّة قبل توزيعه.
رحلة في السجون: “لا يعترضه الضيق”
تحوّل الشاعر مفدي زكريا إلى أحد الأفراد الذين توجب عليهم دخول سجن بربروس بعد أن أصبح تحت رقابة الاستعمار. خلال نهاية العام 1937، وقف أمام جمع غفير خلال إلقائه محاضرة في البليدة، داعيًا الحاضرين للجهاد من أجل الوطن، مما أدى إلى اعتقاله بتهمة التآمر على فرنسا، وتم إيداعه في السجن برفقة المناضل مصالي الحاج ورفاقه في حزب الشعب.
يصف مفدي زكريا الحماس الذي كان يدفعه للمضي في الصراع، على الرغم من الظروف القاسية داخل سجن بربروس لمدة سنتين كاملتين: “لولا تلك النيران من الآمال التي كنت أعيش في أعماقها، ما كان بربروس يكفي ضيق هذه النفس التي لا تتسع لها الأرض بأسرها”.
بقيت شعلة الصمود متقدة في نفس مفدي زكريا، ولم تجف ريشة قلمه رغم قيود السجن، مواصلاً الترويج لبرنامج حزب الشعب بين السجناء، فأُعيد محاكمته من قبل السلطات الفرنسية بتهمة إعادة تأسيس جمعية محظورة ومعادية لفرنسا.
نقل مفدي زكريا ورفاقه إلى سجن الحراش، لكن هذا لم يثنيهم عن التخطيط لاستراتيجيات المقاومة. كان مفدي يُرسل المنشورات ويتسلمها عبر حلاق السجن الحراش، حيث كانت تلك المراسلات عبارة عن مقالات كتبها تحت أسماء مستعارة مثل “أبو فراس الحمداني” و”الفتى الوطني”، تُوجه لصحف تونسية مثل “توّنس الفتاة” و “صبرة”.
تصدّى زكريا للإستعمار بقلمه حتى وهو في قبضة لاذعه. أصدر مع رفاقه في حزب الشعب، عندما كانوا في سجن الحراش، صحيفة “البرلمان الجزائري” في 18 آب من العام 1939، وكانت تعتبر هذه الصحيفة عُمق برنامج حزب الشعب، الّذي كان يتضمّن تأسيس برلمان جزائري، لكنها توقفت في 27 آب من نفس العام بعد منعها من الإصدار من قبل سلطات الإستعمار.
في كلوت، أستاذ بجامعة نانسي الفرنسية، ذكر في مقاله بنشرية “المشرق الإسلامي”: تسهم مفدي زكريا في تأسيس صحيفتين سريتين لحزب الشعب الممنوع، وهما “الوطن” و “العمل الجزائري”، التي كانت تتبنى أفكار الشبان المناهضين للإمبريالية.
“وامتطى مذبح البطولة معراجًا”.. مفدي زكريا ورموز السجون
منذ عودته من تونس، لم تنقطع مطاردة الاستعمار لمفدي زكريا الذي عاتبه بمقالاته الساخرة وقصائده اللاذعة. حُكم عليه بالسجن في كل مرة كان ينادي فيها الجزائريين إلى التحرر أو كان يمدح المقاتلين. في أول نوفمبر من عام 1954، بدأت الثورة الجزائرية المسلحة، وأصبحت كالشعلة المقدسة لا يمكن لفرنسا إخمادها، تمامًا كما فشلت في كبح حماسة مفدي زكريا الذي اصبح زائر دائم للسجون الفرنسية في الجزائر. شهد أحد رفاقه الذي تم إعدامه على المقصلة، فكتب قصيدة جميلة بعنوان “الذبيح الصاعد” في زنزانة رقم 9 في سجن بربروس ليلة 18 يونيو من عام 1956، تقول فيه:
وامتطى مذبح البطولة معراجا
وتوجه نحو السماء، يطلب المزيد
في شهر أبريل من عام 1956، حُكم على مفدي زكريا بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وتم مصادرة جميع أمواله. تعرّض لتعذيب على يد سلطات الإستعمار، وصف معاناته خلال فترة احتجازه في سجن بربروس في عام 1955 بقصيدة “زنزانة العذاب رقم 73″، نُشرت في ديوانه “اللهب المقدس”.
الشاعر الذي استلهمت الزنزانة رقم 73 المظلمة أنّ يُقول
عندي سجنان، أحدهما مفتوح والآخر مُغلق
أيها السجن، هل تمتلك قوة الفتح أم الإغلاق؟
هل يجلبني الجلاد بسوطه اللامتناهي؟
هل يحتوي السجان النار القائدة لأُشبع جفونها؟
مفدي زكريا “سفير الجزائر بلا أوراق رسمية”.. تداوي آثار التعذيب
في أبريل من عام 1959، غادر مفدي زكريا السجن لكن على جسده وفي نفسه آثار سياط القمع تنطبعان، فاتجه إلى المغرب ليعالج آثار التعذيب النفسية، تحت إشراف النفساني الفرنسي “فرانس فانون” الذي كان يرتبط بجبهة التحرير، ثم انتقل إلى تونس، وبالرغم من تعبه الناتج عن سبع سنواتمن بين قضبان السجن، عاد هذا الشاعر لينثر شعره في صفحات صحيفة “المجاهد” الأسبوعية المناهضة للاستعمار.
في عام 1961، كانت الجزائر تنطلق بسرعة إلى استعادة استقلالها بعد أكثر من 130 عاما من الاستعمار القاسي، حيث جند مفدي زكرياء ابنه صلاح لينضم لصفوف المقاومة ضد فرنسا. بدأ مفدي نفسه بجمع دعم من العالم العربي لقضية التحرير، بعد أن كلفته الجبهة بتمثيل الجزائر في مهرجان الشعر العربي في دمشق، حيث وصفته صحيفة التحرير التونسية بأنه “سفير الجزائر غير المعتمد”.
كان مفدي زكرياء سفير الثورة الجزائرية، حيث بقي يتنقل بين تونس والمغرب حتى بعد استقلال الجزائر. لم يهدأ إبدا شغفه بالشعر حتى بعد انتهاء الصراع في جبال الجزائر، إذ كتب قصيدة ضخمة بعنوان “إلياذة الجزائر” تتناول تاريخ البلاد منذ العصور القديمة وحتى الزمن الحديث.
منفى تونس.. انطفاء نار الشاعر الذي أقسم بأن تحيا الجزائر
واضطر الشاعر الجزائري إلى النضال من أجل تحرير بلاده، ولإحياء توحيد المغرب العربي منذ الثلاثينات من القرن الماضي. في عام 1934، ألقى مفدي زكرياء القسم التاريخي خلال مؤتمر “طلبة شمال أفريقيا” في تونس، مؤكدا إيمانه بالله والإسلام والقرآن وسيدنا محمد، وبوحدانية شمال أفريقيا كوطن واحد لا يجوز التفريق فيه.
احتفظ زكرياء بالقسم الذي أداه دائما في قلبه، وظل وفيا له حتى أغضب الرئيس الجزائري هواري بومدين في عام 1975 بسبب مواقف اعتبرها مفدي تهديدا لوحدة شمال أفريقيا، حينها قرر الشاعر الجزائري الاختياري للمنفى في تونس. في مقدمة ديوانه “ظلال الزيتون” كتب:
“لتونس الحبيبة، التي ألهمت فكري وغمرت روحي نور وحقيقة وجمالا، للشجرة المباركة التي أنارت قلبي بزيتها، للفتاة التي تسكن أحلامي وتثري مصادر إلهامي: تحيا تونس الحبيبة”.
في 17 أغسطس 1977، توقفت النيران التي اشتعلت لأكثر من نصف قرن على تلك الأرض، وأعلنت صحيفة “لوموند” الفرنسية عن وفاة الشاعر الجزائري مفدي زكرياء، الذي غادر عالمنا بسكون، مشتركا أمنيته المقدسة بأن تحيا الجزائر.