واقع الإعلام و”البودكاست” في الجزائر

Photo of author

By العربية الآن



واقع الإعلام و”البودكاست” في الجزائر

microphone on fabric background of flag of algeria close-up; shutterstock id 1307679433; purchase_order: ajanet; job: ; client: ; other:
البودكاست في الجزائر كأي وسيلة إعلامية الآن لا يعكس واقعنا ولا يلبي احتياجات الجمهور (شترستوك)
لم يعد يخفى على أحد أن الإعلام يمر بحالة فوضى جعلته يفقد بوصلته الحقيقية التي وُجد من أجلها، لا أعني هنا أن الإعلام في العالم محايد أو يقف مع أحد ضد آخر، فليس هذا ما أود الخوض فيه، ولكننا جميعًا عندما ننظر لنوعية البرامج التي أصبحت تُطرح وتُموّل بالملايين في وسائل الإعلام، لا نجد سوى ما يمكن أن نصفه بالضجيج العابر.. برامج بزخم، لكنه زخم بلا أي وزن أو قيمة، مجرد أصوات تتداخل دون أن تترك أي أثر يُذكر.

في هذا الخضم، أمسك هاتفي، أتجوّل في مواقع التواصل الاجتماعي، وأقلب بين الصفحات هنا وهناك، أراقب ما تعرضه لنا تلك المواقع عنوة، وبشكل مستمر، فأتفاجأ بالكثير مما يستحق الكتابة عنه، وعلى الرغم من محاولاتي المتكررة للهروب من الحديث عن المؤثرين هروبي من الجدال العقيم، فإن شيئًا ما يدفعني للعودة والكتابة عن بعض المواضيع التي تتعلق بهم من زوايا مختلفة.

لماذا تلجأ وسائل الإعلام إلى الاستعانة بمؤثرين ليكونوا وجهًا إعلاميًا أو ضيوفًا على شاشاتها، ثم تنتقد انتشارهم عبر الوسيلة ذاتها؟ ولِمَ غدت نسب التفاعل والسعي نحو الربح المادي هي الجوهر على حساب جودة المحتوى وقيمته؟!

هذه المرّة أجد نفسي أمام مقطع من لقاء بودكاست مع الطالب الحاصل على أعلى معدّل في الجزائر في شهادة التعليم الثانوي، ما لفت انتباهي كان السؤال الذي وُجِّه إليه: “هل أنت مسلم؟”.. سؤال قد يبدو للبعض بسيطًا؛ لأنه جاء نتيجة لجدل سابق أُثير حول الطالب نفسه بعد أن سأله صحفي في أحد اللقاءات عقب إعلان النتائج ما إن كان يحفظ القرآن، لتكون إجابته بالنفي، وكأن التفوق في الجزائر مقترن بذلك، أو أن السائل اعتاد أن يكون كل متفوّق بالضرورة حافظًا للقرآن بناء على نماذج لمتفوّقين في سنوات سابقة.

هذا السؤال لم يكن سوى حلقة في سلسلة طويلة من الأسئلة السطحية التي يعاني منها ضيوف البرامج، ما جعلني أقف محبطة وعاجزة عن التعبير؛ لأنه يعكس مستوى الرداءة الذي وصل إليه بعض هواة السبق الصحفي أو متصيّدي الترند، وأولئك الذين يسعون للشهرة بأي طريقة كانت.

عندما أصبحت قنوات الإعلام تلهث وراء الأرقام هي أيضًا، أصبحت توظّف الأقل كفاءة، حتى إنها أصبحت تقع في فخّ تقديم برامج لا تحترم عقل المشاهد، فالإعلام نفسه الذي ينتقد ظاهرة المؤثّرين، ويتحدث عنهم في برامجه، يمنح هؤلاء فرصة الظهور عبر قنواته، سواء كمقدمي برامج أو ضيوف أو محللين لظاهرة التأثير نفسها، التي أصبح معظم المؤثرين يهربون من اسمها ليصفوا أنفسهم بـ “صانعي محتوى”، ولن أتفاجأ لو تحولت كلمة “صانع محتوى” هي الأخرى في يوم من الأيام إلى تهمة تستوجب الهروب منها.

ولعل السؤال الأهمّ الذي يحتاج إلى إجابة مقنعة هو: لماذا تلجأ وسائل الإعلام إلى الاستعانة بمؤثرين ليكونوا وجهًا إعلاميًا أو ضيوفًا على شاشاتها، ثم تنتقد انتشارهم عبر الوسيلة ذاتها؟ ولِمَ غدت نسب التفاعل والسعي نحو الربح المادي هي الجوهر على حساب جودة المحتوى وقيمته؟، ولِم أصبح من الهيِّن التضحية بأصحاب الشهادات وخريجي الإعلام رغم مؤهلاتهم، فقط من أجل منح مؤثر ما فرصة للظهور عبر برامج بمحتوى سريع الاستهلاك، بلا أي قيمة تعليمية أو ثقافية حقيقية؟!، برامج تركّز فقط على إثارة الجدل بتناول مواضيع شخصية وسطحية هي الأخرى؟!. ولعل أغلبنا يعلم الإجابة عن كل هذه التساؤلات، إلا أن طرحها المستمر يسلط الضوء على ظاهرة أصبح من الصعب التعتيم عليها.

البودكاست في الجزائر، وكأي وسيلة إعلامية الآن، لا يعكس واقعنا، ولا يلبي احتياجات الجمهور الجزائري، خاصة بعد الاعتماد المتزايد على بعض مؤثري وسائل التواصل

لا يمكنني وأنا أتحدّث عن الإعلام والمؤثرين إلا أن أعرج على ظاهرة البودكاست، التي اجتاحت الساحة الإعلامية في الفترة الأخيرة، ولأن سماع البودكاست أصبح جزءًا مهمًا من يومياتي، وعلى الرغم من أنني أنتقي ما أسمعه جيدًا، فإن ما يحزنني هو أن هذه المنصة التي يفترض بها أن تكون مبتكرة ومميزة، أصبحت عرضة للاستهلاك والاستغلال والتقليد السطحي، فقد أصبح من السهل الآن أن تقدم نفسك كمحاور، كل ما تحتاجه هو ميكروفون، وضيف يجلس أمامك ويسرد لك ولنا بالساعات قصصًا عن حياته قد يكون نصفها غير حقيقي، ناهيك عن آرائه الشخصية التي تفتقر إلى العمق والتحليل، كما لا ننسى التقليد الأعمى لبرامج بعينها دون أي ابتكار أو تجديد.

والبودكاست في الجزائر ليس بمنأى عن هذه الظاهرة، شأنه شأن العديد من وسائل الإعلام الأخرى، فهو الآخر لم يكن محصنًا من الانزلاق في فخ التقليد؛ فعلى قلة أصحاب البرامج المفيدة، فإنه -كأي وسيلة إعلامية الآن- لا يعكس واقعنا، ولا يلبي احتياجات الجمهور الجزائري، خاصة بعد الاعتماد المتزايد على بعض مؤثري وسائل التواصل، الذين أصبحت برامجهم على المنصة نسخة طبق الأصل عن برامج أخرى، تتسم بالنمطية بشكل مثير للاستهجان.

فالأمر ليس مجرد تقليد للأفكار فحسب، بل صار نسخًا للأسلوب والحوارات، ولأن لا شيءَ جديدًا يقدمونه سوى حياتهم التي لا تهم أحدًا، فإننا نجدهم يستضيفون أصدقاءهم المؤثرين ليتحدثوا عن جوانب شخصية وعاطفية خاصة، أو عن مشاكلهم وحروبهم التي لا تنتهي في مواقع التواصل.

وهنا قد يتبادر إلى أذهان بعضنا السؤال: كيف تتحول حياة الآخرين التي من المنطقي أنها لا تهم سوى أصحابها إلى حلقات تجذب المتابعين، وتجعلهم يجلسون خلف شاشاتهم لساعات طويلة من أجل الاستماع إلى تفاصيل دقيقة في حياة هؤلاء المؤثرين، أو للتعرف على فضائحهم التي أصبحوا يفتخرون بأنها كانت سببًا في ظهورهم أو انتشارهم.

من وجهة نظري على الإعلام أن يتحلّى بالشجاعة، ويتوقف عن منح الفرص لأصحاب التسلية العابرة من المؤثرين، وأن يستثمر بدلًا من ذلك في أصحاب الشهادات والخبرات الحقيقية

ولعل الإجابة لا تكمن في الفضول فحسب، بل أيضًا في أن حياتهم وحتى أحزانهم أصبحت أقرب لمادة ترفيهية يجد البعض فيها نوعًا من التسلية، والهروب من الواقع وأخبار القتل إلى فضاء فيه مجموعة من الذين وجدوا أن المحتوى الوحيد الذي يجيدونه هو إثارة الجدل، حتى وإن كان ذلك على حساب خصوصياتهم وحياتهم الشخصية.

ولكن ما يخفى على هؤلاء المؤثرين هو أنّ ثمة خيطًا رفيعًا يفصل بين تحويل حياتهم بأفراحها وأحزانها وفضائحها إلى مادة للتسلية والاستهلاك السطحي دون أي فائدة، وبين تقديمها بطريقة تجعلها مصدرًا حقيقيًّا للإلهام. وإن استمر الحال على ما هو عليه فإننا سنكون أمام موجة من البرامج المكرَّرة التي تلاحق الترندات، وتتناول الحياة الشخصية، وتركز عليها بشكل درامي دون أي رسائل ذات قيمة.. برامج تنحدر بمستوى الإعلام إلى درك من الركاكة والسطحية، ما سيجعلنا نفقد الأمل للأبد في رؤية إعلام قادر على تقديم محتوى ثريّ وملهم.

لذا -من وجهة نظري- على الإعلام أن يتحلّى بالشجاعة، ويتوقف عن منح الفرص لأصحاب التسلية العابرة من المؤثرين، وأن يستثمر بدلًا من ذلك في أصحاب الشهادات والخبرات الحقيقية، وأن يتوقف عن الركض الدائم وراء التقليد وما يرضي الجمهور، وإلا سنكون أمام إعلام مشوّه الذوق بلا قيم، إعلام يبدو كأداة تسويقية في أيدي هؤلاء.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.